التعايش السلمي والتسامح الإجتماعي كمفهوم عريض، هو ما يحتاجه بلادنا الآن أكثر من أي وقت مضى، نتيجة الإفرازات السالبة والنزاعات المتقدة التي خلفته نظام الإنقاذ البائد .. ولمّا كان لهذا المصطلح المعاصر من ضخامة وتشعب، تعتبر من أهم أسس العلاقات الدولية والإنسانية، نختصر تناولنا على التعايش السلمي بين القوى الاجتماعية المختلفة، وتحديداً في المجتمعات العشائرية.
فبالرغم من تعاقب الحقب، وتراكم الأزمنة لتشكيل المكونات الإثنية في البلاد، وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزته البشرية في مجالات حقوق الإنسان لضمان العيش المشترك، فقد استفحلت النزاعات المفتعلة، واستمرت الحروب البينية المجانية، سيما في هوامش البلاد ركبت بعض المكونات آليات الدولة، وإستخدمت المنصات الحكومية، من أجل الهيمنة على الموارد، وفرض السيطرة على الأرض، اللإحتفاظ بالوجاهة الإجتماعية، وضمان نصيب الأسد من الصيد الوظيفي وغنائم الولاء المركزي.
فلتعلم المكونات الإجتماعية التي تتمتع آنياً بالقوة المادية أو المعنوية، أنّ القوة لا تدوم لأحد، وما من يد إلا يد الله فوقها، وما من ظالمٍ إلاّ سيبلى بظالم، وأنّ المكر السيئ لا يحيق إلاّ بأهله.
هنالك من فقهاء علم النفس الإجتماعي، وشيوخ الأنثروبولوجيا، من يرى أنّ من السذاجة تصور عالم خال من النزاعات، يسوده الوئام ويعمه السلام، بل الصراع والتدافع باقيان بقاء الخير والشر، والحق والباطل، والابتلاء والاختبار، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. بينما يرى آخرون أنّ صراع بني البشرية ليس أمرا حتميا أو حكما مقضيا، الأساس قبول الآخر التعايش معه وأنّ أهم بواعث الاختلاف، هو تدافع الإرادات وصراع القوى. قال الفيلسوف أبي العلاء المعري الشاعر :
الناس للناس من بدو وحاضرةٍ بعضٌ لبعض وإن لم يشعروا خدم
وزاد بعضهم، أنّ في أصل الفطرة أن الشعوب ليس بينها عداوة، وأن فطرة الناس السوية التـي خلقوا عليها لا تخلق المشاكل أو التباعد بين الشعوب، لأنها نداء الوجدان إلى المحبـة، والراحة والسعادة التي لا تتم إلا بالتعايش السلمي بين الشعوب، إنما تأتي العداوة مـن طغيان الهوى.
تأتي العدالة في صدارة مقومات التعايش السلمي، من منطلق أنّ أبناء آدم خطاؤون، وأنهم بشر وليسوا ملائكة، فالحاكم الذي لا يكترث لتحقيق العدالة بين من يحكم، يسعى إلى هلاك الأمة، فقد ورد في حديث صحيح للمصطفى أصدق القائلين: “أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمِ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ..” وهو تأكيد لا ريب فيه، إن إختلال ميزان العدالة، ستورد الأمة لا محالة مورد الهلاك، وبات أكثر شيوعاً أنّ العدل أساس الحكم. فالسلطة القضائية العادلة، قمينة بتأمين الناس على أرواحهم وممتلكاتهم، صون عزة نفوسهم، والتعايش السلمي لا يتحقق إلاّ في ظلال العدالة الناجزة، وأريحية المساواة الرحبة.
ليس بعيداً عن ظلال العدالة، يبرز الوفاء بالعهود وعدم الغدر والخيانة، كقيم ضرورية للتعايش السلمي وسط التجمعات العشائرية، التي تحتكم للعرف والمواريث المحلية، الوفاء بالعهد يشمل كافة المعاهدات والمواثيق الإتفاقيات مع الأفراد والجماعات والجهات الإعتبارية، وهو ضمان وضرورة لبقاء الثقة في التعاون بين الناس، وبتضعضع الوفاء بالعهود، يتهدم المجتمع، وتنعدم الإنسانية، لأنه الضامن لإستمرار التعامل البنّاء بين مكونات المجتمع، والنكث فيه له تبعات وخيمة على التعايش السلمي، سيما في المكونات العشائرية.
كما أنّ العدالة، توفر الضمان الإجتماعي للشرائح الضعيفة، فالشعوب التي لا تلتفت لشرائحها الضعيفة من النساء والأطفال وأصحاب الحاجات الخاصة، الفقراء والمساكين لا يجدر بها إدعاء التحّضر، ولا تأمن بوائق الحرمان على التعايش السلمي، من تفشى الجريمة العامة، أو المنظمة، والبغضاء والتربص بين الأغنياء والفقراء.
يعبر التسامح أحد مرتكزات التعايش السلمي بين الشعوب والأمم، ولكن لـيس مـن التسامح في شيء أن تصديق كل ما يقال من رأي يطرح وإقرار كل مبدأ ومبـاركة كـل تصرف أو موقف وإن كان على خطأ أو باطلا، وليس معناه ألاّ يقال للحق أنه حق. التسامح، في جوهره، إحترام قيم وموروثات الآخرين، وليست بالضرورة إتباعها، فالتسامح الإنساني يتـيح للبشـرية أن تجـري أساليب من التواصل الراقي بكل حيوية، وتثري الحوارات البناءة. ليس وارداً لن تخسـر المجتمعات شـيئا بسب التسامح الحقيقي، لأن الحق بمقدوره إبراز قوة حججه في ساحة الحوار وفى آخر المطاف فالحق أحق أن يتّبع، ولا يصح إلاّ الصحيح.
ولتعلم المكونات التي وقعت عليها المظالم، أنّ التسامح ضرورة حياتيه، بعد تحقيق العدالة، والتعويض العادل وجبر الضرر، وأنّ الغلو في العداوة، والشطط في الخصومة، هما موردان من موارد الهلاك، فالبشرية مجبولة على الخطيئة، وهذا ليس تبريراً لوقوع الظلم، وإنما إقراراً بواقعية الحياة. وعلى الأفراد والجماعات التحوط لوقوع الظلم، والإحتراس منه، والإستعداد للتصدى له، وإن وقع من حقهم الطبيعي أن ينشدوا العدالة، وبعد القصاص يلزمهم التسامح والتعايش السلمي مع المعتدي، وإلاً عليهم البحث عن كوكب آخر لعيشوا على سديمه مع الملائكة.
للتحقيق العيش السلمي المشترك، لكافة مكونات الشعب السوداني، في مجتمع تحترم فيه كرامة الإنسان وخصوصيات الأفراد والجماعات وحقوق الأقليات، لابد من توفر أسس تظللها قوانين يحتكم إليها الجميع، وتحترمها الدولة قبل الأفراد ومن أهم هذه الأسس: المساواة أمام القانون لكافة المواطنين، احترام ثقافات وقيم وأعراف جميع المكونات غض النظر عن حجمها، أكثرية أم أقلية، وعدم التعرض لها بالاستفزاز أو التهكم أو الاستهزاء، وكفالة حرية الرأي والتنقل والتملك وممارسة كافة المناشط الحياتية في أية بقعة من بقاع ربوع البلاد.
يضاف إلى ما سبق، تشجيع لغة الحوار والتسامح وثقافة الاختلاف بين مكونات المجتمع الواحد، وتجريم القذف والسب أو الاستهزاء بكافة الوسائل والضيع، تجريم الإساءة للرموز الدينية أو العشائرية أو المجتمعية، والتسامح مع نقد هذه الرموز بعيداً عن الخوض في الأعراض أو الاستهزاء والتهكم. التخطيط المدروس لتقليص الفوارق الطبقية من خلال تحقيق العدالة والتكافل الاجتماعي. تهيئة المجتمعات لتبني نظام ديمقراطي يوفر الفرص لكافة شرائح المجتمع المدني، وتكفل الأنشطة الجماهيرية للأحزاب ونقابات ومؤسسات المجتمع المدني، وتشجيعها على تقديم مشاريعها الإصلاحية للمواطنين من أجل اختيار الأصلح منها. هذا أو الطوفان
//إبراهيم سليمان//
أقلام متّحدة
30 أغسطس 2020م