ديسمبر 2018 ثورة في مرآة الحاضر والماضي
بقلم مني اركو مناوي
قد اختلف مع الكثير في تسمية وتعريف الحراك الذي يجري الآن في المدن السودانية ، بعضنا وخاصة الطبقة المثقفة والسياسية منها فضلت ان تقف عند (ثورة الجياع ) ولم تتقدم كثيراً لربط الاحداث بالازمة السياسية المستفحلة منذ وقت طويل، والأصح لم يكن الحراك مجرد غضبة الجوعي ستنتهي بنهاية الحصول على الخبز كما يتصوره البعض .
ربما هنالك أهداف تكمن وراء هذا التعريف المبتور لفائدة يجنيها من قصد ذلك أو للحفاظ على الوضع كما هو أو لتمكين قواعد الإحتكار للبعض دون الآخرين .أما السواد الأعظم كعادتهم يدفعهم القهر لركوب الصعاب على مضض .
الشارع يغلي بالثوار، جلهم من جيل العقود الثلاثة التي غرزت الإنقاذ أظافرها فى الوطن ، اما الكبار يتبارون في ألفاظ التبسيط والتمييع بالمفردات علي شاكلة ثورة الجياع كأنها لا تصمت بنهاية الجوع أو احتجاجات تخريبية ومن أحسن قولاً، قال فيها انه يتفهم الأسباب.
السودان أزمته أكبر من الجوع والدواء وانعدام الخدمات وغيرها من تداعيات المسكوت عنه فى الأزمة والتي تطفو على السطح الآن. هذه التداعيات نتاج الازمة السياسية بدءاً من هويةً الامةً بأكملها ومصير البلاد الذي لمً يقرره أهلها والمواطنة التى تحدد طبيعتها حسب ذوق السلطان كخيارات من صنوف الطعام في قائمة البوفيه والدستور الذى يُمزّق ويقاس بمقاس السلطان بدلاً عن البلاد .
الذى يحدث اليوم هو امتداد للمطالب المتراكمة على مرعقود والتى اشتعلت اولى شرارتها من حامية توريت في 1955، وهو امتداد لمذكرات أبناء الجنوب ومطالب اللهيب الأحمر وجبهة نهضة دارفور ومؤتمر بجا والكيان النوبي وهى مطالب غير منفصلة عما عبر عنها البابا فيليب عباس غبوش وهي ذات المظالم أغضبت داود يحي بولاد معلنا انسلاخه عن الحركة الإسلامية ودفعت بموسي محمد احمد وحركة تحرير السودان والعدل والمساواة إلى التمرد وأخيرا أدت إلى شق البلاد والشعب الي نصفين وهي أزمات لم تلدها الإنقاذ وحدها إنما جاء جزء منها من رحم انظمة اخرى متعاقبة ولكن الانقاذ رضعت من ثدي الأزمة اكثر من الأنظمة التى سبقتها بحكم طول عمرها في السلطة مما سببت في تجذر الاسباب لتاخذ ابعاد قومية وإقليمية تتداخل بعضها البعض يصعب فصلها لا نظريا ولا تطبيقا الا من ساذج أو من باب النفاق.
هذه المظاهرات مرتبطة تماما عما يجري في دارفور سلما كان أو حرباً مما تقع على عاتق الدولة مسؤولية إزهاق أكثر من مليون روح وتشريد ملايين اخرين بين اللجوء والنزوح.
انها امتداد طبيعي لذات الثورة في النيل الأزرق وجنوب كردفان التي استمرت لأكثر من ثلاثين عاما وامتدت ألسنة لهيبها لتلاحق كل شبر من الأراضي السودانية ، ولا زالت ذاكرة الأطفال حية بكلمات البشير الحاسمة حين قال بالقسم المغلظ، أن صندوق الذخيرة هو الخيار الأوحد أمامه .
فكيف نقرأها بمعزل عن قوافي احمد هارون الأدبية التي أبدعها في شوطه الثاني للابادة الجماعية في حنوب كردفان مبتدرا بكلمات امسح اكسح وما جيب حي ؟
يجب ألا نقرأ هذه الأحداث بمعزل عما جرت من الأحداث في بورتسودان 2004 التي راحت ضحيتها عشرات الابرياء من الشباب في وضح النهار ليس لذنب اقترفوه إنما فقط تظاهرة عبروا فيها عن حقوقهم .
تتواصل حروف التي كتبت بدم شهداء كجبار و أطفاله الغرقى ومناهضي التهجير القسري وأصحاب المطالب ذات أبعاد شتى في الشمالية على رأسها قضية دفن الحضارات والآثار التاريخية بغرض تغيير ديمغرافي هي أيضا حاضرة في هذه الانتفاضة .
ولا يمكن قراءتها بمعزل عن كلمة الرئيس في عشية تدشين الإبادة الجماعية بالفاشر في مارس 2003 (لا جريح ولا اسير)
ولا يمكن قراءة هذه الأحداث بعيدة عن 5 مليون نازح ولاجئ او بعيدة عن تاريخ السودان الذي كتب وأُسكب فيه حبر غزير واستهلك فيه أطنان من الورق بالرغم من أنه لم يكتب فيه الحقائق التاريخية المرجوة.
لا يمكن قراءة هذه الأحداث بمعزل عن مقررات اسمرا للقضايا المصيرية و غيرها من تلك المواثيق والنصوص اكتظت بذاكرة الثورة.
لذا على الحالمين أن يضعوا في الحسبان جميع مما ذكرتُ ولم تذكر في أجندتهم نجاح الحراك الذي يفتقد لقيادة سياسية متجانسة، من الطيف السوداني شكلا ونوعا بعيدة عن أي نزعات الانتهازية.
في صفحات تاريخنا تتراكم ما يزكم الأنوف من رائحة الاستغلال والاستخدام والاستئجار وغيرها مما يجب تجاوزها لقيادة التغيير .
إذا كانت النتيجة جاءت بما تشتهي سفن الأغلبية وهي سقوط نظام جزئيا. المؤتمر الوطني الحزب الحاكم هو فرع من أحزاب الحركة الإسلامية ، يتطلب المحافظة على المجهود الذي بذل علي مدي ستين عام وهو لا يستثني مجهود الأقاليم المهمشة ان لم يكن هو الأول ، إن كان السقوط القادم اقتصر في الشخصيات الحاكمة فقط كالذي يغير اللاعب لغرض يعرفه كابتن الفريق اللاعب يتطلب دفعاً مستمر حتي لا ينخدع العالم ليبدأ ازالة متاريس من العقوبات بغرض بدء إجراءات التطبيع مع النظام القديم تحت الشخص الجديد . والذرائع تتكاثر من أجل رفع العقوبات في عالم تغلب عليه المصالح على الأخلاق ومطالب الأقاليم المطروحة في منابر المفاوضات لا تزال قائمة ، حاضرة وصالحة في أية محفل وطني.
أما في حال اكتمال أركان السقوط بقطع جميع الحبال من أيادي الحركة الإسلامية يتطلب تنازلات مضاعفة واظهار مسؤولية أخلاقية ووطنية لتأسيس حالة انتقالية تشمل الآراء جمعيها من أجل إنفاذ مشروع يتفق عليه الأطراف السودانية باسترجاع عجلة التاريخ وجعل يومه كلحظة جلاء الإنجليز ليبدأ تأسيس السودان وصياغته بسبل ووسائل مرنة تحتضن المحتويات وعناصره الحاضرة التي غابت لستين سنة ماضية بين ظلم وقتل وتخريب قامت به الدولة في الأقاليم وفي المركز وخاصةً تلك المآسي وحروب الدولة فيها قاسم مشترك ، قائمة المطالب فيها لن تسقط بتقادم ولا بذهاب نظام ما ، إنما مرتبطة بالدولة طالما الجرم يتبع فاعله .
يجب على الثوّار اختزان الالام وبكاء الماضي والحاضر المستمر في ذاكرتهم لمنع تكرارها.
إذن ،ليس الجوع أو صفوف السلع هي من ابتكرت أوابتدعت هذا الحراك إنما هي أيضا إحدى تداعيات الأزمة السياسية الموروثة .
إذا إعترى تعريف هذا الحراك بأي نوع من التوهان سوف ترتد الكرة مرة أخرى وربما هذه المرة العاهة تدوم في جسم الوطن ، والمصير الذي لحق بقضيةً الجنوب لا يزال تجربة فوق كثبان رمال متحركة فيما تبقى من جسم الوطن في سودان اليوم.
منى اركو مناوى
25/12/2018