الأحداث الدائرة حالياً في ولاية جنوب كردفان ومحاولات نظام المؤتمر الوطني المتكررة بجعل أهلنا المسيرية دروع بشرية فيها ، تحملنا للوقوف على هذه الظاهرة من كافة جوانبها بالتحليل الموضوعي وربط فصولها ببعضها وكشف نوايا النظام وراءها والتي تتعارض كلياً مع مصالح أهلنا المسيرية وبقية قبائل تلك المنطقة .
فعقب مسرحية الانتخابات الأخيرة التي استحوذ فيها حزب المؤتمر الوطني الحاكم على كافة المقاعد النيابية والولاة بجانب رئاسة الجمهورية ، قدّم الدكتور نافع علي نافع – عرّاب نلك العملية – تنويراً شاملاً بثته وسائل الإعلام الحكومية تحدث فيه عن الإستراتيجية التي انتهجها حزبه للحصول على تلك النتيجة ، ومن ضمنها أنهم قد قاموا منذ مدة طويلة بعملية تشريح شاملة لكافة الدوائر الجغرافية في البلاد حددوا خلالها العناصر التي كانت تحوز على تلك الدوائر ومواقعهم الحالية من ناحية قربهم أو بعدهم من النظام .
وللمتتبع لهذه العملية يلحظ بالفعل أنّ معظم رموز الأحزاب التقليدية في البلاد التي كانت تحوز على الدوائر الجغرافية في الأقاليم على وجه الخصوص قد تم استقطابهم في صفوف النظام الحاكم إما أعضاء منتسبين في المؤتمر الوطني أو حلفاء له في السلطة .
وهذه الإستراتيجية قد تم اعتمادها منذ الوهلة الأولى لوصول هذا النظام للسلطة ، حيث كانت بدايتها عبر ما عُرفت ( بالبيعة ) والتي يأتي فيها زعيم كل قبيلة أو عشيرة بقومه لأداء البيعة للرئيس وفق الصيغة المعهودة ، وبهذه الطريقة تم استقطاب معظم رجالات الإدارة الأهلية وشيوخ ونظار القبائل في مختلف أقاليم البلاد وتم منحهم امتيازات شملت سيارات ( جيب ) فارهة ومبالغ مالية وخلافها ،وقد تم التركيز في هذه العملية على مناطق كردفان ودارفور بشكل أكبر عن سواها من أقاليم البلاد باعتبارها مناطق نفوذ تقليدية لحزب الأمة التي كان يكتسب منها الأغلبية النيابية في البرلمان القومي ، وقد نجحت هذه الخطة في استقطاب عناصر مهمة وفاعلة في هذا الحزب من أمثال الناظر حريكة عزالدين ومحمد داؤود الخليفة وعبد الله مسار وآخرون كثر.
وعند اندلاع الأحداث في دارفور تم تفعيل هذه الإستراتيجية لتتوافق وخدمة أهداف النظام في هذا الاتجاه حيث تم توظيفها في اتجاه إفشال مرامي الثورة الوليدة في الإقليم بحرفها عن مسارها وتوجيهها لتكتسب طابع النزاع القبلي بين مكونات الإقليم بدلاً عن الصراع مع الحكومة المركزية ، وقد أتت أُكلها بإنشاء مليشيا الجنجويد التي مضت تقاتل بالإنابة عن الحكومة لتنتهي الأوضاع في الإقليم إلي ما عليها الآن ؟!
وفي نيفاشا حينما تأزم الأمر بين وفدي التفاوض حول منطقة أبيي عاد النظام لذات الإستراتيجية عبر الاستعانة بالمسيرية ووضعهم في الواجهة للتصدي للأمر بدلاً عن الحكومة بتحويل الأمر لقضية نزاع بين قبائل المسيرية بمجاميعهم ودينكا نوق الذين يمثلون فرع من فروع قبيلة الدينكا .
وبحماسة العرب وطيب السجية وقع أهلنا المسيرية ( الطيبين ) في الفخ ، فيما القضية في أساسها تعتبر قضية نزاع على الحدود بين دولتين مستقلتين لكل دولة حكومتها المناط بها رعاية مصالح شعبها وليس العكس ، وتتحمل حكومة المؤتمر الوطني الوزر الأكبر فيها باعتبارها الطرف الحاكم الذي قام بالموافقة على أمر التقسيم من أساسه قبل الاتفاق على حدود الدولة الوليدة ، وبالتالي يلزمها ما يترتب على هذا الأمر من ترسيم حدود وخلافها . أما المسيرية فمثلهم مثل كل فرد من بقية أجزاء السودان لا شأن مباشر لهم بالتصدي لهذا الأمر ، أللهم إلا من باب الاستعانة بمشايخهم في الأمور الفنية المتصلة بالحدود التاريخية لسكان مكونات المنطقة المعنية لا غير ، وهي مهام استشارية وليست قتالية ، أما بقية المهام فتعود للدولة بصفة إلزامية .
وهذا الأمر ينسحب كذلك على النزاع الدائر هذه الأيام في مناطق جنوب كردفان والتي تتشابك فيها عدة خيوط ، بعضها تتصل بالحقوق المشروعة لسكان الهامش من أبناء القبائل في تلك المنطقة والذين تشكل قبائل النوبة والمسيرية الفئات الغالبة فيهم بجانب بعض القبائل الأخرى من حوازمة وبرقو وخلافهم ، والمسيرية في هذا سيّان مع النوبة وكل سكان المنطقة في المطالبة بحقوقهم من المركز والتي تم اكتسابها عبر اتفاقية نيفاشا ، فيما يتصل بالمشاركة في الثروة والسلطة في الدولة الجديدة بعد انفصال الجنوب .
أما الجانب من النزاع المتصل بدولة الجنوب فذاك محله منابر التفاوض بين الدولتين لحل القضايا العالقة بينهما من مخلفات اتفاقية نيفاشا ومن ضمنها موضوع الحدود كما أوضحنا آنفاً ، ويجب عدم خلط الأمور وإقحام المسيرية ككباش فداء في لحظة ضعف حكومة الخرطوم وعجزها عن توفير الحلول الناجعة لهذه القضية .
أما المسيرية فعلى زعاماتهم أن ينظروا بروية إلي حيث أين تكمن حقوقهم ومصالحهم في هذه القضية وانتهاج النهج العلمي الصحيح لتثبيت تلك الحقوق والتي ليس من بينها تعريض مناطقهم للحرق وخسارة شيبهم وشبابهم في حرب لا طائل لهم منها سوى تعطيل مصالحهم الرعوية التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بامتدادهم الطبيعي في دولة الجنوب ، لا سيما وأنّ اتفاقية نيفاشا كما هو معلوم قد منحتهم حق الجنسية المزدوجة في دولتي الشمال والجنوب وهو امتياز لم يحظ به أحدٌ قط سواهم من سكان الدولتين وكذلك منحتهم نسبة من عائدات النفط المستخرجة في مناطقهم ومنحتهم حرية التنقل للرعي عبر الحدود المشتركة لكلتا الدولتين وفق ما كان سائداً كمواطنين بالأصالة وفق الجنسية المزدوجة كما أسلفنا ، فأين إذاً تكمن مصالح المسيرية يا تُرى ؟.
بقلم شريف ذهب