لا سلام بلا حكم مدني ديمقراطي/ بقلم إبراهيم سليمان

يُبنى السلام علي قاعدة عريضة وصلبة من الثقة المتبادلة بين الموقعين علي وثائقه، وينمو ويفرهد باحترام المواثيق، والالتزام بالتعهدات، ومتى ما انعدمت الثقة وأُسئ للتعهدات، مات السلام وتبخر روحه في سماوات المجهول، ولم يتبقَ في أرض الواقع إلا اسمه، ولن يتحقق السلام إلا عندما تتوفر الرغبة الأكيدة لجميع الأطراف المعنيّة.

والرغبة خلاف الرهبة، فالسلام الذي يفرضه المنتصرين، ويكتب بنوده بمنطق القوة، لن يدوم، ويتحول إلي نوع من المراوغة والمناورة، كما حدث في معاهدة فرساي الذي أُرغمت ألمانيا علي توقيعها مكرهةً ( 28يونيو/حزيران 1919م)، ليتجدد اندلاع  الحرب العالمية الثانية، بصورة اشد ضراوة من الأولى، هذا لا ينف أنّ يكون المهزوم  راغب في سلام حقيقي، لكن قد يؤدي النصوص القهرية إلي تبديد أمل الطرف الأضعف في سلام عادل، فيضطر إلي المراوغة وكسب الوقت .

قد تبدو الرغبة في السلام، كنوع من إبداء حسن النوايا، وقيل حسن النوايا، اسرع طريق لجهنم، وحسن النوايا يعني افتراض المصداقية والنزاهة علي ما يضمره الطرف الآخر تجاه ما اتفق عليه .

الحكم الاستبدادي الذي يرتكز علي حكم الفرد، أو علي دولة الحزب الأوحد غالبا ما تكون القرارات مزاجية ومرحلية بحث يضمن استمرارية الحكم بأي ثمن، خير مثال لذلك اتفاقية أديس أبابا 1972 بشان الجنوب، واتفاقيتي أبوجا والدوحة بخصوص قضية دارفور، ومتى ما شعر الطرف الأقوى أنّ الاستمرار فيها يحدد بقاء المنظومة الحاكمة في السلطة، تنصلوا عنها على مضض.

في كنف الحكم المدني الديمقراطي الراشد، القرارات المصيرية تتخذ بعد تمحيص دقيق، وتداول مستفيض، من قبل نواب الشعب، وليس واردا أن تستبد الأغلبية البرلمانية بالرأي، حسب الأغلبية الميكانيكية، لتمرير قرار مصيري، وفي الغالب اذا تعثر التوافق البرلماني، يطرح التشريع المزمع اتخاذه في استفتاء شعبي عام، كما في حالة Brexit  الذي أطّر لخروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوربي.

بالطبع لا احد بإمكانه العبث بإرادة الشعوب، والجدير بالذكر أنّ البنود العلنية لاتفاق جوبا للسلام نصت علي ضرورة إجازتها من قبل المجلس التشريعي الانتقالي، الذي عرقل تكوينه الانقلابيين من اللجنة الأمنية والحركات المسلحة، وعليه لا جدوى ولا اعتداد بأي اتفاق يُوقع مع الأنظمة الشمولية والحكم الاستبدادي، وهنالك سبب آخر جوهري، يجعل تحقيق السلام في ظل الأنظمة الشمولية المستبدة غير ممكن ، ذلك أنّ المستبدين، يستثمرون في ويلات الحرب، ويرعبون القوة الوطنية بشعار لا صوت يعلو فوق صوت البندقية، ويعلنون فرية الذود من حياض الوطن مزايدةً وبهتانا، والشاهد لا يزال ماثلاً، كيف فصل نظام الإنقاذ الجنوب، تحت إرعاب سياسي للقوى الوطنية، بمنطق الحرب.

أي أنّ تحقيق السلام في ظل الأنظمة الشمولية، سيما العسكرية المستبدة منها، تخضع لشبهة تضارب المصالح السياسية، وليس هنالك أدنى شك أنّ جنرالات العسكر، في كل بلدان العالم مستفيدة مهنيا وماديا من استمرار الحروب، وإطالة أمدها، سيما إن كانت حروبا أهلية، الخاسر فيها مكونات المجتمع وليس ضباط وأفراد القوات المسلحة، والاستفادة تصل حدودها القصوى، إن كان من يقاتلون بالمقطوعية الحربية، نيابةً عن القوات المسلحة، كما في حالة قوات الدعم السريع وفاغنر الروسية.

فمن وجدتموه يتشّدق بالسلام، ولم يذكر الحكم المدني الديمقراطي إلاّ لماما، وللاستهلاك السياسي الرخيص، فلا تصدقوه ولا تثقون في ادعاءاته، ومن يقول السلام سمح، ويضمر التآمر علي التحول المدني، ويوئده في المهد، ما هو إلا منافقا سياسيا، وما أكثرهم هذه الأيام.

والذين يشترطون التوافق السياسي الكامل بين مكونات المشهد السياسي السوداني، كضرورة لرشاد الحكم المدني، يجهلون أنّ الاختلاف سُنة كونية، ومتلازمة للبشرية، ذلك أنّ التدافع السياسي المسؤول، مِنعة لانزلاق البلاد في مجاهل الاستبداد، وترياق لارتهان مصير الأمة لهوى الانتهازيين، رغم أنّ توافق الحد الأدنى في الوقت الراهن أصبح ضرورة وطنية ملحّة، ومن يتجاهله أو يستهين به لا نظنه يتسم بالمسئولية.

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *