إستقراء لصراعـات القبائـل الإسـلامية، حالة صلاح قوش
التيجاني الحاج عبدالرحمن
[email protected]
خلفية:
تشير كثير من القرائن أن إقالة المهندس صلاح عبدالله (قوش) من موقعه كرئيس لجهاز الأمن والمخابرات، وتعينه كمستشار لرئيس الجمهورية للأمن الوطني، ليست بالإجراء الإداري/التنظيمي الطبيعي، وإنما هي تعبير أو إنعكاس لحركة صراعات تكتونية بطيئة تحت طبقات جهاز التنظيم السياسي الحاكم بالسودان (المؤتمر الوطني). وعلى الرغم من مرور هذه العملية بهدوء تشوبه الريبة والشكوك، مصحوب بإنتقال سلس لقيادة الجهاز الأمني لمحمد عطا، خلفاً لصلاح، غير أنه من الصعب للمراقب للأحداث في السودان بشكل عام، والحركات الإسلامية بشكل خاص، القبول بهذا الهدوء الغريب، خاصة لحركات السمة الأبرز لصراعاتها عبر التاريخ، إن إنتقال السلطة منها إلى غيرها، أو حتى داخلها، لا يمر إلا فوق بحر من الدماء. وبالتالي فإن إستمرارية ماحدث بنفس الإيقاع الذي بدأ به، أمر يبعث على الحيرة والقلق في آن واحد(؟!).
ومع ذلك؛ فإن تحليل ما حدث يلزمنا بالبحث عن أسباب موضوعية، والأرجح أنها ذات صلة عميقة بـ (1) طبيعة القرار نفسه؛ (2) توقيته؛ (3) تركيبة الكتل المتصارعة داخل المؤتمر الوطني ومستوى الإحتكاك بينها؛ (4) مسار معادلة الصراع داخل الحزب الحاكم ونتائجها النهائية المحتملة؛ (5) وأخيراً تأثير ذلك على الخارطة السياسية في السودان وآفاق التحول المتوقعة في بنية وشكل الدولة حملاً على تبعات هذه الخطوة.
ومهما يكن من أمر، فإن إتخاذ مثل هذا القرار، في مثل هذه الظروف، وضد رجل مثل صلاح قوش بوزنه الثقيل داخل النظام الذي إكتسبه من تطويره لجهاز الأمن والمخابرات حتى أصبح جيشاً مستقلاً يدين له بالولاء، بالإضافة لقنواته الخلفية المفتوحة مع وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) والغربية بشكل عام، مسألة ليست بالأمر الهيّن للذين إقدموا على هذه الخطوة.
وحتى نضع القارئ معنا في السياق الذي نفكر فيه، لابد أولاً من رسم صورة تمكّننا من رؤية مسرح الأحداث بوضوح كافي، قائمة على بناء واقعي مصحوب بتفسيرات نظرية تلقى الضوء على أسس الصراع وأبعاده المركبة، ومن ثم بناء “مصفوفة” للصراع الدائر حالياً، في محاولة لقراءة تأثيرات ونتائج قرار إزاحة صلاح قوش من موقعه في الأفق المنظور.
الإطار العام الذي يدور فيه الصراع:
إذا إنطلقنا من إنقلاب الإنقاذ كنقطة تأسيس لوضع معالم الإطار العام للصراع، سنجد أنفسنا محاصرين في حلقة الحركة الإسلامية وعلاقاتها بالسلطة، مع أن الفرضية الأساسية تقر إن الأزمة عامة في شكلها ومضمونها، وتمتد جذورها إلى أبعد من ذلك في التاريخ بكثير، والحركة الإسلامية وإنقلابها مجرد إمتداد. لكن في كل الأحوال لابد من مقولة تأسيس ضمن إطار تاريخي محدد، مهما تباينت الآراء حولها.
أغلب التحليلات تنتهي بصورة أو أخرى إلى أن الأزمة السودانية بكل تفريعاتها، هي أزمة مشروع وطني، أو بناء وطني، تجلى فشله في أنماط الصراعات التي إجتاحت السودان منذ عشية إستقلاله وحتى اللحظة التي نقف فيها حالياً. وتكاد أن تكون هذه المقولة العنصر الثابت في مسار التاريخ السياسي المعاصر للسودان يتم التعبير عنها بأوجه ومستويات مختلفة. بينما المتحوّل يتمثّل في تجلّيات الصراع من خلال مظاهر عديدة مصحوبة بتطور تصاعدي في أجندته السياسية عبر الحقب التاريخية المختلفة، بدء من عدم إستقرار النظم السياسية، إنحلال الروابط الإجتماعية، التدهور الإقتصادي… إلخ من العوامل التي قد تكون غير مرئية. ويبدو الآن أن تراكم مصفوفة المتحولات قارب أن يصل مع هذا النظام لنهايته العظمي، بإعتبار إن محصلة وصول كل مظاهر الأزمة العديدة (المتحولات) إلى نهايتها العظمي، يعني وصول الأزمة في كلياتها لقمتها.
داخل هذه المصفوفة، وفي الحقبة التي نعايشها الآن، يمثّل الصراع داخل الحركة الإسلامية نفسها، محوراً أساسياً، وذلك لإعتبارات إرتباط الحركة الإسلامية (جناح المؤتمر الوطني) بالسلطة وما قد يولّده ذلك من تأثيرات مباشرة وغير مباشرة على العوامل المذكورة آنفاً. وبالتالي؛ نحن مطالبين بتوصيف وتحليل الصراع داخل الحركة الإسلامية أولاً ومن ثم المؤتمر الوطني ثانياً ضمن سياق تفكير في الإطار العام للأزمة ـ كنتيجة أخيرة لآيلولة السلطة في الوقت الراهن إلى أحد أجنحة الحركة الإسلامية(المؤتمر الوطني) ـ من حيث أسبابه وديناميته الداخلية، وتوزيع الكتل والمصالح ذات الصلة التي تغذي الصراع، وصولاً لتحديد دقيق لبواعث وأسباب إقالة المهندس صلاح قوش وتبعاته.
تاريخياً تعود جذور الصراعات داخل الحركة الإسلامية إلى حقبة السبعينيات من القرن الماضي، في المواجهة التي تمت بين مؤسسي الحركة الإسلامية في السودان، صادق عبدالله عبدالماجد، ود. حسن الترابي، والتي نتج عنها إفتراق الرجلين، ومضي كلٍ منهما في طريق. تمحور الخلاف حول قضية بدت للوهلة الأولى كمسألة تكتيكية في خضم مواجهات الحركة الإسلامية ضد نظام النميري، غير أن الأيام اثبتت لاحقاً عكس ذلك، إذ أنها مثلت إنعطافة إستراتيجية في مسار الحركة الإسلامية وتاريخها السياسي وبنائها التنظيمي، كانت ثمارها الوصول بعد 12 عاماً للسلطة السياسية في السودان عبر إنقلاب الإنقاذ.
ظهر الخلاف الأول داخل الحركة الإسلامية بين الصادق عبدالله عبدالماجد والترابي في شكله العام حول منهجية وطريقة قيادة الحركة، ففي الوقت الذي فضّل فيه الصادق عبدالماجد طريقة التربية التقليدية المتحفظة والمغلقة للحركة الإسلامية، ذهب الترابي بإتجاه الإنفتاح على قطاعات شعبية أوسع، مع مرونة في طريقة التربية التنظيمية وتجنيد الأعضاء الجدد (أي الإتجاه نحو بناء تنظيمي أشبه ما يكون بالتحالف أو شراكات بين قطاعات عريضة من المجتمع في إطار تنظيمي موحد)، مؤسساً فيما بعد ما عرف بالجبهة الإسلامية القومية. ويسلط أحمد عبدالرحمن أحمد مؤسسي الحركة الإسلامية في السودان ووزير الداخلية إبان عهد نظام مايو، الضوء على طبيعة هذا الخلاف بقوله أن: “..الجهد التربوي للحركة الإسلامية في تحقيق تغيير ملموس وإنما لابد من السيطرة على الدولة وإستعمال سلطتها لبسط الدولة..” وهي وجهة نظر أقرب لموقف الترابي. (لقاء تلفزيوني في برنامج أسماء في حياتنا ـ سبتمبر 2009)،
الخلاف الثاني كان في نهايات 1999 فيما عرف بـ “المفاصلة” والذي عصفت بالترابي وجعلته يشرب من نفس الكأس التي سقاها لصادق عبدالله عبدالماجد. ونتج عنه ذلك قيام تنظيمين ـ إن لم يكن ثلاثة، إذا حسبنا حركة العدل والمساواة كناتج عرضي للمفاصلة ـ هما المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي. وما بين الخلافين (الأول في 1977، والثاني في 1999) مرت مياه كثيرة تحت جسور الحركة الإسلامية(!!). غير أن المعلم الأبرز في قراءة نتائج الصراع في الحالتين، الخلاف كان نقلة إستراتيجية غيرت مسار تاريخ الحركة الإسلامية في السودان ودفعت بها نحو آفاق جماهيرية أكبر، وصلت بموجبها إلى دست الحكم في الثلاثين من يونيو 1989، بينما الثاني مزقها إلى أكثر من جزء وهي في قمة عنفوانها وجبروتها وجعل كثير من الدماء تسيل في صفوفها. فإلى ماذا يمكن أن نعزي ذلك(؟؟) الإجابة تكمن في: (1) طبيعة وماهية الخلاف في الحالتين؛ (2) البيئة السياسية العامة في ذلك الوقت وفي الراهن؛ (3) الكتل التي دخلت الصراع وتركيبتها في الحالتين أيضاً.
(1) طبيعة وماهية الصراع في المرحلتين (1977 ـ 1999)، كان الصراع في المرحلة الأولى حول قضية ذات طابع فكري/سياسي دارت حول طريقة ومنهجية قيادة الحركة والموقف من التصالح مع نظام مايو ومسارات المستقبل، أدي لشق الحركة الإسلامية عمودياً حول موقفين متعارضين، الأول إحتفظ بالطريقة التقليدية للحركة الإسلامية المتمثل في منهجية التبشير والدعوى، مع موقف سياسي ضد نظام مايو وهو موقف الصادق عبدالماجد، والثاني إنفتاح الحركة والتصالح مع النميري وهو موقف الترابي كما أسلفنا القول. أما في المرحلة الثانية، فقد كان حول إدارة السلطة السياسية والمصالح أو المغانم ـ إن صح التعبير ـ وهو ما أعترف به الترابي نفسه بمرارة لا يُحكي عنها، في كتيب صغير حمل عنوان “الحركة الإسلامية: عبرة المسير في إثني عشرة السنين”. وفي ذات السياق يسجل د. الطيب زين العابدين إعترافاً مثيراً في لقاء له بموقع سودانايل بتاريخ 7 سبتمبر 2009، حين سئل عن مذكرة العشرة الشهيرة(؟)، أجاب:
“… الحركة الاسلامية بدأت تعتبر منذ مقدم ثورة الانقاذ ان اكبر انجازتها هو الاستيلاء علي السلطة، لكني اعتقد أن هذا الأمر غير صحيح فإستيلاء الاسلاميين على السلطة كان أسوأ شئ، وكان اغلبية اعضاء الحركة جزءً من السلطة وبالتالي اصبحت السلطة مكسباً لهم وللحركة واعتبروا ان السلطة هي اكبر انجاز للحركة الاسلامية ومن هنا جاء مصطلح “التمكين” وصدرت مجلة تحمل هذا الاسم وأثّرت السلطة على المسار السياسي، وبالتالي انقلبنا على الكثير من ثوابتنا وتقالدينا وتعاليم الدين نفسها بسبب السلطة، ونحن قبل الانقلاب كنا نتحدث عن الديمقراطية والحرية وبعد الانقلاب العسكريون اصبحوا معادين لنا وغابت الديمقرطية داخل اجهزة الحركة الإسلامية واصبحوا يتعاملون معنا بـ(التنوير) وهذا المصطلح نفسه عسكري وليس لك الحق في ان تناقش أو تعترض، وهذا أمر غريب في الحركة الاسلامية، وتنازلت الحركة عن افكارها وحتي في تنفيذ التعاليم الاسلامية فالمعارضون عذبوا وفصلوا من اعمالهم بالشبهات فقط، وهذا كان تنازلاً من التعاليم لأجل السلطة، حتى الفساد الذي ظهر كان بسبب نظرية “اموال السلطة هي اموالك”، وصار هنالك حرص كبير على السلطة والتمسك بها بأي ثمن…”. وبالطبع وما بين الخلافين فوارق كبيرة ونتائج مختلفة سنتعرف عليها لاحقاً.
(2) البيئة السياسية: والمعني بها الشروط السياسية العامة المحيطة، والداخلية الخاصة بالحركة الإسلامية. فالشروط العامة هي وضعية الحركة الإسلامية كمعارض لنظام النميري في ذلك الوقت، إضافة إلى محيط نظام عالمي وإقليمي منقسم إلى ثنائية قطبية تهيمن على خطاباته السياسية في كثير من دول العالم الثالث موجهات التفكير الإشتراكي والقومي العروبي في العالم العربي. أما الشروط الخاصة، فقد كانت الحركة الإسلامية في تلك الفترة وعلى المستوى السياسي والتنظيمي، تمر بلحظة تاريخية فارقة، إذ كانت تتلمس أول بوادر نضوجها، وتستشعر قوتها ووزنها ونمو خطابها السياسي على حساب القوى الأخرى داخل حلبة الصراع في السودان، فالقوى الطائفية ميتة، واليسار منهك من صراعاته مع نظام النميري. وقد كانت قراءة الترابي لهذه البيئة وشروط التطور الداخلية بالحركة، مقرونة بحدس سياسي لإتجاهات ومألآت مستقبل الحركة السياسية العامة في السودان بالفعل صحيحة ـ من زاوية موقفه كقيادي ـ عندما قرر إنفتاح الحركة الإسلامية جماهيرياً والسعي للتغلغل في أجهزة السلطة قبل الإستيلاء عليها، خلافاً لموقف صادق عبدالماجد. وتروي كثير من المصادر أنه وفي المصالحة الشهيرة عام 1977 وعندما إكتفت القوى الطائفية من كيكة المصالحة بمشاركة نظام النميري في الدولة والتنظيم السياسي(الإتحاد الإشتراكي)، مضى الترابي في نفس الإتجاه، لكنه أضاف مطالب خاصة به بدت بسيطة في مظهرها، إذ طلب من النميري السماح له ببناء المنظمات الشبابية الخاصة بالحركة الإسلامية في ذلك الحين (منظمة شباب البناء) ومؤسسة إقتصادية هي بنك فيصل الإسلامي والتي كانت أول مؤسسة إقتصادية للقطاع الخاص تنشأ بموجب قرار جمهوري. وقد مكنته هذه المؤسسات فيما بعد فيما من التغلغل في قاعدة المجتمع السوداني عبر المنظمات الشبابية والجماهيرية، وأتاح له بنك فيصل السيطرة على النظم الإقتصادية، مما مهد أمامه الطريق للسلطة في عام 1989.
أما البيئة السياسية في الوقت الراهن فتختلف، فالحركة الإسلامية حاكمة (كمؤتمر وطني)، والشروط العامة المحيطة تشهد قطبية واحدة على النطاق العالمي، داخلياَ ضعف للقوى المعارضة للنظام من أقصى اليسار إلى يمين الأحزاب الطائفية. بينما تعيش الحركة الإسلامية نفسها بشكل عام حالة تصدع في بنيانها على الرغم من مظاهر السلطة والثراء التي تبدو على أجنحتها المختلفة وعلى الأخص المؤتمر الوطني الممسك بزمام السلطة السياسية. والملاحظة الأهم والأخطر في طبيعة الإنقسام الأخير، فقد بدت فيه مظاهر التكتلات الإثنية، خاصة داخل المؤتمر الوطني. وقبل أن نمضي في تحديد الكتل المتصارعة، لابد من خلفية نظرية تفسر هذه الظاهرة، بمعني؛ تفسير تحوّل طبيعة الخلاف داخل الحركة الإسلامية في 1977 من خلاف فكري/سياسي إلى خلاف مصلحي مرتبط بغنائم السلطة مصحوب بتكتلات حول بؤر إثنية وقبلية ضيقة داخل التنظيم في 1999.
يعطي الجابري تحليلاً فريداً وعميقاً لهذه الظاهرة في نقد العقل العربي في الجزء الثالث العقل السياسي. وقد بنى رؤيته لكثير ماحدث ويحدث إلى الآن في التاريخ العربي الإسلامي من خلال الأدوار التي ظلت تلعبها مفاهيم “العقيدة”، “القبيلة”، و”الغنيمة” ـ [[ المعني بالعقيدة هو عامل الدين وتخصيصاً الدين الإسلامي، والغنيمة، المعني بها العامل الإقتصادي في شكله كنمط إقتصاد ريعي، والذي كان سائداً في تلك الفترة ولازال في معظم البلدان العربية والإسلامية، والقبيلة المعني بها العلاقات العشائرية وصلات الدم ]] ـ ويشرح بإسهاب تداخل هذه العوامل الثلاثة وتأثيراتها في العقل السياسي العربي والممارسة المرتبطة به، من خلال تجلياته ومحدداته، إذا كيف بدأت الدولة الإسلامية كدولة دعوة تلعب فيها العقيدة الدور المحوري مع عهد الرسول (ص) والخلفاء الراشدين بدرجة أقل، إلى دولة قبيلة من بعد وفاة الرسول (ص) وعبر الممالك الإسلامية المختلفة، يلعب فيها عامل الغنيمة (إقتصاد الريع الناتج من خراج الأمصار) الدور الرئيسي. وهو ما لخصّه أبكر آدم إسماعيل في “جدلية المركز والهامش: قراءة في دفاتر الصراع في السودان” بـ (( إنتصار قيم الثقافة العربية على الدين الإسلامي فيما يتعلق بجانب المعاملات على الأقل)).
وعندما نتعرّف على قيم هذه الثقافة المتشددة عرقياً؛ القائمة على نعرة التناصر والتعاضد بين القبائل الأقرب لبعضها تحت قانون [[ أنا وأخي على إبن عمي، وأنا وأخي وإبن عمي على الغريب ]]، بحكم شروط البيئة الصحراوية التي يتصارع فيها الجميع على مصادر الماء والكلاء الشحيحة، ومدى الحوجة لتكاتف الإقرباء، نتفهّم مدي التحوّل الكبير الذي حدث، بالإنتقال من دولة دعوة في عهد الرسول (ص)، إلى دولة قبيلة في الممالك الإسلامية المتأخرة منذ عهد معاوية بن أبي سفيان، وربما إلى اليوم. وهو ما يمكننا من صياغة مقولة بناءاً على هذه الملاحظة الهامة، وهي أن الحركات الإسلامية في السودان ـ وربما مناطق أخرى شبيهة ـ تمر بنفس التجربة التاريخية اليوم، وهي تنتقل تدريجياً من حركات تنطلق في بداياتها من إطار آيديولوجي عقائدي أشبه بنموذج دولة الدعوة، وعندما تصل إلى السلطة تبدأ مظاهر التحوّل إلى نمط أشبه بدولة معاوية (دولة القبيلة في إطار الغنيمة)، ـ [[ مع الوضع في الإعتبار بالطبع الفروقات بين “الغنيمة” لدي الجابري كما فسّرها في سياق التاريخ الإسلامي القديم كخراج الأمصار المأخوذ بقوة الفتح/الغزو، وبين عصرنا الراهن كما يفهمها أهل الإسلام السياسي كتراكم لمصادر ثروة الدولة التي يستحوذون عليها بنفس روح ومنطق الغزو والفتح ]] ـ ومن ثم تبدأ التكتلات العشائرية في الظهور كما حدث في سابق التاريخ الإسلامي (دولة بني أمية، دولة بني العباس، الدولة الفاطمية والعثمانية…إلخ). وبدخول عامل القبيلة تصبح القبائل الأخرى خارج هذه المنظومة أمصاراً يعود خراجها على أهل الحظوة. فهل خرجت الحركة الإسلامية في السودان من هذا المسار(؟؟). قبل الإجابة على هذا السؤال نقف عند عرض شيّق لأحد الكتاب، وهو محمد عبدالرحيم في مقال له بموقع سودانايل بتاريخ 6 أغسطس 2009 عن مصطلح التمكين، إذ يسأل ماهو التمكين (؟) ويجيب قائلاً:
” … كان للترابي قصب السبق في أسلمة كل تصرفات الدولة حقاً وباطلاً، وكان التمكين نحت خَـلـَـفِـه، فلقد كانت خطة النظام كالآتي :
– الجمع والاستئثار بكل أموال الدولة في أيدي قلة مضمونة ذات مصير مشترك .
– يترتب على هذا الاستئثار القدرة على بسط الرزق لمن يشاءون ومنعه عمن يشاءون .
– عندما يشعر الشعب بأنه لا يملك أي شيء في يده؛ سيضطر اضطراراً لمجاراة النظام أملا في الحصول ولو على الفتات .
– يستطيع النظام (عبر التمكين)، أن يربط مصالح كل سوداني به وكل القوى السياسية .
– سيضمن النظام قدرته على تحريك كل”الأرجوزات” التي يمسك هو بالخيوط التي يتلاعب بها كيفما يشاء.
– لن يحتاج النظام لاستخدام العنف؛ فمن يجد منه النظام تمرداً سيعاقبه بإمساك الرزق عنه.
– يستطيع البشير الترشح لأي انتخابات لأنه يعلم تماماً أنه يمسك بزمام كل ذي مصلحة مرتبطة بالمال العام .
– استطاع النظام تقسيم الأحزاب والحركات المسلحة؛ عبر رميه أمامها بعظمة التفاوض، وهو يعني منح مزايا مالية للبعض وهو متأكد من أن النتيجة الحتمية هي الانقسام (جراء الصراع حول من يتلقف هذه الأموال أولا )….”
من النص أعلاه، ما المعني بمصطلح التمكين الذي نحته الترابي وفسّره الكاتب بـ ” الجمع والاستئثار بكل أموال الدولة في أيدي قلة مضمونة ذات مصير مشترك” (؟) ومن هم هؤلاء القلة المضمونة ذات المصير المشترك التي من حقها الإستئثار بأموال الدولة(؟)، فإذا كانت في زمن الرسول(ص)، هم آل البيت والأقربين، والصحابة والذين هم أيضاً في حكم الأقربين، فمن هم في حالة نظام الإنقاذ(؟)، هل هم عضوية المؤتمر الوطني، أم دائرة أصغر داخل التنظيم نفسه، وما هي معايير إختيار هذه القلة، هل هي الولاء للتنظيم والفكرة أم هناك شروط أخرى إضافية (؟).
عندما نقارن هذه المقولة بالتاريخ الإسلامي نجد كثير من أوجه الشبه، غير أن القلة المشار إليها في المقال هي اليوم ليست كتلك التي كانت بالأمس(!)، فإذا كان الوصول لمواقع السلطة والثروة في الدولة الإسلامية الوليدة في زمن الرسول (ص) نسبياً يمكن القول أنه لم يكن خاضعاً لمعايير القرابة بالرغم من الواقع القبلي والعشائري السائد في الجزيرة العربية آنذاك، غير أنه وفي الممالك الإسلامية اللاحقة عادت القرابة وصلة الدم مرة أخرى كمعيار أساسي إن لم يكن الوحيد للوصول لمواقع السلطة، والتي دشّنها معاوية بن أبي سفيان عندما ولّى إبنه يزيد، وذلك ما قصده الجابري بمقولة التحول إلى (دولة تعيش في إطار القبيلة من الغنيمة، بمعني إن الوصول لمواقع السلطان وإمتلاك موارد الدولة من فئ وخراج كان يتم حصرياً في دائرة الأقربين من ناحية العشيرة). وتروى حادثة طريفة في هذا الصدد تقول أن معاوية عندما قرر تولية إبنه يزيد خلفاً له، دعاء كل وجهاء العرب وأحضر إعرابياً من البادية للمجلس وطلب منه الحديث، فقال الإعرابي: ” هذا أمير المؤمنين (وأشار إلى معاوية)، فإن هلك فهذا (فأشار إلى يزيد)، ومن أبى فهذا (فأشار إلى السيف)، فقال له معاوية لقد أبنت، وبايع القوم يزيد(!).
والملاحظ أن الحركة الإسلامية السودانية بدأت كحركة دعوة شاملة إستهدفت المجتمع السوداني وإنتمي إليها الكثيرين في زمن سطوة خطابها خلال نهاية السبيعنيات وحتى الثمانينيات(مرحلة سيادة خطاب القيم والأخلاق) وغربتها عن السلطة السياسية (الغنيمة)، وعندما إستولت عليها في 1989 (مرحلة التمكين)، بدات سريعاً مظاهر التحوّل داخلها على نفس النمط الذي حدث في دولة معاوية …. التحوّل إلى وضعية العيش في إطار القبيلة من الغنيمة داخل الدولة، وأصبحت تكرّس السلطة والثروة ضمن دائرة الممسكين بزمام الأمور داخل الحركة (المتنفذين) أو “القلة ذات المصير المشترك” بتعبير محمد عبدالرحيم، والذين بدأت تبرز ملامحهم وسماتهم الإثنية والعرقية بوضوح، إذ كانوا كلهم ـ وبلا إستثناء ـ من أبناء الشمال النيلي والوسط (البشير، الزبير محمد صالح، علي عثمان، عبدالرحيم محمد حسين، بكري حسن صالح، عوض الجاز، إبراهيم شمس الدين، صلاح قوش، نافع علي نافع، مصطفى عثمان إسماعيل، الزبير بشير طه، والقائمة تطول لتشمل عناصر أخرى غير مرئية في ساحة العمل السياسي المباشر). ولإستدراك طابع الصراع الإثني الجنيني داخل الحركة الإسلامية فقد كشفت عن ذلك الإنتخابات التي جرت داخل الحركة في تسعينيات القرن الماضي لإختيار أمين عام للحركة الإسلامية وقد إنحصر التنافس حينها بين الشفيع أحمد محمد والذي هو من أبناء دارفور وغازي صلاح الدين العتباني، وقد فاز الشفيع ولكن في ملابسات غامضة تم إعلان فوز غازي صلاح الدين مما أثار سخطاً كبيراً داخل أروقة الحركة الإسلامية حينها وقد تمت مقايضة الشفيع وترضيته بمنصب سفير السودان بإيران.
وإذا أمعنّا النظر في الخلفية الإثنية لهؤلاء المشار إليهم عاليه نجدهم إما من قبائل الجعليين أو الشايقية أوالقبائل المرتبطة بهاتين المجموعتين من دناقلة ومحس. وحتى هذه الدائرة الصغيرة أصبحت تعاني من التصدعات وإنقسمت لكتل أصغر حيث وقف الجعليين وحلفائهم خلف البشير، والشايقية خلف علي عثمان، وقد لخّص أحد الظرفاء إقالة صلاح قوش بأنها في نهاية التحليل ليست سوى (شكلة جعليين وشايقية). فهل هذا صحيح (؟).
التكتلات داخل المؤتمر الوطني:
لم تكن هناك بوادر صراع واضح المعالم بين الأطراف المختلفة داخل المؤتمر الوطني في بداية الأمر، إلا من بعد الخروج من مأزق المفاصلة التي قذفت بالترابي خارج أسوار السلطة. وقد تطلب ذلك من جميع الأطراف عملية تمشيط لأروقته الداخلية من (غواصات) الطرف الآخر وترتيب أوضاع القيادة، والتي قامت على أسس عرقية وجهوية بحتة، خاصة في معسكر المؤتمر الوطني، والذي عندما إستقرت الأمور داخله، بدأت بوادر الخلافات في الظهور من جديد. وقد إرتبط ذلك برواية الصراع الذي دار بين البشير وعلي عثمان، وهناك أكثر من رأي وتحليل، منها ما يري أن ذلك يرجع إلى صعود نجم علي عثمان المقبول لدى الغرب بعد التوقيع على إتفاقية السلام الشامل، والذي بدا من بعد التوقيع وكأنه الرجل الذي سيزيح من السلطة، وهو ما أثار مخاوف البشير من تكرار تجربة المفاصلة ضده هذه المرة. رواية أخرى ترى أن المسألة متعلقة بقضايا إستثمارات مالية، وهناك من يقول إن أموال البترول يتم تقسيمها بين (المتنفذين) في المؤتمر الوطني ومن بينهم البشير وعلى عثمان، والبشير إستخدم شقيقه وإحدى زوجاته كواجهة في إستثمار أمواله، وحدث إن قام شقيقه بالإستثمار مع ثري سعودي وفاحت رائحة فساد في العملية، فمرر صلاح قوش الوثائق لعلي عثمان، وقام الأخير بالضغط على البشير وحدث نتيجة لذلك تغييرات راح ضحيتها عبدالرحيم محمد حسين الذي غادر موقعه كوزير للداخلية مكرهاً أخانا لا بطل. وروايات كثيرة من هذا القبيل، والتي لا يمكن قبولها أو رفضها في نفس الوقت، لكنها تبقى كمصادر ثانوية مهمة للتحليل في ظل ضآلة المعلومات التي يمكن الحصول عليها، وصحتها أو كذبها يتحققان حين تبرز فيما بعد مؤشرات وأدلة تؤكد هذه الرواية أو تلك.
لكن عموماً يمكن القول أن الصراع ما بين البشير وعلي عثمان قائم على ركيزتين، سياسية وإقتصادية، وبصرف النظر عن صحة أو كذب أي رواية قد ترد، إلا أن المدخل الموضوعي في التفسير يستند على تجريد الظاهرة ووضعها في سياقها السياسي/الإقتصادي/الإجتماعي/التاريخي، وهو ما يجد أساسه في الإستعراض السابق لما أسميناه بـ “الإطار العام للصراع”، وبالتالي؛ مهما تعددت الروايات التي قد تقف كأسباب، فإنها لا تخرج من هذا الإطار. وعندما نقرن ذلك بتطور طبيعة الصراعات في التاريخ الإسلامي والحركات الإسلامية حديثاً وما إنتهت إليه في طبيعة التحول من مرحلة الدعوة(خطاب القيم والأخلاق) إلى العيش في إطار القبيلة من الغنيمة، وما يستلزمه ذلك من تضييق لدائرة الممسكين بمقاليد الأمور في نطاق القبيلة وخشم البيت تحت قانون (أنا وأخوي على إبن عمي، وأنا وأخوي وإبن عمي على الغريب). فإن أي مقولات قد تصلنا من شاكلة (دي شكلة جعليين وشايقية) تجد شيئاً من الموضوعية، ولا يمكن تجاهلها.
وعلى كلٍ، يمكننا مبدئياً تقسيم المعسكرات المتصارعة داخل المؤتمر الوطني، ومن ثم البحث عن أسباب لهذه التكتلات:
كتلة البشير:
تضم كلٍ من البشير، عبدالرحيم محمد حسين، بكري حسن صالح، نافع علي نافع، ومصطفى عثمان. كل فرد في هذه المجموعة لا يؤخذ لإعتباراته الشخصية، وليس لأن المصائب يجمعن المصابين، لكن طالما نحن نتحدث عن دور العامل القبلي، فإن هذه الصلة تكتسب بعداً إستراتيجياً في تكوين هذه المجموعة، حتى وإن كان على صعيد اللاشعور، إضافة للعوامل الأخرى. فهذه المجموعة خلفيتهم من الجعليين، المحس والدناقلة. أما العوامل الأخرى، فالبشير وبكري حسن صالح وعبدالرحيم محمد حسين، مهنياً عسكريين من القوات المسلحة وهو ما يربطهم داخل إطار هذه المجموعة، وقد كانت صلاتهم بالتنظيم الإسلامي ـ خاصة البشير ـ قبل الإنقاذ ضعيفة نسبياً، للدرجة التي أنكر الترابي معرفته بالبشير قبل الإنقلاب(!) ـ ربما لأسباب أمنية(!). إما نافع فهو كادر معروف بتاريخه السياسي في الحركة الإسلامية، وعندما صار محاضراً بكلية الزراعة جامعة الخرطوم، كان أول ما فعله عقب الإنقلاب، قام بإعتقال د. كامل إبراهيم زميله بالكلية وجاره بالسكن وأودعه بيوت الأشباح. نال تدريباً في باكستان أو ربما أفغانستان كما يقول أحد معاصريه في التنظيم الإسلامي. إما مصطفى عثمان إسماعيل، فهو أيضاً كان كادراً للحركة الإسلامية منذ فترة الجامعة بكلية طب الأسنان، بجامعة الخرطوم، وقد كان رئيساًَ للإتحاد العام للطلاب السودانيين في إنجلترا (واجهة الحركة الإسلامية وذراعها بالخارج)، وقد لمع نجمه بعد الإنقاذ، وتقلد مناصب عدة، بدأً بجمعية الصداقة الشعبية حتى وصل إلى منصب وزير الخارجية، وأخيراً مستشاراً للرئيس للشئون الخارجية بعد إتفاقية السلام الشامل. وتقول بعض الروايات الطريفة أن البشير يحب مصطفي عثمان “لوجه الله”، وأنه لسبب (ما) يتفاءل به كثيراً للدرجة التي خلع عليه لقب “المبروك”.
إذاً، ما الذي يجمع هؤلاء في كتلة واحدة داخل المؤتمر الوطني(؟) إذا إستثنينا عامل التقارب الآيديولوجي، بإعتباره ثابتاً سواء إن كان هؤلاء داخل المؤتمر الوطني أو الشعبي أو حركة العدل والمساواة، وبحثنا عن عوامل أخرى، فما هي الإحتمالات الأقرب(؟). في واقع الأمر، هذا يتطلب معرفة عناصر الخلاف بين هؤلاء والآخرين داخل المؤتمر الوطني، وهي جزئية تقل فيها المعلومات للحد الأدني، لكن أقرب التكّهنات تشير إلى أن المسألة متعلقة في جانب منها بالنفوذ السياسي التي وصلت إليه المجموعة الأخرى (مجموعة علي عثمان، أو مجموعة الشايقية السناجك)، خاصة صلاح قوش، من خلال إستغلاله لموقعه كرئيس لجهاز المخابرات والأمن الوطني لصالح مجموعته في خضم المعركة الداخلية، هذا من جانب، ولتأكيد ذلك، نشرت الشرق الأوسط تحليلاً لأحد الكتاب أقرب ما يكون لهذه الإستناج، ويقول: “… الإتجاه الثاني تمثل في تحديث جهاز المخابرات وأساليب عمله للقيام بأدوار عسكرية بجانب دوره الأمني، ولهذا الغرض تم توفير مخصصات مالية ضخمة من أجل إنجاز مهامه المخابراتية والأمنية، وبمؤازرة ذلك أنشا [يقصد صلاح قوش] إمبراطورية مالية وتجارية توسعت وتمددت في جميع الإتجاهات بحيث أصبح لها وجود في أهم مفاصل الأنشطة الإقتصادية والتجارية في البلاد. كما أنه عزز النفوذ السياسي للجهاز إلى حد أن معظم وزراء الدولة في مختلف الوزارات، كانوا في الأصل من العناصر القيادية داخل الجهاز، وأصبح صلاح قوش عملياً يمسك بزمام الأمور في العمل التنفيذي…” (طلحة جبريل، “قوش السوداني، إنقلاب قصر في الخرطوم أطاح برجل النظام القوي المعروف بعلاقاته الجيدة بالمخابرات الأمريكية” ، الشرق الأوسط، 21 أغسطس 2009، عدد 11224).
من جانب آخر، فقد مثل صعود نجم علي عثمان كرجل يعود إليه الفضل في الوصول لإتفاقية السلام الشامل مع د. قرنق، في مقابل ضعف موقف البشير خاصة من بعد قرار محكمة الجنايات الدولية، ومدى الحرج السياسي والدبلوماسي الذي أصبح يسببه للنظام كرئيس دولة مطلوب للمثول أمام محكمة تتهمه بإرتكاب جرائم حرب، وهي نقطة ضعف مؤلمة خصماً على الموقف السياسي للبشير ومجموعته. ويضيف نفس كاتب المقال وفي نفس العدد من الصحيفة مؤكداً ذلك في سياق تحليله لإقالة صلاح قوش ويقول: ” ينتمي صلاح قوش الى قبيلة الشايقية التي تقطن شمال السودان وأُعتبر وجود قوش إلى جانب كل من علي عثمان محمد طه نائب الرئيس السوداني وعوض الجاز وزير المالية الذين ينحدران من المنطقة نفسها، بمثابة هيمنة لهذه القبيلة على السلطة منذ أن إستولى الإسلاميون على الحكم في 1989 …”.
إذا تتضح لدينا الآن أبعاد الصورة لخلاف هذه المجموعة مع الآخرين، والتي تتلخص في جانبها السياسي بتمدد نفوذ المجموعة الأخرى(مجموعة السناجك) عبر الجهاز الأمني إلى كافة قطاعات الدولة، أو بالإحرى صلاح قوش وعلي عثمان ومن خلفهم الشايقية. عليه؛ لا نعتقد الآن أن البعد الإثني للموضوع لم يعد بالأمر الخفي في هذا الصراع، والذي يتم من خلال سيطرتهم على المفاصل الرئيسية للعمل التنفيذي بالدولة عبر صلاح. وهو ما يقوي مصداقية الخلفية النظرية التي أشرنا إليها آنفاً، بتحول الحركة الإسلامية من حركة دعوة وإصلاح إجتماعي في مراحلها الأولى، إلى حركة تتضاءل إلى تكتلات عرقية عندما تنتقل للسلطة السياسية نتيجة للصراع حول الغنيمة (دولة تعيش في إطار القبيلة من الغنيمة كما قال الجابري). وفي نفس الوقت يجيب على سؤالنا ما الذي يجمع هؤلاء(؟)، وبالتالي، فإن تكتل هذه المجموعة (أي مجموعة البشير، ما يجمعها هو الخوف من النفوذ السياسي المتنامي للمجموعة الأخرى، يغذيه في لا شعورهم دافع التكاتف القبلي ضد خصمهم اللدود، السناجك. ويزيد من أزمة هذه المجموعة، وفي نفس الوقت من ترابطها الداخلي، موقف البشير المتحرّج، والذي يتطلب في هذه اللحظة أن يقف في صفه أقرب الأقربين، سواءاً إن كانوا من أبناء قبيلته أو من تجمعهم معه روابط الخلفية العسكرية). فهذه المجموعة متماسكة داخلياً إلى الآن، تجمع العسكريين داخلهم الخلفية المهنية، والعلاقات العشائرية توحدهم كلهم، وذهبت خديعة المشروع الحضاري إلى زوايا النسيان تحت بريق السلطة والثروة الكاشف.
تمسك هذه المجموعة بخيوط كثيرة في السلطة، فالبشير هو الرئيس، نافع يسيطر على التنظيم السياسي، ويمسك بيده مفاتيح السيطرة على الجهاز الأمني، عبدالرحيم تقلد مناصب كثيرة إنتهت إلى وزارة الدفاع حالياً، بعد فضيحة صهره التي أجبرته على الإستقالة من وزارة الداخلية، أما بكري حسن صالح فهو أضعف الحلقات في السلسلة التي تربط هذه المجموعة لإعتبارات لا يسع المجال لذكرها.
ترتكز قوة هذه المجموعة في:
– نفوذها القوي داخل الجهاز السياسي (المؤتمر الوطني) من خلال نافع، والذي تقول المصادر أنه الآن بدأ في إستعادة سيطرته على الجهاز الأمني ليس من خلال المهندس محمد عطا، وإنما عبر نائبه المتوقع والذي تهمس الخرطوم بأنه أحد كوادر الإسلاميين المعروفة بجامعة الخرطوم في حقبة نهايات الثمانينات وبدايات التسعينيات، وتربطه بنافع علاقة قوية.
– الجيش من خلال البشير وعبدالرحيم محمد حسين وبكري حسن صالح ـ على الرغم من أن هذه السيطرة فيها قولان، لكن وكما ذكر أحدهم أن ضباط القوات المسلحة ومهما تفاوتت مواقعهم الآيديولوجية يساراً أو يميناً ففي نهاية المطاف يجمعهم ما يسمى بآيديولوجيا المؤسسة العسكرية أو العسكرتاريا ـ وبالتالي مهما ضعفت وتحللت علاقة هؤلاء الثلاثة بالقوات المسلحة، فستظل هذه الصلة التنظيمية العسكرية الخفية تربطهم بكثير من قواعد القوات المسلحة من ضباط وضباط صف.
كتلة علي عثمان:
تضم هذه المجموعة كلٍ من علي عثمان محمد طه، عوض الجاز، وصلاح قوش، وعلى الرغم من أن الأخير (صلاح) كان موقفه غامضاً في البداية، وقرأته كثير من الدوائر المتابعة للشأن السوداني كموقف مستقل في إطار الصراع داخل المؤتمر الوطني لعوامل مرتبطة بعلاقاته بالمخابرات الأمريكية، ونفوذه القوي داخل الجهاز، وما قد يمثّله ذلك من دافع يشجّعه للعب دور في الساحة السياسية. إلا أن إقالته من موقعه كشفت عن حقيقة إنحيازه لجانب هذه المجموعة (مجموعة علي عثمان). وهذه الكتلة، بالرغم من صغر حجمها البادي للعيان، غير أن لها إختراق عميق في تربة التنظيم الحاكم والأجهزة التنفيذية للدولة، تم عبر مراحل مختلفة وطرق ملتوية عديدة، كان جهاز المخابرات والأمن الوطني إحدي الأذرع الرئيسية في تنفيذها، بالإضافة لدور عوض الجاز بوزارة الطاقة والتعدين وتحكمه في عائدات البترول وكيفية التصرف فيها، ومؤسسات أخرى مرتبطة بصورة مباشرة وغير مباشرة بهذه المجموعة. وإذا قارنا موازنة القوى بين هذه المجموعة ومجموعة البشير، قبيل إقالة صلاح قوش، سنجد أنها كانت في موقف أفضل، ولنأخذهم فرداً فرداً:
علي عثمان: يمثل الرمز القيادي داخل هذه المجموعة بحكم عوامل كثيرة، أهمها تاريخه السياسي منذ إن كان طالباً بجامعة الخرطوم ورئيساً لإحدى دورات إتحاده، إضافة إلى دوره البارز خلال فترة الديمقراطية الثالثة كرئيس لكتلة المعارضة التي كانت تتزعمها الجبهة الإسلامية آنذاك، وموقعه في التسلسل القيادي للجبهة الإسلامية، وأدوار أخرى لعبها من بعد إنقلاب الجبهة الإسلامية وإستيلائها على السلطة، مما أهله سياسياً لإحتلال موقع الرجل الثاني بعد الترابي زعيم الجبهة الإسلامية القومية. ومعروف عن علي عثمان أنه رجل تنفيذي حركي وليس مفكراً، ويفتقر للكاريزما التي يمتلكها الترابي. من بعد المفاصلة في 1999، أصبح علي عثمان رجل النظام الأول، وعزز من موقعه القيادي الدور الذي لعبه في التوصّل لإتفاقية السلام الشامل مع د. قرنق كما أسلفنا القول. تتمثل نقطة الضعف السياسية في مسيرة الرجل في الدور الذي لعبه في عملية إغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا، كما تشير بذلك كثير من أصابع الإتهام التي وجهت له سراً أو علانية، ووضعته تحت رحمة ضغط وإبتزاز النظام المصري وآخرين، مما جعله يتوارى عن الأنظار لفترة. طفى خلافه مع البشير للسطح قبل إتفاقية أبوجا في 2006 بقليل في رحلته المشهورة لتركيا. وتشير المعلومات إلى أن ذلك الخلاف كان نتيجة لمواجهة تمت بينه وبين مجموعة البشير في قضايا متعلقة بفساد بعض عناصر مجموعة الأخير وتقسيم عائدات البترول، وضعفه أمام الضغوط الأوروبية والأمريكية وأشياء أخرى، آثر الرجل على خلفية ذلك الذهاب لتركيا وعزم العقد على عدم العودة. لكنه فاجأة الجميع بعودته للخرطوم(!)، وقد تسربت معلومات أن عودته تلك إرتبطت بصفقة سياسية عقدها مع بعض الدوائر الغربية كان شرطها الأساسي عودته للسودان للتوصّل إلى إتفاقية سلام مع جبهة شرق السودان وفي دارفور، مقابل إستثنائه من قائمة المطلوبين أمام محكمة الجنايات الدولية في جرائم حرب بدارفور. لذلك في طريق عودته مر على طرابلس وأبوجا قبل الخرطوم.
المثير في مواقف علي عثمان، إنه كان كلما أحاطت الملمات بالبشير، وقف إلى جانبه في المنابر العامة متقمصاً دور المدافع والمنافح عنه، غير أن كثيرون لا يصدقون مواقف الرجل، ويستندون إلى أن على عثمان الذي لم تردعه أخلاق في الإنقلاب على أستاذه الترابي، لن تقف أمامه أي موانع أخرى في أن يفعلها مع من هو أقل درجة في نظره وتاريخاً في الحركة الإسلامية، من أمثال البشير.
عوض الجاز الجاز: ليست هناك معلومات كثيرة متداولة عن الرجل، لكن معروف عنه إنه كان المسئول الأول عن التنظيم في الجبهة الإسلامية القومية (سابقاً) وبعد الإنقلاب أصبح المهيمن على الجهاز الأمني الخاص التنظيم (أمن الثورة)، ثم لاحقاً صار وزيراً للطاقة والتعدين. وبالتالي أصبح عوض الجاز هو الشخص الوحيد في السودان الذي كان يعلم على وجه التحديد، حجم عائدات النفط وطبيعة العقود المبرمة، وفي أي بنوك يتم توريد هذه العائدات، وفي حسابات من من المتنفذين، وكيف تتم تسوية هذه المسائل مع الشركاء الآسيويين. لذلك عندما كان السودانيين يعلقون ساخرين بقولهم “إن عوض الجاز عندما ذهب لوزارة المالية أخذ معه مفاتيح وزارة الطاقة”، إنما يعكسون واقع حقيقي، والملاحظة التي تدعم هذه المقولة، هي أن الجاز والزبير بشير تبادلاً المواقع فقط، فذهب الزبير من المالية للطاقة والجاز من الطاقة للمالية، ولم يتغير شئ سوى إتجاه تيار المعلومات وطبيعة التنسيق بين الإثنين.
وهناك روايات أشبه بالأساطير تُحكي عن كيفية تصرف الجاز في أموال الدولة، أحداها: أن رجل أعمال يمتلك شركة مقاولات محترمة بالخرطوم بني منزلاً لوزير سابق، ولحظه العاثر ماطله الوزير المعني في دفع مستحقاته، ولما طال الأمر ويأس الرجل من ملاقاة الوزير، ما كان منه إلا وأن لجاء إلى علاقاته بالوسط الرياضي (أهل الكورة) ومرمط بسمعة الوزير، لعلمه بعلاقة هذا الوزير بهذا الوسط وولعه بـ “بالكفر”. فما كان من الوزير، إلا وأن إستدعاه وأعطاه ورقة صغيرة لعوض الجاز لتسديد فاتورة بناء المنزل. لم تكن للرجل أيضاً صلات بالمتنفذين فلجاء مرة أخرى للوسط الرياضي وتمكن بعد جهد جهيد من أن يصل إلى حلقة الأمن المحيطة بالجاز، وعبر أحد حراسه، والذي نصحه بالصلاة في نفس المسجد الذي يقع قرب منزل الجاز وخلفه في الصف، ذهب صاحبنا إلى المسجد المعني، وصلي الصبح حاضراً خلف الجاز بالفعل، وتمكن من مقابلته لبرهة وأعطاه ورقة الوزير. فأشار إليه الجاز بأن يتبعه، وذهب خلفه إلى المنزل، وعندما دخل وجد وفي حديقة المنزل عدداً لا يستهان به من الحاضرين من أصحاب الديون، وصرّافين بالصالون الداخلي، فمد ورقته الصغيرة إلى أحدهم فأعطاه ماله كاملاً غير منقوص(!!).
هذه الرواية، ومهما بدت أشبه بقصص أمراء ألف ليلة وليلة، غير أنه وفي ظل الواقع الماثل في السودان.. واقع إخفاء المعلومات المتعلقة بعائدات البترول، تصبح مسألة التصرف في أمواله بهذه الطريقة أو أي طريقة أخرى بعيدة عن النظم المتعارف عليها في المعاملات المالية بالخدمة المدنية، أمراً غير مستبعد على الإطلاق. وحول إخفاء المعلومات المتعلقة بعائدات البترول أشار تقرير حديث صدر بتاريخ 7 سبتمبر 2009، من مؤسسة Global Witness رأينا أن نورد تلخيصه كاملاً أدناه حتى يتعرّف السودانيين على مستوى الخداع الذي يتم، وحجم الأموال التي تحت تصرف عوض الجاز(راجع النص الإنجليزي في الهامش)[*]. وهي الوضعية هي التي أعطت الرجل نفوذ قوي في النظام، بإعتبار أن تحت تصرفه أموالاً طائلة لا تخضع لحسيب أو رقيب، والكثير من الأسرار المتعلقة بها تخص المتنفذين، ولا نستبعد أن يكون عوض الجاز قد أمّن لنفسه بوابة خلفية تتيح له التحكم في أرصدتهم بالخارج أيضاً(؟!). وتشير إحدى الروايات أيضاً إلى مدى صلف الجاز أوردها الكاتب محمد عبدالرحيم ضمنياً دون الإشارة لشخصيات بعينها في نفس المقال الذي إستشهدنا به (التمكين) في البداية، إذ يقول: “…. ولا ننسى عندما حدث انقسام داخل أحد الأحزاب المرموقة؛ وحينما سأل الزعيم المنشق عن أموال البترول؛ أجابه أحد المسئولين: “القروش دي بنشتري بيها الزيك” [التشديد هنا لمجرد التوضيح وليس من الكاتب] ، أي نشتري بها ذمم أمثالك ؛ …. والباقي معروف للكافة”. وصحيح إن الباقي معروف، ولا أعتقد أن أحد سيختلف معنا بأن المعني بالحديث هنا هو الجاز، وبالتالي، أضاف له هذا الحوار مهنة أخرى لم تكن معروفة، وهي شراء ذمم السودانيين بحقهم (يعني كما يقول السودانيين من دقنو وأفتلو)، كما كان يفعل سلفه المرحوم مجذوب الخليفة.
صلاح عبدالله (قوش): نبدأ التعريف بصلاح بما أورده الكاتب طلحة جبريل عنه في مقاله الذي نشره بصحيفة الشرق الأوسط التي أشرنا إليها آنفاً[†](نظر الهامش). وإيراد هذا النص الطويل للكاتب طلحة، ليس كما قد يفسّره البعض كإعجاب أو تعريض بالرجل، بقدرما هو موضعة له في الخانة الصحيحة من معادلة الصراع التي تدور داخل أروقة المؤتمر الوطني. وهذه السيرة الذاتية الحافلة بالكثير المثير الخطر، جعلت من صلاح رجل النظام القوي خلال الفترة السابقة. وفي سياق التحليل لموقفه من الصراع فإن هذا النص المشار إليه يكشف أبعاد كثيرة يمكن إجمالها في الأتي:
– تاريخ صلاح السياسي داخل الحركة الإسلامية المرتبط بشخصيته وإمكاناته الذاتية والمواقع التي إحتلها خلال مسيرته داخل التنظيم الإسلامي، والتي مكنته في نهاية المطاف من أن يصل إلى موقع رئيس جهاز الأمن المخابرات.
– تحديثه للجهاز حتى صار جيشاً مستقلاً (دولة داخل دولة)، متحكماً في الحياة السياسية ومخترقاً للخدمة المدنية والحركة الإقتصادية بالبلاد، بمعني؛ تحوّل الجهاز إلى إمبراطورية قيصرها صلاح قوش. وهو ما أصبح مدخلاً لخشية الآخرين وسبباً لمخاوفهم ووساوسهم من سؤال أين ستقف هذه المؤسسة بقدراتها وإمكانياتها في حال نشوب أي مصادمات بين الأجنحة المختلفة داخل التنظيم الحاكم.
– العلاقات القوية لصلاح مع أجهزة الإستخبارات الغربية خاصة الأمريكية والبريطانية، وعلى الرغم من أن هذه العلاقة إنبنت على قاعدة التبادل المعلوماتي في إطار ما سمي بالحرب على الإرهاب، غير أن ما سكت عنه النص هو طابع القضايا الأخرى التي يمكن مناقشتها مع قوش على هامش هذه العلاقة ما بين الطرفين، والتي قد تتجاوز مواضيع الحرب على الإرهاب إلى تجفيف مصادره الأصلية وتاريخه المرتبط بالشأن السوداني ورموزه، وهو مدخل قلق الآخرين المستمر من هذه العلاقة، خاصة بعد تسرّب كثير من المعلومات تفيد أن صلاح أصبح قاب قوسين أو أدنى من التوصل لصفقة مع الـ (CIA) لعمل إنقلاب قصر يطيح بالبشير، في عملية تتم من داخل أروقة المؤتمر الوطني نفسه، تحت غطاء تقديم علي عثمان كمرشح لرئاسة الجمهورية بديلاً للبشير، ليفقد الأخير حصانته كرئيس دولة، ويسهل من بعدها إعتقاله وتقديمه للمحاكمة في الجرائم الموجهة ضده، لتجنب حرج الدخول في تعقيدات العلاقات الدولية ذات الصلة بصراع المصالح حول السودان مابين بين الدول الغربية وكل من الصين وروسيا من جهة والدول العربية الأفريقية من جهة أخرى.
– ويقود الإستنتاج المنطقي من حساب المحصلة النهائية للعوامل الثلاثة السابقة لعقلية رياضية/هندسية مثل عقلية قوش إلى أن خيارات معركته تحددت في حفر خندقه إلى جانب على عثمان، شجعه لذلك وعلى المستوى الداخلي في المؤتمر الوطني، الموقف المتأزم للبشير في صراعه من أجل البقاء مع المجتمع الدولي في قضية ملف محكمة الجنايات. قد يكون ذلك إختياراً موفقاً لصلاح من الناحية السياسية النظرية ـ وربما على ضوء المعطيات التي أمامه والمعلومات المتوافرة لديه من مصادره الخارجية ـ لذلك لم يراهن على حصان البشير الخاسر، بل فضل المضى لمعسكر على عثمان بدعم من أجهزة الإستخبارات الغربية. وليس بمستبعد أيضاً أن يكون قد تم التوصل معه لنفس الصفقة التي تم عقدها مع علي عثمان في السابق، وأصبح الرجلين في خندق واحد رغماً عنهما. وقد يقول قائل أن هذا الإختيار بطابعه السياسي البحت ينفي أي إحتمالات لظلال دوافع قبلية/أثنية في وقوف صلاح في معسكر علي ضد البشير، لكن بالرغم من ذلك فإن حساب وجود هذا العامل أمر محتمل حتى وإن كان على مستوى اللاشعور، وربما أصبح أكثر راحة لضمير صلاح أن يجد نفسه في صف أقربائه بحكم قوة دفع تيار الخيارات السياسية المفروضة، بدلاً من خيار الضغط العشائري المخزي، في ظل أسباب صراع هي أكثر خزياً وعاراً، لتاريخ حركة إنتمي إليها وكان شعارها وخطابها لعقود، هو القيم والأخلاق. إضافة إلى أنه وفي السياق العام لمسيرة تحول الحركات الإسلامية ـ كما أوردناه في عرضنا للخلفية النظرية للجابري ـ من حركات تبدأ كمنظومات دعوية، وتنتهي كحركات تعيش في فضاء القبيلة من الغنيمة عندما تستولي على السلطة والدولة.
وعموماً، هذه العملية وبشكل عام تتحدد ويتم توجيهها بصورة لاشعورية متجذرة أصلاً في بنية تكوين عقل هذه الحركات وإختيارات رموزها في مجري الصراعات العامة داخلها وخارجها، وهذا ما لم يفطن له قوش في حساباته الرياضية وإنشاءاته الهندسية الإستاتيكية لديناميكا السياسة السودانية، والتي يصعب حساب علاقاتها إنطلاقاً من إطار مرجعي إسلامي مدرسي كالذي تخرج منه قوش وآخرين، مهما تسلح بالعقلية الرياضية، لأن الآيديولوجيا لها تأثيرها الأقوى في مثل هذه الحالات. وعموماً هذه قضية منهجية ليس هنا مقام بحثها. ومع ذلك، فإن متابعة نشوء وتطور جهاز الأمن والمخابرات الذي أشرف على تكوينه نافع على نافع وحدّثه وطوره صلاح قوش، يكشف على هذه الخلفية النظرية(القبيلة في إطار الغنيمة). حيث نجد أنه من الضروري إستعراض ذلك حتى تكتمل الصورة، أقصد صورة طبيعة الصراع وإقالة صلاح قوش.
عندما إستولت الجبهة الإسلامية على السلطة حددت أهدافها بوضوح للسيطرة على الدولة لعمل التغيير ـ وهي ليست بالفكرة الجديدة فقد سبقتهم الماركسية اللينية في هذا المضمار ـ ومن ضمن أشياء كثيرة عملت على التحكم فيها، بدأت في تحويل الدولة بكاملها لتصبح جزء من التنظيم السياسي في المرحلة الأولى كنقطة محورية في برنامج “التمكين”. فإحتل الإسلاميين كل المواقع بدء من الخدمة المدنية، القوات النظامية، القطاع الإقتصادي وحتى الحياة الإجتماعية. فأصبحت بحق الدولة هي الحزب والحزب هو الدولة، فلا تجد مكاناً أو موقعاً إلا وإخترقته كوادر التنظيم الإسلامي، من لجنة الحي وحتى أعلى قمة هرم السلطة، ومن أصغر دكان أو كنتين بالفريق إلى أعتي مؤسسة إقتصادية. وبالتالي نتج عن ذلك أن تغيرت هوية الدولة بالكامل وأصبح المواطنين غرباء يعيشون على هامشها. وعندما إنتهت هذه المرحلة ولم يعد هناك عدو بالمعني الحقيقي يتهددهم من الخارج (أي خارج معسكر الإسلاميين)، إنعكس الصراع إلى الداخل، داخل الحركة الإسلامية نفسها، متخذاً طابع التنافس/الخلاف حول السلطات وتقسيم الغنائم. وعادة في مثل هذه الظروف يتمحور الخلاف في بداياته بين الكيانات المتعددة حول المصالح الإقتصادية، وتنفرز الكيمان كم يقولون على هذا الأساس. لكن في ظل المجتمعات التي نعيشها، فإن مثل هذه الصراعات قد لا يميط مثل هذا التفسير اللثام عن الكثير من غموض مواقفها، والغالب الأعم هو تشابك/تداخل التقارب الإثني والثقافي مع المصالح الإقتصادية. وهناك قول مأثور في السودان يفسّر هذه الظاهرة يقول: “الزاد كان ما كفى أهل البيت، حرام على الجيران”، والذي يمكن أن يعني في مثل شروط الصراع التي نتكلم عنها إن قسمة الموارد بين المجموعات أن لم تكفي الأقربين، فليس هناك حاجة لتوزيعها على من هم أبعد من ناحية العشيرة. وبالتالي عندما أصبح هذا الزاد (موارد الدولة السودانية) حصرياً تحت خيمة التنظيم الإسلامي، أمتد الخلاف حوله داخلها، وبدأت النار تأكل بعضها من أجل هذه الثروة لأنها لم تجد عدواً تأكله.
واحدة من الآليات في تحويل هوية الدولة كان الجهاز الأمني، حيث بدأ الإسلاميين في تغييره كما فعلوا مع بقية أطراف الدولة، ولا أدري إن كان ذلك مصادفة أم لا، فقد كان كل الذين إنتموا لجهاز الأمن في بداياته، خاصة الكوادر المتقدمة والوسيطة والدنيا، من أبناء منطقة الجزيرة خاصة المناقل مع المحترفين من بقايا نظام أمن مايو. وقد ربط بعض المحللين ذلك بالترابي والذي ينحدر من منطقة الجزيرة. لكن وبالرغم من ذلك كانت هناك درجة (ما) من التنوع داخل الجهاز الأمني، إذ تجد أفراداً في وظائف متقدمة من خلفيات أثنية أخرى أمثال عبدالغفار الشريف، عاصم كباشي، وآخرين.
من بعد النجاح في تغيير الهوية السياسية للدولة، تحول الجهد لفرض هوية إثنية محددة بدلاً عن التعددية الضيقة، لذلك من بعد المفاصلة عملية تغيرت الخلفية الإثنية للمجندين للجهاز الأمني، فمن بعد إن كانت جهوية (كأبناء الجزيرة مثلا مهما كانت خلفياتهم الإثنية) أصبحت تضيق تدريجياً، لتصبح مرتبطة بعرقية محددة، إذ كثر تجنيد العناصر التي تنحدر من الشمالية، وإرتبط ذلك بوجود قوش على رأس هذا الجهاز. وقد كشفت عن ذلك الحملة التي قامت بها حركة العدل والمساواة على مدينة أمدرمان، إذ أن القوات التي تصدّت للحركة هي قوات الأمن(قوات صلاح قوش كما أطلق عليها السودانيين تندراً في ذلك الوقت)، ولوحظ أن معظمهم كانوا من أبناء الشمال (جعليين وشايقية).
ومرة أخرى يعيدنا ذلك إلى الإطار النظري الذي إنطلقنا منه، وتؤكد صحة إستنتاجنا، فقد بدأ الجهاز الأمني كجهاز تابع للحركة الإسلامية وإنتهي إلى جهاز تسيطر عليه إثنيات بعينها داخل الحركة نفسها. ومثل هذا التحول قد يكون قد حدث، أو سيحدث داخل أجهزة كثيرة على خلفية الصراع الدائر الآن. وبالفعل فقد تسربت أخبار كثيرة تفيد أن كثير من أعوان قوش في الجهاز قد تعرضوا لحملة إعتقالات ومضايقات من قبل محمد عطا. فكيف يمكن تفسير ذلك غير أن الصراع حول المصالح(الغنائم) أصبح يضيق شيئاً فشيئاً بداء من الدائرة الأوسع بين التيارات المختلفة سياسياً داخل منظومة الحركة الإسلامية، إلى كيانات تنحل وتنكمش تدريجياً إلى بؤر قبلية.
حساب موازنات القوى داخل التيارات المتصارعة والخيارات الممكنة:
والآن؛ ومن بعد أن حددنا الإطار العام الذي يدور فيه الصراع، والكتل المختلفة داخل المؤتمر الوطني، مصحوبة بالخلفية النظرية التي تفسر تحوّل نمط الصراع. نجد إنه من الضروري إستكمال تحليلنا، بدراسة حساب موازنة كل طرف والخيارات المتاحة أمامه على ضوء ذلك.
مجموعة البشير: تمكنت هذه المجموعة حتى الآن من بسط سيطرتها على المؤتمر الوطني، جهاز الأمن والمخابرات، الجيش. ويبدو واضحاً أن الهدف النهائي لهذه المجموعة من السعي لإحكام السيطرة على هذه المؤسسات، يتمثل داخلياً وعلى المستوى الذاتي في تقوية موقفها ضد المجموعة الأخرى، سياسياً حماية الرئيس البشير بالسند الدستوري ضد المجتمع الدولي ومحكمة الجنايات عبر ترشيحه مرة أخرى لرئاسة الجمهورية والإصرار على الإنتخابات وحشد المؤسسات الثلاثة (الحزب، الأمن، الجيش)، لدعمه. وفي هذا الصدد، ستتحدد حركتها في هذه المحاور الثلاثة:
أولاً: على صعيد الحزب، من المتوقع حدوث تحرك كثيف من قبل نافع ومجموعته داخل المؤتمر الوطني للعمل على توحيد رأي المؤسسة الحزبية خلف البشير كمرشح للرئاسة ونقل ذلك لحملة تأييد جماهيرية ضخمة، وهو ما تم مؤخراً بالفعل، إذ حسم المؤتمر الوطني أمره بترشيح البشير للرئاسة وأوكل أمر الحملة الإنتخابية لنافع(!).
ثانياً: على الصعيد الأمني من المتوقع أن تعمل هذه المجموعة على السيطرة الكاملة على الجهاز وتصفية كل جيوب المجموعة الأخرى داخل هذه المؤسسة، وفي ذات الوقت تقليل سقف الدور الذي كان يضطلع به ليعود كمؤسسة شبيهة بتلك التي كانت في زمن النميري بدلاً من التصميم المخيف الذي وضعه قوش، يتضمن ذلك إعادة رسم إستراتيجيات الجهاز من جديد، تخفيض قدراته العسكرية وحصر مهامه في الجانب الأمني البحت المتعلق بحماية النظام داخلياً وربطه بالبشير.
ثالثاً: إعادة بناء الجيش مرة أخرى بصورة محسوبة لا تفقدهم المؤسسة العسكرية من جانب، ولا تجعلها مدخلاً للسيطرة أو الإختراق من جهات أخرى تعيد إنتاج تجربة الإنقلابات العسكرية من جانب آخر. ترميم الإنهيار الذي لحق بالثقة فيها كمؤسسة عسكرية محترفة من بعد حادثة أمدرمان، تمهيداً للإعتماد عليها كركيزة أساسية لحماية النظام. وهو ما سيعيد للبشير موقعه وقوته في هذه المؤسسة، ويجعله بطلها الأول إن نجح في ذلك.
عليه يبدو واضحاً من مسار هذه العملية أن الخط المتبع سيقود في نهاية المطاف إلى تكوين تسود فيه السيطرة للعسكرتاريا الإسلامية، وهو وضع أشبه بالتحول الذي حدث في نظام النميري من بعد إنقلاب هاشم العطاء في 19 يوليو 1972. إذ تحرر النميري من تحالفه مع اليسار، وأصبحت الدولة دكتاتورية عسكرية تحمل بقايا من الفكر الإشتراكي، وتحولت الكوادر اليسارية داخل النظام إلى حفنة تكنوقراط. نفس الملامح قد يحملها هذا التحول إذا مضي في الخط المتوقع له، إذ ستصبح الدولة دكتاتورية عسكرية يعمل الإسلاميين داخلها كتكنوقراط يحملون بقايا من تاريخ المشروع الحضاري والفكر الإسلامي.
وعموماً؛ هذا يعني التحول من دولة شمولية كان يديرها بالكامل حزب سياسي، إلى شمولية يديرها جزئياً هذا الحزب، مع شرط السيطرة للعسكريين داخله. وإذا أمعنا في الإختلاف بين النموذجين (نظام نميري والإنقاذ في هذه المقارنة) نجده يأتي من طبيعة تكوين الدولة، إذ كانت في زمن النميري تتسم بدرجة من التنوع على الصعيد الإثني، بينما في حالة البشير فإن هذا التنوع وصل أدني مستوياته تحت وطأة الإستقطاب الحاد لصراع الأجنحة داخل التنظيم الإسلامي، وستظل مسألة إنحصار السلطة داخله في أضيق نطاق، هي السمة الأكثر وضوحاً.
وكما قلنا في البداية عندما كنا نستكشف التكوينات المتصارعة داخل المؤتمر الوطني، أن مجموعة البشير نفسها تحمل جينات إنقسام لمجموعتين أخريين وربما أكثر، إذ يمثل العسكريين مجموعة فرعية، والمدنيين مجموعة فرعية أخرى، والصراع بينهما في المستقبل من الأمور المحتملة. فالأسباب التي أدت إلى إقصاء الترابي، هي نفسها الآن التي تسوق علي عثمان ومجموعته لنفس المصير، وهي جينات متجذرة في بنية وعي المنتسبين للتيار الإسلامي بحكم التاريخ الطويل الذي تعرضنا له سابقاً وتكوين عقلهم الجمعي. ولا نعتقد أنها قد تتحلل بهذه السرعة داخل هذه المجموعة نفسها، وستظل متنحية لتظهر في مرحلة أخرى. وهو ما يجعلنا نتوقع أن يدور نفس الصراع مرة ثانية ما بين البشير ونافع، قد يكون تحت مسمى صراع العسكريين والمدنيين داخل الملة الواحدة، أو أي مسميات أخرى قد تفرزها المرحلة القادمة(!)، لكنها ستظل محكومة بالإطار العام الذي تحدثنا عنه في البداية. لكن فلنطرح سؤال، لماذا نافع علي نافع على وجه التحديد(؟)، يبدو أن الدوافع الشخصية وطموح الرجل الذي لا تحده حدود وإعتداده بنفسه الذي يصل حد الغرور من الأسباب الوجيهة، يعزز من ذلك سيطرته ونفوذه الذي بدأ يبرز بعد خروجه منتصراً من معركة إقالة صلاح قوش.
وبالفعل فقد صار نافع الآن رجل النظام القوي، إذاً ما الذي يمنعه من تحدي البشير مستقبلاً للجلوس في مكانه(؟). كثير من الشواهد تؤكد على أن ذلك أمر محتمل الحدوث وربما يكون من نيّة الرجل أن يفعل ذلك يوماً ما، لأن الأسباب السياسية التي دفعت بمجموعة علي عثمان للتآمر على البشير ومحاولة تغييره ومن قبله الترابي، مازالت باقية، فهل إذا ما إشتد حصار وضغط المجتمع الدولي على البشير مرة أخرى وتم طرح مساومة جديدة هذه المرة مع رجلنا القوي نافع، هل سيقبل كما فعل علي عثمان، أم سيبقى وفياً للبشير(؟) سؤال إشكالي Problematic سابق لأوانه)(!!). وهناك شواهد كثيرة تفضح طموحات نافع وتشير لإعداده لنفسه لموقع أكثر تقدماً، منها مثلاً وعند بدايات أيام صدور قرار المدعي العام ضد البشير، قام نافع بتخريج دفعة من قوات الخدمة الإلزامية(وهو تقليد عسكري متبع لم يخالفه البشير منذ إنقلاب الإنقاذ بإعتباره القائد الأعلي للجيش)، حيث تقدم نافع عبدالرحيم محمد حسين في طابور العرض. وكان من المفترض ومن الناحية البرتوكولية أن يقوم بذلك واحد من أربعة شخصيات بعد البشير إما النائب الأول(سلفاكير، ونستثنيه لما هو معروف بداهة)، أو الثاني(علي عثمان)، أو وزير الدفاع (عبدالرحيم محمد حسين)، أو القائد العام للقوات المسلحة، ولكن إن يفعل ذلك نافع، ويقف خلفه وزير الدفاع عبدالرحيم، فهذا أمر بالفعل غريب(!)، أكد على عمق فجوة الثقة ما بين البشير وعلي عثمان.
عليه، فإن خيارات هذه المجموعة من بعد إقصاء صلاح قوش من موقعه أصبحت أكثر إتساعاًً إستناداً على أن سيطرتها على الأجهزة الرئيسية الثلاثة في إدارة دولة شمولية نموذجية (الحزب، الجهاز الأمني والجيش) تتيح لها قدراً كبيراً من الحركة والمناورة لتحقيق أهدافها الإستراتيجية(وهي نفسها المحاور التي أشرنا إليها عاليه مع بعض التفصيل). وبشكل عام يمكن إجمال هذه الخيارات حسب الأولويات التالية:
(أ)التحرك سياسياً وعبر الحزب (المؤتمر الوطني)، نحو:
(1) خوض الإنتخابات بترشيح البشير لدورة رئاسية أخرى لضمان حمايته دستورياً ووضع المجتمع الدولي في مواجهة مأزق عملية إعتقاله، وهذه العملية إستراتيجياً الغرض منها إجبار المجتمع الدولي لفتح قنوات للتفاوض معهم حول سبل معالجة هذا القضية بدلاً عن مدخل صلاح قوش ذو الأجندة الأخرى كما كان في السابق؛
(2) البحث عن معالجات للإشكاليات العالقة بينهم وبين الحركة الشعبية شريك الحكم في تطبيق إتفاقية السلام؛
(3) إحداث إختراق في العلاقات السياسية الراكدة مع القوى الأخرى؛
(4) العمل على إحتواء مشكلة دارفور عبر التوصل إلى تسوية مع خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة.
(ب)النقلة الثانية المتوقعة والأكثر أهمية لهذه المجموعة وفقاً لخياراتها المتاحة، هي أن تحسم قضية القوات المسلحة، وهذه العملية تتم على جبهتين، الأولى هي: العمل على الحد من سلطات المؤسسة الأمنية التي بناها صلاح قوش وإعادتها إلى حجمها الطبيعي كمؤسسة أمنية محترفة لا كجهاز بقدرات جيش، لتأمين ظهرهم من أي تطلعات سياسية لهذه المؤسسة. الثانية: بناء قدرات القوات المسلحة مصحوب بتركيز نفوذهم داخلها. وعملية إعادة بناء الجيش لا تخلو من أهداف أخرى على الصعيد الإستراتيجي، إذ أن هناك مواجهة محتملة بينهم وبين الجنوب في حال الإستفتاء على حق تقرير المصير، وبالتالي لابد من تحضير الجيش لأي مواجهات محتملة في حقول النفط في حال إنفصال الجنوب أو حدوث فوضى في المنطقة.
هذان الخياران يتضمنان في جزئياتهما جهد سياسي وتنفيذي ضخم، وهو ما يوضح إتساع مدى الخيارات التكتيكية لهذه المجموعة، إذ تفتح كل جزئية من (أ) و(ب) مساحة حركة كبيرة، ومكاسب تعبوية يمكن تحقيقها لصالح هذه المجموعة وتقوي ظاهرياً من موقفها السياسي، لكن وبنفس القدر، فإن رؤية المحصلة النهائية لهذه الخيارات في سياق البحث عن مخرج للأزمة السودانية العامة، فإن النتيجة لا تبشر بمردود إيجابي، إذ أن الإستنتاج يقود إلى أن أي نجاح يتحقق على صعيد هذه الخيارات ومهما بدى في شكله كإنفراج في الأزمة السودانية العامة، غير أن مآلاته النهائية ليست سوى مزيد من التكريس لسلطة وقبضة مجموعة هي عملياً منقسمة من المؤتمر الوطني، سمتها الأساسية إن مايجمعها هو عامل إختلاف مصالح سياسية/سلطوية/إقتصادية أدت لتكتلات حول بؤر إثنية/قبلية. وهو ما سيدفع بالدولة نحو تكوين ملامحه العامة شمولية هجينة هي خليط من السيطرة الحزبية والعسكرية، إلى أن يندلع خلاف جديد داخل هذه المجموعة نفسها يؤدي إلى مزيد من الإنقسام المتجه نحو الأعماق، بمعنى؛ أنها (أي هذه المجموعة) تقود السودان تدريجياً نحو مثلث عبدالرحيم حمدي وأحلام الطيب مصطفى.
مجموعة على عثمان:
في بحثنا عن موازنة القوى لهذه المجموعة في الصراع المحتدم داخل المؤتمر الوطني، فقد مثلت إقالة قوش بالنسبة لها ضربة قوية وُجهت إلى آلية أساسية في الصراع بين الطرفين، كان من الممكن أن تقود التغيير لصالح مجموعة علي. وبالتالي؛ هذا المتغيّر أضعف من موازنة القوى بين الطرفين لحساب مجموعة البشير. ولكي نتفهّم مدى هذا التأثير علينا أن ندرك أهمية الجهاز الأمني في هذه المعادلة لهذه المجموعة، وذلك مربوط نظرياً وبالدرجة الأولى بالتحوّل الذي طرأ في الجهاز الأمني وذكرناه آنفاً (بمعني، التحوّل في تركيبة العضوية المختارة للإنتماء للجهاز، والتي تبدلت من أفراد يتم إختيارهم لكفائتهم المهنية في زمن النميري، إلى أشخاص تم إختيارهم من منطقة الجزيرة مع قليل من التنوع قبيل المفاصلة، إلى كوادر أصبحوا من إثنيتين محددتين [جعليين وشايقية] من بعد المفاصلة في عهد صلاح قوش). وتفسير ذلك مازال وبصورة عامة محكوم بالإطار العام الذي أشرنا إليه أكثر من مرة في: “.. تحول طبيعة الدولة الحالية من دولة دعوة كما بدأت مع المشروع الحضاري المزعوم، إلى دولة تعيش في إطار القبيلة من الغنيمة”…، و تمثّل هذه النتيجة المؤشر الثابت في قراءتنا. وبالتالي، فإن ما نحاول معرفته على ضوئها هو: هل تحول تركيبة الجهاز الأمني في زمن قوش، لجهاز قوامه قبيلتين فقط كان توجهاً عاماً أم هو من بنات أفكار صلاح وحده ولأسباب تخصه(؟)، يبدو أن الإجابة في هذه الحالة تتطلب معرفة أسباب الرجل الحقيقية التي إما دفعته لفعل ذلك، أو القبول به، في حال أنه لم يكن من إتخذ القرار. ونبدأ حفرنا بما أورده طلحة جبريل: “.. وبعد سنوات عاد صلاح قوش من جديد إلى قيادة جهاز المخابرات بعد أن أدمج جهازي الأمن والمخابرات في جهاز واحد. وجاء تعيين قوش في منصب المدير العام بعد ما تردد عن وجود صراعات داخلية وتدخلات سياسية في عمل الجهاز..”. وعلى الرغم من أن طلحة يربط ما بين عودة قوش، وظهور تدخلات سياسية داخل جهاز الأمن والمخابرات، لكن يصعب القطع بأدلة حاسمة حول طبيعة موقف صلاح من هذه “التدخلات السياسية” وما ترتب عليها من تكتلات، لذلك نجد هنا إن موضعة هذه المسألة في إطارها العام وتحليلها وفقاً للمؤشرات، يقودنا إلى نقطة من أقرب ما تكون إلى الحقيقة.
بشكل عام عادة ما تبدأ الأنظمة الشمولية وبعد حدوث الإنقلاب في تثبيت أركان سلطتها عبر التغيير السريع والعاجل في الأجهزة الأمنية، ويستدعي ذلك عملية إحلال للكوادر الأمنية القديمة بأخرى جديدة، الشرط الأساسي هو ولاءها المطلق للنظام الجديد، وهو ما حدث بالفعل مع الإنقاذ إذ بدأت في حقن الجهاز الأمني بكوادرها ذات الولاء. وكما ذكرنا سابقاً فإن الملاحظة أن هذه الكوادر كانت في ذلك الوقت وتحديداً من بعد الانقلاب وحتى قبيل المفاصلة ينحدر معظمها من منطقة الجزيرة مع وجود قلة من دارفور. ومن بعد المفاصلة وعند النظر في الكوادر الجديدة نجد أن معظمها إن لم تكن الغالبية الساحقة من الشمالية.
وعملية الإحلال والإبدال هذه داخل الجهاز الأمني تمت في ظروف سياسية مختلفة فرضتها شروط محددة، منها العام المتعلق بحماية النظام من أعدائه الكثيرين سواء بالداخل أو بالخارج، ومنها الخاص المتعلق بطبيعة الصراعات بين الأجنحة المختلفة التي أشار إليها طلحة بـ(ظهور الصراعات السياسية داخل الجهاز). وكلا الشرطين ظلا متلاحمين ومتداخلين إلى حد كبير. وإذا درسنا الشرط العام، فقد كان واضحاً في السياسة التي إختطها الجهاز في حربه ضد خصومه والتي إتبع فيها إستراتيجية قائمة على إستمالة القبائل في المناطق التي تنشط فيها المعارضة (الحركة الشعبية، وحركات دارفور لاحقاً) لضربها، وإنشئ جهازاً داخل مؤسسة الأمن والمخابرات خصيصاً لهذا الغرض(جهاز شئون القبائل)، وبالتالي فإن فكرة إستغلال الكيانات/العلاقات الإثنية في تصفية الحسابات مع الخصوم، هو تفكير موجود أصلاً داخل جهاز الأمن والمخابرات ومسنود بخبرة كبيرة في هذا المضمار تراكمت عبر سنوات طويلة.
وكما قلنا سابقاً عندما إنتهي صراعهم الخارجي أو قل تأثيره، إنقلب إلى الداخل متخذاً شكل خلاف سياسي مصحوب بمظاهر إستقطاب إثني يحتد تدريجياً. فشهد الخلاف مع الترابي تصفية عناصره داخل الجهاز المنحدرة من الجزيرة ودارفور، ويشهد الخلاف الحالي أيضاً تصفية للعناصر المنحدرة من الشمالية الموالية لعلي عثمان وقوش، وهي طريقة مجرّبة أعطت نتائجها عندما مارسها البشير، على عثمان وصلاح قوش ضد الترابي، ونستشهد مرة أخرى بما ذكره طلحة جبريل:
” …. وتوالت مشاهد جعلت الترابي الداهية يعود أكثر من مرة إلى السجن وبقرار من تلاميذه. وفي هذه المشاهد كان صلاح قوش حاضرا. الثورات عادة ما تأكل أبناءها. هذا هو الشائع على الأقل. لكن في السودان أكلت الثورة أباها، وهو الدكتور حسن عبد الله الترابي ولا شخص آخر سواه، في ديسمبر (كانون الثاني) 1999. تفجر خلاف مكتوم بين الرئيس عمر البشير وحسن الترابي رئيس البرلمان آنذاك، وهو الخلاف الذي أطلق عليها الإسلاميون صراع «القصر» و«المنشية». أي الصراع بين البشير الذي يوجد في القصر الجمهوري، ضد الترابي الذي يقطن ضاحية يسكنها المقتدرون تعرف باسم «المنشية». وأدى ذلك الخلاف إلى وقوف معظم التنفيذيين إلى جانب البشير، وكان من بين هؤلاء الرجل القوي صلاح قوش…”.
لوضع تقييم لمصادر قوة هذه المجموعة من بعد خروج صلاح قوش من المعادلة ومحدودية تأثيره في مسار الصراع، نجد أنها لم تعد تملك سوى، عوض الجاز أو على الأقل هو مركز النفوذ الواضح الآن من حيث تحكمه في أموال البترول كما أشرنا سابقاً، وعليه ليس من المستبعد أن يكون هو الهدف التالي لمجموعة البشير، إضافة لعلي عثمان بحكم تاريخه السياسي، علاقاته الجيدة مع شريك الحكم (الحركة الشعبية). وبالتالي فإن مساحة المناورة المتاحة أمامها ضيقة للغاية، والطريق أمامهم ملغوم لأي تحرك في الجيش والحزب (المؤتمر الوطني) والجهاز الأمني، فما هي خياراتهم إذاَ (؟).
في واقع الأمر من الصعب جداً رؤية أي موقف إٍستراتيجي مؤثر لمجموعة علي عثمان لمعادلة موقفهم أمام مجموعة البشير، غير التحرك خارج أسوار الحزب، والجيش والمؤسسة الأمنية، وهنا تتعدد الإحتمالات والتكهّنات، أخطرها يستنتج أن الرجل قد قطع تذكرة عودة لمعسكر أستاذه الترابي(!)، ومهما تكن صحة هذا الإستنتاج أو عدمه، لكن يبدو أنه الخيار الأكثر معقولية عند قراءة الوقائع وإدراك طبيعة الصراعات بين الإسلاميين أنفسهم، فهم يعرفون مواضع ضعف بعضهم البعض جيداً. لذلك، فعلي عثمان يدرك تماماً أن بقائه أعزلاً في حلبة الصراع ضد البشير ومجموعته من “شفتة” السياسة أمثال نافع، لن ينتهي به إلا إلى الزوال التدريجي طال الزمن أم قصر. وشخصية مثل علي عثمان بتاريخه السياسي ومعاركه اللانهائية داخل وخارج أسوار الحركة الإسلامية، والتي أوصلته في يوم من الأيام لمواجهة أستاذه الترابي، لن ترضي بمثل هذا المصير أبداً، أو هكذا يقول من عاصروه وعرفوه عن قرب.
ولنحاول في نهاية هذا الإستعراض بناء مصفوفتنا للصراع بين الطرفين:
مجموعة البشير: نقاط القوة إحتمالات التحرك النتائج المتوقعة
سيطرة على: – تعبئة عماة لخوض الإنتخابات برشيح البشير – إحتمال فوز البشير وارد
– الحزب – ترتيب الجيش – إحتمال وارد
– الجيش إعادة – صياغة الجهاز الأمني – إحتمال النجاح كبير
– الأمن – تسوية المشاكل العالقة مع الحركة الشعبية – إحتمال وارد
– التفاوض مع المجتمع الدولي لتسوية ملف البشير – محتمل بدرجة أقل
– التوصل لإتفاق مع خليل إبراهيم – محتمل
مجموعة علي عثمان:
– مصادر التمويل – إعادة توازن القوى عبر التحرك – النجاح في إحياء
عبر عوض الجاز. – السياسي الواسع في عدة محاور: إطار الحركة الإسلامية ممكن
-العلاقات الجيدة – الإلتفاف حول المجموعة بإعادة
مع الحركة الشعبية إحياء الحركة الإسلامية.
– التفاوض مع الترابي لتوحيد الصف – التوصل مع الترابي
أو أي صيغة لمواجهة الجناح الآخر لإتفاق ممكن الحدوث
– الحوار مع الحركة الشعبية والقوى السياسية الأخرى. – ممكن
الملاحظات الختامية التي يمكن تدوينها من جدول النتائج المتوقعة في المصفوفة أعلاه، يشير إلى:
1. ملامح طريقين مختلفين على الأقل للمجموعتين (مجموعة البشير وعلى عثمان)، وهي بوادر إنقسام لم يتخذ شكله النهائي بعد، واضعين في ذهننا أن نتائج مجموعة البشير القائمة على فرص نجاحها المحتملة، قد تنتج شكل للدولة ـ كما سبق وقلنا ـ السيطرة فيه لهذه المجموعة، وداخلها للعسكريين. وبالتالي؛ فإن المحصلة النهائية لهذا الإحتمال هي دولة شمولية تحت سيطرة عسكريين، في وضعية أشبه ما تكون بنظام مايو من بعد 19 يوليو 1972. لذلك فإحتمال المواجهة المؤدية للإنقسام داخل هذه المجموعة وارد الحدوث، لأن إعادة ترتيب الجيش، القوات النظامية والأمن مرة أخرى، ستقوي موقف العسكريين داخل هذه المجموعة وتضعف من موقف السياسيين من أمثال نافع على نافع، وهو ما قد يدفعه للصراع مع البشير معيداً نفس شريط المصادمات التي تمت بين البشير والترابي ومن بعده علي عثمان.
2. المجموعة الأخرى (مجموعة علي) فإن حساباتها الإستراتيجية أصبحت خارج خيمة المؤتمر الوطني، وإحتمال قبول الآخرين للعمل معها سياسياً كبير ـ بما فيهم الترابي نفسه ـ إستناداً إلى أن خروج على عثمان ومهما كانت الصيغة التي تمت به بالضرورة سيضعف النظام ويقوي معسكر المعارضين. وبحكم تنوع الجهات التي من المحتمل أن يسعى علي عثمان للتفاوض والتحالف معها ضد خصومه الجدد (إبتداء من المؤتمر الشعبي وإنتهاء بالحركة الشعبية مروراً بأحزاب كالأمة والإتحادي والشيوعي وغيرهم) فإن مثل هذا التحرك سيفرض على علي عثمان الدخول في معمعة قضايا كثيرة قد تكون مربوطة بمسائل التحول الديمقراطي وغيرها.
3. لذلك وعلى الرغم من القوة البادية على مجموعة البشير غير أن مسارها ينتهي لطريق مسدود، ومجموعة علي عثمان وعلى الرغم من الضعف البادي عليها غير أن هناك متسع من الحركة والذي كما قلنا سيكون خارج أسوار المؤتمر الوطني، وربما خارج النظام.
خاتمة:
عليه؛ فإن إقالة صلاح من موقعه كرئيس لجهاز الأمن والمخابرات كانت نقلة تكتيكية قوية لصالح مجموعة البشير، غير أن التحليل يقود إلى إنها وفي الأفق الإستراتيجي المنظور ستضر بهذه المجموعة وربما السودان بأسره. صحيح أن وجود صلاح قوش في الجهاز ليس بالأمر المأمون العواقب على أي صعيد كان، لكن أيضاً إقالته من موقعه على خلفية صراع بالصورة التي وصفناها، هي أيضاً ذات نتائج وخيمة على المدى الطويل. وعلى أي حال؛ فإن المحصلة النهائية هي أن المؤتمر الوطني الآن وعملياً يخوض تجربة مفاصلة جديدة مكتومة، وسيمر بأخرى أيضاً طالما ظلت جينات الخلاف داخل الحركة الإسلامية باقية.
وقد يستبق البعض الأحداث على ضوء هذه النتائج، وصولاً إلى أن هذا النظام قد أصبحت بعد مسافة صغيرة من قبره على خلفية الصراعات الدائرة الآن، وتلك التي قد تدور في المستقبل داخله، وسيبقى هذا إحتمال قائم بدرجة كبيرة، لكن في ظل التعقيد الذي تتسم به السياسة السودانية، مصحوب بالتحول السريع في إيقاع الأحداث داخلها، بالإضافة إلى المتغيرات التي قد تطراء وهي ليست في الحسبان، فإن إحتمالات كثيرة متوقعة الحدوث أيضاً. صحيح إن إقالة قوش، فاقمت من أزمة التنظيم الحاكم ووضعت صراعاته في العلن وأضعفته، وسيناريو أن لا يسكت صلاح ومجموعته على ذلك ممكن، لكن تصالحهم أيضاً من الإحتمالات القائمة. وحكمة التغيير السياسي تقول إنه لا يتم بـ “القصور الذاتي” كما يتمنى البعض، وإنما لابد من إلقاء حجر في بركة هذا الصراع الصامت لتحريكه، وهي بالفعل لحظة نادرة في التاريخ، قد لا تتكرر مرة أخرى.
وعموماُ قد تكون الأبعاد السياسية في أي صراعات تمثل الجانب الظاهر من بنية هذه الصراعات، غير أنها لا تقف بمعزل عن عوامل أخرى إجتماعية/إقتصادية/تاريخية متداخلة، تتفاعل مع بعضها البعض في جدلية لا تتوقف أو تنفصل، وتأتي أهميتها ـ أي هذه العوامل الأخرى ـ لأنها تؤثر في تشكيل النتائج النهائية لمثل هذه الصراعات، كالتي تدور داخل المؤتمر الوطني علي سبيل المثال. وفي الحالة التي درسناها في المقال إقتطعنا صور ميكروسكوبية للعوامل الإقتصادية للصراع داخل المؤتمر الوطني في أكثر من موقع لغرض التحليل ضمن سياق العوامل الأخرى، منطلقين في ذلك من التعميم الذي تمت صياغته بناء على ملاحظة الجابري والمتمثل في تحوّل الحركة الإسلامية من حركة دعوة إلى حركة تعيش في إطار القبيلة من الغنيمة، و”إتفرتقت” ـ على حد تعبير الطيب زين العابدين ـ تحت وطأة الصراع على المغانم(موارد الدولة الإقتصادية). وكنتيجة لذلك فقد أصبحت تطفو للسطح وبصورة متسارعة ملامح أزمة الإقتصادية عامة قد تكون سبباً رئيسياً من أسباب إنهيار الدولة، كنتيجة مباشرة لسياسات الهيمنة التي مارستها الحركة الإسلامية/المؤتمر الوطني. وبصرف النظر عمن سينتصر في الصراع بين الأجنحة المختلفة (تيم الجعليين أم السناجك) أو أي طرف ثالث أو أي تسوية قد تبرز، فإن هذه الأزمة الإقتصادية التي إستفحلت ستظل مستمرة وباقية، وستهدد بالإنهيار أي وضع قد يتخلق من بعد.
إن المدخل إلى هذه الأزمة بدأ مع السياسات التي طبقها أهل الإنقاذ إنطلاقاً من مبدأ “التمكين” والذي جاء ضمن إستراتيجية تحويل هوية الدولة العامة التي تلت عملية الإنقلاب، وقد تمظهرت من خلال عمليات الخصخصة المنظمة ببيع كافة مؤسسات الدولة المنتجة لإعضاء الحركة، مما أسفر عنه لاحقاً إنهيار تلك المؤسسات، ذلك لأن الخصخصة لم تكن تحكمها الشروط والمعايير الإقتصادية البحتة، وإنما سياسية محمولة على آيديولوجيا التمكين/الهيمنة وتصفية الخصوم إقتصادياً.
ومع بدء إكتشاف البترول وتصديره، وبدلاً من أن تعمل السلطة السياسية الحاكمة على إعادة تدوير عائداته في القطاعات والمشاريع التنموية المنتجة(كالزراعة والصناعة)، أصبحت هذه الأموال تصرف على الأجهزة الأمنية والتسليح، الصرف البذخي على التنظيم الحاكم مؤسسات وأعضاء، الرشاوي وشراء الذمم وتمويل الحروبات الداخلية. مما أدى إلى إنهيار النظم الإقتصادية في قطاعات الزراعة بشقيها المروي والمطري، والقطاعات الصناعية، والمصرفية، وبالتالي إعتماد الدولة بشكل شبه كامل على عائدات النفط. وفي هذا الصدد فقد أشار تقرير صندوق النقد الدولي IMF الصادر في 2008، إلى أن البترول صار يشكل 95% من إجمالي دخل الصادر و60% من الدخل الحكومي، علماً بأن صناعة البترول في السودان تهيمن عليها الشركات الصينية والماليزية. كل ذلك تم على حساب الإقتصاد الريفي والذي دُفع به إلى حافة الإنهيار مع أن أكثر من 80% من سكان السودان يقطنون الريف. وبالتالي، حولت هذه العملية من طبيعة وشكل النظام الإقتصادي للدولة، من إقتصاد تنموي كان يعتمد على قطاعات منتجة، إلى إقتصاد ريعي بالكامل يعتمد على مدخول البترول، في حالة أشبه بحالة نيجيريا ودول الخليج (مع الفارق أن معظم دول الخليج تفتقر للأراضي الزراعية الصالحة، وعائدات النفط كبيرة للغاية بحيث تغطي كثير من القصور الذي قد ينشأ في عمليات التنمية إن وجدت).
وعند مقارنة موارد السودان الزراعية المنتجة (أراضي ومصادر مياه وثروة حيوانية ومعدنية والتي وضعته في قائمة أغني الدول من حيث الموارد)، نجد أن هذا التحول السالب في الإقتصاد الوطني نتج من السياسات التي طبقتها الإنقاذ حتى الآن. وقد لاحظ خطورة هذا الوضع الإقتصادي مجموعة من المثقفين السودانيين والذين جسدوا الأزمة في : ” … الارتفاع الجنونى المستمر لاسعار الاحتياجات الاساسية للمواطن وانخفاض سعر تحويل الجنيه السودانى مقابل العملات الاجنبية وندرة العملات الاجنبية المتوفرة فى البلاد وصعوبة الاستيراد وتعثر الصناعة الوطنية وانهيار الزراعة وتزايد معدلات البطالة..”[‡]. وفي ذات السياق أشار تقرير للبنك الدولي إلى حقيقة عبء الديون الخارجية للسودان، والتي فاقت الـ 33 بليون دولار، مشكّلة 58% من إجمالي الناتج القومي والفشل في جدولتها. فأين ذهبت أموال البترول أذاً (؟؟).
لذلك فإن السودان يواجه ثلاثة كوارث متزامنة، كارثة سياسية قد تؤدي إلى تفتيت الدولة، وأخرى إجتماعية مظهرها إنحلال الروابط والنظم والكيانات الإجتماعية التي قطنت السودان منذ أزمة سحيقة سواء إن كان على صعيد علاقات التعايش مع بعضها البعض أو داخلها. وإرتباط هاتين الكارثتين ناتجه النهائي صراعات أشبه بصومال أمراء الحرب. وأخيراً أزمة إقتصادية متسارعة تتمثل في إنهيار كامل للنظم الإقتصادية(زراعة، صناعة، خدمات، وقطاع مصرفي). بإختصار دخول السودان ـ إن بقي موحداً أو إنفصل إلى دولتين ـ إلى ما يسمى بـ(الفوضي الكارثية) وأدق تعبير هو المصطلح الإنجليزي Total Chaos.
هوامش: