الليبرالية ليست كما يتصورها البعض حياداً بين جميع الرؤى والمواقف، وكأن على صاحبها أن يتخذ موقفاً سلبياً أو لا أدرياً من الحياة، ويترك الآخرين يحددون له مصيره ومصير مجتمعه وبالتالي مصير الإنسانية. . هذه الصورة وإن كان من حق أي إنسان أن يتخذها لنفسه، إلا أنها لا تمت بصلة لليبرالية، فالاعتراف بحق الآخر في الوجود والتفكير المستقل لا يمكن أن يعني أن تحرم نفسك كليبرالي من أن يكون لك أنت أيضاً موقفك الخاص ورؤيتك المستقلة للحياة، والتي قد تتفق فيها مع آخرين أو لا تتفق وتظل وحدك فرداً فريداً في بيئة تحترم فرادة الفرد، ولك بالتأكيد أو عليك أن تدافع عن رؤاك ومواقفك بكل ما تملك من قوة، بالطبع وفق شروط الحياة الليبرالية.
المجتمع الليبرالي أيضاً ليس كما يتصور البعض ساحة مستباحة، أو بيئة تفتح صدرها لكل التوجهات حتى تلك التي يمكن أو تستهدف أن تدمرها من داخلها، كما لو كانت كائناً حياً يفتقد لجلد يحميه من الميكروبات وعوامل الطبيعة، فنحن نرى حتى الحلزون الرخو يعيش داخل قوقعة تحميه وتبقي على حياته، وإلا انقرض مع ما انقرض من كائنات، فالسماحية الليبرالية لا ترحب بالتأكيد بالتوجهات والممارسات التي تقتل هذه السماحية، بل تواجهها بكل ما أوتي المجتمع من قوة، والأمر هنا أشبه بلعبة رياضية مثل كرة القدم، فهي تسمح للاعبين بممارسة مهاراتهم بكل حرية، لكن ذلك يتم وفق شروط مصحوبة بعقوبات تحفظ للعبة كيانها، وتبقي على الحرية التي يتمتع بها الجميع في ممارسة اللعبة، وتصل هذه العقوبات إلى حد الحرمان المؤقت أو النهائي من ممارسة اللعبة، هكذا يصح القول أنه ليس من الليبرالية وإنما من الحماقة أن تسمح أو تحتضن توجهات تدمر الليبرالية وتستبدلها بديكتاتورية أو فاشية.
الليبرالية ليست بالطبع مذهباً أو أيديولوجية، لكنها حرية فكر ونظام حياتي مجتمعي وسياسي واقتصادي، لذا فهي لا تحتاج فقط لحرية الفكر والاقتناع بالنسبية في تقييم الصواب والخطأ على ضوء تعدد الخيارات البشرية، لكنها تحتاج أيضاً لاستعداد نفسي يجعل السماحية التي يجب أن يتصف بها الليبرالي تلقائية وطبيعية وغير متصنعة أو متكلفة غصباً، ويتأتى هذا للإنسان جزئياً بالتربية الليبرالية منذ النشأة، كما يتطلب تكويناً نفسياً تلعب البيولوجيا دوراً لا يستهان به فيه، وربما كانت هذه الجزئية هي العنصر الأكثر استعصاء في قضية نشر الليبرالية، تماماً كما أن التعصب لا ينتج فقط عن مقولات فكرية، بل يحتاج لاستعداد بيولوجي تلعب فيه الغدد الصماء والمعادلة الهرمونية للإنسان دوراً خطيراً ربما يحتاج من العلماء إلى المزيد من الدرس والبحث.
الليبرالية والعلمانية دائراتان منفصلتان، فليس كل ليبرالي علماني، وليس كل علماني ليبرالي. . العلمانية تعتمد العلم كمنظار ترى منه حقائق الحياة وكمنظم لعلاقاتها، وقد يتبنى هذا من يعتنقون أيديولوجيات أو نظريات شمولية سلطوية، أما الليبرالية فهي رؤية تدرك نسبية حقائق الحياة، فلا تعتقد بحقائق مطلقة، وإن كان صاحبها لابد وأن يكون له رؤيته الخاصة للعالم، والتي لا تجرد أي رؤى أخرى من المصداقية، ما لم تكن معادية لأسس الليبرالية القائمة على الحرية الفردية ورشادة الإنسان الفرد، فقد نجد من هو علماني ليبرالي، كما نجد من يحمل صفة واحدة منهما دون الأخرى، وإن كانت الليبرالية تحتاج إلى قدر من العلمانية يخلص الفرد من وهم المطلقات، ليدرك النسبية والتغير المستمر في الحياة وعلاقاتها ومفاهيمها.
لا أرى تعارضاً بين من يتحدثون عن “العَلمانية” بفتح حرف العين، وبين ما أعتنقه من “عِلمانية” بكسر حرف العين، فإذا كانت “العَلمانية secularism” تعني الاهتمام بالعالم المادي، فإن العلم والعلم وحده هو الأداة التي نستطيع بها أن نفهم هذا العالم والعلاقات الطبيعية بين مكوناته، كما تمكننا من إضفاء بعض الاتساق على ما يشيع فيه من عشوائية وعبثية، لذا أفضل ما يتضمنه مفهوم “العِلمانية” بكسر حرف العين من انتساب للعلم في وضوح وصراحة، تقف بقوة في وجه عشرات القرون من الأوهام والخرافات التي خلقها الإنسان لنفسه بنفسه.
من موقعي الليبرالي لم يكن من الممكن وأنا الناقد الشديد للأوضاع في عهد مبارك وما قبله ألا أناصر الجماهير التي تهتف للحرية، كما لم يكن هناك مبرر لعدم تصديقها فيما تهتف من أجله غير أفكار وتحليلات سابقة لي ترى غير ذلك، لكن قناعتي بها لم تصمد أمام جئير الجماهير طلباً للحرية والكرامة الإنسانية، علاوة بالطبع على إيماني بالشباب وكفري بأجيالنا الخانعة الفاشلة. . هذا هو ما جعلني منذ يوم 26 يناير 2011 واحداً من الثوار، أبذل في سبيل الثورة كل ما أستطيع من جهد، حتى بدأت ملامح الانحراف تظهر مبكراً، وأحذر منها أيضاً مبكراً، حين رأيت الإخوان المسلمين يهيمنون على الوضع، ويذهب الجميع تحت جناحيهم، ويتعاملون معهم وكأنهم طلاب ذات الشعارات التي رفعتها الثورة. . كان الخطر والخطل جلياً منذ البداية، لكن لم يكن أمامي عندها غير الالتزام بالصبر وطول الأناة، فطريق الثورة في أي مكان ليس نزهة أو رحلة مخططة مسبقاً، وعلينا أن نخوض التجربة ونتعلم جميعاً من أخطائها، لكن بعدما حدث في انتخابات مجلس الشعب، وبدأت أنياب الليث الذي كنا نظن أنه يبتسم في الظهور، واستمرار من سموا أنفسهم ثواراً في التعلق بهوامش مثل الانتقام من رموز عهد مبارك، والعداء الذي قد يكون أو لا يكون مبرراً للمجلس العسكري، وكأن وطنهم لم تختطفه أشد التيارات ظلامية، كان لابد لي من أن أتخذ موقفاً أكثر مناسبة للمرحلة من النقد، وهو أن أتوقف، ثم أتراجع بضع خطوات، ومع استمرار الثوار (كما يسمون أنفسهم) في ذات النهج الفوضوي والأحمق، وجدت نفسي في النهاية لا أستطيع أن أضع نصب عيني غير الوطن والشعب، الذي صار الآن بأمس الحاجة لمن ينقذه مما ورطناه جميعاً فيه، فالوطن ملكنا جميعاً وبالأولى ملك الشباب، لكن هذا لا يعني حريتنا في إحراق أو تدمير ما نملكه. . عندي أن المؤمن الحقيقي بالثورة من أجل الحرية هو من يقوِّم مسيرتها إذا إنحرفت، ومن يعرف أين يتجه وأين يتوقف، فالثورة ليست حجراً نقذفه في اتجاه واحد حتى لو أدي إلى اصطدامه برأس أو قلب مصر.
القفز مباشرة من الأحداث إلى نظرية مؤامرة خلفها والبدء بعدها في البحث عن حيثيات هو مرض عضال لا أدري كيف يمكن للشعب المصري الشفاء منه، والصحي والصحيح أن نفهم الأحداث وفق ما يبدو من ظواهرها، فإذا ما ظهرت خلال التدقيق والتحقيق دلائل تقودنا إلى طريق آخر كان مخفياً، فإن الحديث عندها عن مؤامرة يكون منطقياً ولا تثريب عليه. . بالطبع أهم عناصر ترويج نظرية المؤامرة هو حالة الكذب والتزوير التي تغمر كل مناحي حياتنا، والتي تدفع الناس آلياً لإهمال ما يبدو ظاهراً والبحث عما خفى، بالطبع بالإضافة إلى الرغبة الدائمة في الهروب من الأسباب الحقيقية التي غالباً ما تديننا، والاتجاه إلى إلقاء التبعة على أطراف خارجية، وهو المنحى الذي لا نجده في المجتمعات الليبرالية، حيث ترتبط الحرية في ذهن الفرد بالمسئولية، فيكون الإنسان الذي يمارس الحرية في خياراته مستعداً لتحمل مسئولية ما يترتب عليها، فلا ينزع لإلقائها على أي جهة، بخلاف مجتمعات الخنوع والانقياد، التي لا تعرف شجاعة اتخاذ القرار وتحمل نتائجه.
لدينا مثال جيد على الفارق بين ما تشيعه الأفكار والتقاليد الليبرالية في المجتمعات الغربية مثلاً، وبين تلك الثقافات والنظم العتيقة التي تتصور في نفسها الفضيلة ومكارم الأخلاق، في حين نفتقد فيما نرصده لها من سلوكيات ومواقف عملية أي إشارة حقيقية لهذه الفضائل المدعاة، فالتزوير أمس وأول أمس واليوم وما سيكون غداً في أي انتخابات مصرية ليس مرتبطاً بشخص حاكم أو نظام حكم، لكن يمارسه كل قادر عليه، بغض النظر عن موقعه وانتمائه السياسي، بداية من كبير العائلة والعمدة في الريف. . هو آفة الإنسان المصري الذي يفتقد لقيمة الأمانة واحترام القانون ضمن أولويات قيمه، وإلى ارتباطها بمفهوم الشرف، الذي يقتصر في ثقافتنا على الأمور الجنسية فقط، وقيام موظفين بالمطابع الأميرية المصرية مثلاً بتسويد البطاقات لصالح مرشح الإخوان المسلمين في الانتخابات الرئاسية، هو واحد من المؤشرات التي تفضح تأثير هذه الجماعة في الشعب المصري، وهو تأثير أبعد ما يكون عن الأخلاق والتدين الحق كما يفهمه الأسوياء، فهل كان التأثير أو النتيجة المتحققة في أخلاقيات الأتباع ستكون أسوأ لو كان هؤلاء أفراد في عصابة إجرامية وليس جماعة تدعي أنها تدعو لطاعة الله ورسوله؟
القضية بالنسبة لشعوب الشرق ليست قضية إسقاط نظام ظالم ومستبد، بقدر ما هي تأسيس مجتمع ليبرالي ينقل الشعوب إلى درجة متقدمة من التحضر والإنسانية، فالحقيقة التي علينا الاعتراف بها أن المشكلة الحقيقية ليست في مبارك أو غيره كأشخاص سيئين علينا أن نأتي بمن هم أفضل منهم، كما لن تكون في رئيس الجمهورية الجديد وجماعته إرهابية النشأة والأيديولوجيا، ولكن في الشعب وما يقبله من نظم حكم وعلاقات سياسية وحياتية، فالشعب الحر يجبر حاكمه على سلوك يتناسب مع الحرية، والعكس بالعكس، فليس من المتصور أنه لو أتيح مثلاً لواحد من طغاة الشرق الأوسط حكم دولة أوروبية أن ينحو في حكمه ذات النحو الذي سلكه في حكم بلده الشرق أوسطي، فأي شخص حاكماً كان أم محكوماً لا يستهدف بسلوكه وأدائه غير النجاح، فمن يصير طاغية أو لصاً أو ما شابه لا يفعل ذلك غراماً بهذه الصفات المرزولة، هو يتبناها لأنه يراها هي التي تكفل له النجاح في البيئة التي يعيش فيها، لذا تعيد بيئات الشرق إنتاج الطغاة وإن تبدلت ملامحهم وشعاراتهم وأزيائهم التي يتخفون داخلها، فلنركز إذن على ما نقبله من نظم وعلاقات، وسوف يسارع من يريد لنفسه النجاح بتبنيها.
العلمانية الليبرالية هي نهاية التاريخ، والشعوب التي تفشل في تبنيها، لا تفعل أكثر من التوقف أو التحجر عند مستوى أو مرحلة تاريخية وحضارية تم تجاوزها، فتحكم على نفسها بالسقوط من عربة الزمن، والانفصال عن قاطرة الحضارة الإنسانية، فهل تستطيع شعوب الشرق الأوسط النجاح فيما فشلت فيه خلال عقود وقرون طويلة مضت، أم ستسقط بثوراتها مرتدة إلى أعماق سحيقة في هاوية الماضي البدائي؟!!
الولايات/ المتحدة- نيوجرسي
[email protected]