خضرعطا المنان
[email protected]
أولا : تظل قناعتي الشخصية انه لا توجد صحافة في ( سودان الانقاذ) ..صحافة بكل تلك المعايير المعروفة والثورة التكنولوجية الهائلة .. صحافة تأخذ في الاعتبار رسالتها السامية ليس كسلطة رابعة فحسب وانما كرقيب حقيقي وراصد لسلوك الدولة وممارسات القائمين على أمر السلطة ومرآة تعكس واقع مجتمعها المحيط بها وضميره الحي وصوته الجهوري حينما تخفت كل الأصوات .. وليس صحافة مدجنة يطبل الصحافيون فيها للنظام ويمارسون الدجل والنفاق وتزييف الحقائق وتزيين كل قبيح والباسه ثوبا أنيقا زاهيا وبهيا حتى لو كان ثوبا ممزقا أو خرقة بالية ! .. وذلك – لعمري – هو السقوط في أسمى تجلياته .
ثانيا : سوء الطالع وحده قادني مرغما لمتابعة حلقتين تلفزيونيتين عن واقع الصحافة في السودان والأزمة التي تتخبط فيها .. كانت الأولى في ( المحطة الوسطى ) بقناة ( الشروق) ليلة الاثنين 16 يوليو 2012 والاخرى معادة صباح الثلاثاء 17 يوليو 2012 بقناة ( النيل الأزرق ) تحت مسمى ( حتى تكتمل الصورة ).
ظل المتحدثون في الحلقتين – جميعهم من طبالي الانقاذ وان بدا بعضهم بخلاف ذلك – يؤكدون على أن ما تعانيه الصحافة السودانية اليوم هو نتيجة حتمية للأزمة الاقتصادية العالمية مع تعدد جهات النشر دون رابط بينها أو اتحاد يجمعها اضافة الى ارتفاع سعر الورق وكذلك الكم الهائل من الصحف اليومية ( 53 صحيفة تقلصت أخيرا الى 33 ).
ان ما يحز في النفس ويبعث على الحزن والأسى هو هذا التهافت على تبرير مضحك وهروب فاضح من جوهر الأزمة وحقيقتها حيث ابتعد المتحدثون ( من مجلس صحافة واتحاد صحفيين وناشرين وملاك صحف وكتاب صحفيين) ابتعدوا كثيرا عن قول الحق والحقيقة ولجأوا – كعادة الاسلامويين خلال كافة أزماتهم المتناسلة – الى عدم تسمية الأشياء بمسمياتها ومخاطبة جذور الأزمة .
ركز هؤلاء المتحدثون وكرروا في الحلقتين على أن الأزمة التي تعيشها الصحافة السودانية اليوم هي جزء من تداعيات الأزمة الاقتصادية التي تلف العالم دون الاشارة بالطبع لأزمة السودان الداخلية والتي لاعلاقة لها بأي (عالمية) والتي توجت مؤخرا بما أسماه النظام بالاجراءات التقشفية والتي جاءت – بغباء ودون وعي – في توقيت حرج بالنسبة للاسلامويين الانقلابيين وكانت بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس لدى قطاعات واسعة من الشعب السوداني ( حقل تجارب الانقاذ ) الذي هبت طلائعه الثائرة وفي مقدمتها الطلاب والطالبات مسنودين بمنظمات شبابية حرة تعمل بعيدا عن ( الديناصورات ) وتبحث عن مستقبل آمن لها ولوطنها المختطف منذ أكثر من 23 عاما ولا يزال .
وعن الحلول لأزمة الصحافة السودانية تفتق ذهن المتحدثين عن ضرورة رفع قيمة الاعلانات وتكوين اتحاد للناشرين وتقليص عدد الصحف اليومية الى 10 فقط .. وأشاروا عرضا وبصورة خجولة الى الرقابة القبلية و( الخيار والفقوس ) في التعامل مع صحيفة دون أخرى وكذا قرارات المصادرة والاغلاق والهيمنة الأمنية والاعتقالات التعسفية وملاحقة زملائنا ممن ضاقوا ذرعا بمايجري للصحافة والصحفيين في ظل هذا النظام القمعي والذي تخيفه حتى مجرد قصيدة ( كما حدث مع صديقي الراحل الدبلوماسي الشاعر سيدأحمد الحردلو في التسعينات ) .. كما تجاهل المتحدثون تماما منع عدد من الزملاء من الكتابة واغلاق الصحف و تشريد عدد كبير منهم وتركهم في العراء يواجهون وحدهم عبء حياة لا تطاق في سودان الانقاذ .. كل ذلك دون التطرق – ولو عرضا أيضا – لجوهر وحقيقة أزمة الصحافة في السودان وواقعها المهين .. وهي في الواقع أزمة أخلاقية في المقام الأول أبطالها – هم في الغالب – هؤلاء الجالسون على قمة الامبراطورية الصحفية في السودان والتناطح العبثي بينهم ( دون ذكر اسماء وهي معروفة لكل متابع ).. انها أزمة اخلاقية تتجلى في التأهيل الأكاديمي الردئ والضعف المهني والتردي المريع الذي صاحب مسيرة الصحافة السودانية منذ استيلاء الاسلامويين على السلطة .. ترد في كافة مجالات الحياة والصحافة واحدة من تلك المجالات ووجه من الأوجه المنهارة التي تلوثت بصورة امتدت لتشمل اخلاقيات المجتمع وقيمه ومثله وثوابته الدينية والاجتماعية وما نتج عن ذلك من سقوط سياسي مريع وبيع ذمم ومتاجرة بالدين وأكل مال اليتامى وديوان الزكاة والغرق في مستنقعات الكذب والنفاق والتضليل وإلهاء الناس بتوافه الأمور وساقط القول وإشغالهم باللهث وراء لقمة العيش مما أحدث فجوة حتى بين أبناء البيت الواحد ممن يلعق أحذية الأنقاذ ويسبح بحمدها ليل نهار ومن يرفض الذل والخنوع والهوان و الاستسلام لهذا الواقع المرير .
هكذا فعلت بنا الانقاذ وبشعبنا وبوطننا ولا تزال .. وذلكم هو واقع الصحافة السودانية اليوم .. ولكن ثورة عارمة في الطريق الآن لانهاء تلك المهزلة وقطع دابر الملهاة الانقاذية الكريهة والى الأبد .