بسم الله الرحمن الرحيم
الحج رحلة للدنيا وليس للآخرة (رؤية فلسفية)
إشراقة عباس
طالما ظننت مثل كثير من السودانيين بل والمسلمين – وبعض الظن إثم – إن الحج عبادة يختم بها المسلم حياته ويغسل بها ذنوبه ويكفر بها عن سيئاته ، التي ظل يغترفها طوال حياته لذلك يجعلها في آخر عمره بعدما يشيب ويكبر حتى لا تفسده المفسدات ويلقى الله مبرءا من كل خطيئة وإثم.
وقد كرس هذا الظن عندي ممارسة وأقوال المجتمع المسلم من حولي في السودان وخارجه إذ أن أغلب الذين يحجون الى بيت الله الحرام من كبار السن ، ويتفكه السودانيون مع بعضهم البعض قائلين للشخص الذي أكمل تعليمه وتزوج وأنجب وحج بأنه لم يبق له في الدنيا غيرأن يموت لانه قد فعل كل شيء في حياته . والغريب إن الرجال لا يأخذون معهم زوجاتهم للحج بل أمهاتهم وأن الزوجة يحججها أبنها عندما يكبر بدوره .
بل لقد سمعت أحد المسئولين في الهيئة العامة للحج يقول إنهم عندما ذهبوا إلى السلطات السعودية للتباحث في شأن الحج كما هو الحال سنويا وجد المسئولين السعوديين منزعجين ومتخوفين من أن يؤثر مرض أنفلونزا الخنازير في مجيء الحجاج السودانيين إلى المملكة ، وكيف أنهم أخذوا يشرحون لوفد الهيئة الترتيبات والتدابير التي فعلوها لسلامة الحجاج ، فما كان من هذا المسئول السوداني إلا أن طمأنهم وقال لهم إن الكثير من السودانيين يتمنون الموت في الحج والدفن بأرض مكة والمدينة المقدستين. كما سمعت أحد الحاجات من الكبيرات في السن تقول إننا صرنا نسمع بحاجة أمل وداليا وناريمان وسوسن في إشارة الى أن صاحبات هذه الاسماء من النساء الصغيرات لان أسماء النساء في الماضي كن عائشة وكلتوم وخديجة .
وظل هذا ظني وإعتقادى حتى هممت بالحج وحججت والحمدالله . وكنت أول ما هممت بالحج أن أخذت أتدبر ما جاء وورد فيه من آيات واقوال وأراء السلف واللاحقين ، وفوجئت وكأننى لا أعلم بأن الحج فريضة تجب على الفورعلى المسلم المستطيع مرة واحدة فى العمر، ويأثم من أخرها للعام الذي يليه، فوقع فى خلدى أنها رحلة فى أول عمر الأنسان وما دامت فى أوله فهى رحله للحياة وليس للموت وهي لإعمار الدنيا ونفع المجتمع وليس لصاحبها الحاج فحسب . وأخذت أتأمل فإذا بالدعوة إلى التقوى تتكرر في آيات الحج خاصة في سورة البقرة ، كأنما تقول لنا أننا يجب نقرن الحج بحياتنا الدنيا طالت او قصرت ، وبالناس والكون جميعا .
وطفقت اتدبر ما أقرأ ، فإذا بسورة الحج تمتلىء بالحياة الدنيا وتضج بصخبها حيث تبدأ بالدعوة للناس بالتقوى والاستعداد للآخرة وتحذيرهم من هول يوم القيامة “يا أيها الناس أتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم يوم ترونها تزهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد ” وتسترسل بقية الايات في الحديث عن رحلة خلق الانسان من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة ثم نخرجكم طفلا … ” وهكذا حتى أرزل العمر. وكيف أن الله يحي الأرض الهامدة بالماء وكيف تنبت من كل زوج بهيج .
وبقية الآيات تتحدث عن إيمان البعض وعملهم الصالح وجزاءهم عند الله وكفر وخسران البعض وعملهم السيء وعذابهم . ويستمر ضجيج الحياة الدنيا بالحديث عن سير الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين والنصارى والمجوس والمشركين وكيف أن الله يفصل بينهم يوم القيامة وكيف أن كل ما في السموات والأرض والجبال والشجر والدواب يسجدون لله سبحانه .
ثم يأتي الحديث مباشرة عن الحج “وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا أسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الانعام فكلوا منها وأطعموا البائيس الفقير” وتدبرت الآيات فوجدتها تدعوا الى صلاح الأعمال والتمكين لدين الله في الارض والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتنتهي السورة بدعوة المسلمين للمجاهدة في الله حق جهاده وإقامة الصلاة وإيتاء الذكاة والاعتصام بالله . وأخذت أتأمل فإذا بخطبة حجة الوداع بمسجد نمرة ” …إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ، ألا هل بلغت اللهم فأشهد” تكاد الحياة تقطر منها قطرا .
وحججت فاذا هى رحلة للحياة لأنها للتفكر والتأمل والتعلم والتزود بالتقوى ، فجميع مناسك الحج إذا تاملناها نجدها تعلمنا كيفية التعامل مع الكون وخالقه وجميع المخلوقات بعقل وإتزان وأدب وإحترام بدءاً من منسك الإحرام ( لبيك اللهم لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك ) ثم الإنسان مع أخيه الأنسان ( الحج اشهر معلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال فى الحج..) فلبس الأحرام والتساوى فيه وعدم التزين والتعطر توضح للناس إن الناس بدون المظاهر والغنى والتجمل بالملابس والعطور يكونوا متساويين ولا فرق بينهم ، لذلك يجب أن يتعاملوا مع بعضهم البعض يوميا بدون تعالي وتكبر ويتعاونوا على البر والتقوى ويعمروا الأرض بتقوى الله ويمكنوا لدينه . وعدم التقرب من النساء والأزواج وعدم عقد القران وما الى ذلك تعلمنا أن التمتع بما أحل الله يجب أن يكون بحكمة وتدبر واتزان ووفقاً لما شرعه الله بدون فوضى واسراف .
ولقد تعجبت فى البدء من توسع وتطويل الفقهاء فى تناول وشرح آيات تحريم صيد البر وعدم قطع الشجر وكيف أنهم فرقوا فى ذلك بين العشب والشجر اليابس والرطب والذى ينبت فى الخلاء والذى يسقى بالماء وعدم إعانة الصائد حتى بالإرشاد لمكان الحيوان وعدم أكل الحيوان الذي تم أصطياده ودهشت اكثر لوصفهم لرمى الجمرات وعنتهم في تحديدهم لحجمها وطولها وكيف ترمى.
غير أننى تأملت فى ذلك فوجدت ان تحريم صيد البر والبحر وعدم إتلاف الشجر والعشب والنباتات تعلمنا أن على الإنسان أن يحافظ على البيئة من حوله ويأخذ منها فقط ما يكفى حاجته بدون ان يؤذى الحيوانات والأشجار لأنهم أمم امثالنا ، يجب ان نتعامل معهم بعقل وإلا سيفسد الكون وسيكون أول من يتأثر بهذا الفساد هو الأنسان، فالجمرات يجب ان تكون صغيرة وان تكون من جنس الأرض حتى لا نحاول أن نهدم الجبال أو التلال أو التراب من أجل الحصول على حصى الجمار ويجب أن ترمى في مكانها المحدد تحديدا .
ففى الحج نتعلم إن الكون جميعه واحد الإنسان والحيوان والنبات حتى الجماد . وهكذا علينا أن نتعلم ان الحج درس مكثف للتوحد مع الكون ويجب ان يكون تعاملنا فى الحج هو ذات تعاملنا مع الاشياء فى حياتنا اليوميه بعد الحج . وهكذ كل ركن وشعيرة ومنسك وأدب نفعله فى الحج يقابله سلوك ومنهج يجب ان نسلكه فى حياتنا الدنيا .
ويوم الوقوف بعرفة (والحج عرفة) كما تعلمون ، طفقت أتأمل وأتسآل لماذ يجب أن يقف الناس جميعا بعرفة في وقت واحد في هذا المكان الضيق وكأنهم يحشرون حشرا هل الوقوف بعرفة يشبه الوقوف بين يدي الله في يوم الحشر؟ والجميع يرجون ثوابه ويخشون عقابه وهم شعث غبر ؟ وهل يشبه هذا اليوم نهاية رحلة الحياة الدنيا التي تشبه نهاية رحلة حياة الانسان والتي يجب أن يبدأها بالاحرام والتهليل لله والتلبية له ثم تحليل ما أحل وتحريم ما حرم وكيف أنه ينبغي أن يعمل وفقا لمنهج الله ويستشعر وحدانية الكون ؟ .
وتصل قمة أعمال الحج فى الوقوف بعرفة حيث على الجميع أن يحتشدوا فيها حشدا لتبدأ بعد ذلك رحلة العودة الجماعية لتطبيق وتنفيذ ما تعلمناه منذ لحظة الاحرام حتى الوقوف بعرفة ، فيبدأ النزول من قمة عرفة بالإفاضه الى مزدلفة والمبيت بمنى وهى أيام أكل وشرب وذكر. والجميع عليهم أن يكونوا مجتمعين فيها ويمكثوا مع بعضهم البعض ثلاثة أو اربعة أيام يتحللون مما حرم عليهم ، ويعيشون ظروف إستثنائية ويتقاسمون موارد محدودة وغير متاحة للجميع، ويتعايشوا وفقا للأدب الذي تأدبوه خلال رحلة الحج ويصبروا على بعضهم البعض ويتحملوا الضيق الذي يكابدونه في فجاج مزدلفة ومنى . وتأملت أيام منى فوجدت أن الحال في منى يشبه العمل بعد الامتحان ، فهنا يظهر أثر السلوك الجيد والقويم والقيم التي أكتسبناها مما يعني أنها تشبه فترة تجريبية وفترة إختبار ومن ينجح فيها يكون قد نجح في الامتحان ويكون موفقا في حياته وطريقه الذي يسلكه ويؤدي الى الاخرة ،
وبعد أن تعلمنا فى الحج كيف نتعامل فى حياتنا مع كل شئ بدءا من خالقنا حتى الحصاة الصغيرة ، علينا أن نعود إلى ما بدأناه ، الى حياتنا الدنيا ، ويكون الزاد فيها الذي أخذناه من رحلتنا إلى الحج . فأذا ما صبرنا على المكاره وحللنا الحلال وحرمنا الحرام وطبقنا ما ما علمنا الله أياه في الحج مع أنفسنا والناس والحجر والجماد والشجر وكل البيئة حولنا نكون قد وفقنا إلى ما يرضي الله عنا وسيكون حجنا مبرورا وسيكون سعينا في الحياة الدنيا مبرورا بالتالي وسيشكرنا الله عليه ، ولن يكون له جزاءا إلا الجنة لأن ( الحج المبرور ليس له جزاءا إلا الجنة ) والله أعلم ، ونعوذ بالله سبحانه وتعالى أن نقول عليه ما لا نعلم . وإن أحسنت فمن الله وإن قصرت فمن الشيطان ومن نفسي