د. فيصل عوض حسن
أعادني التحقيق الذي نَشَرَته صحيفة التيَّار بعُنوان (عالمُ الأولادِ الحِلْوَات: مَنِ الجَّاني ومن الضحِيَّة؟)، يومي 14 و16 نوفمبر 2018، إلى نقاشاتٍ كثيفةٍ لي قبل سنوات، مع عددٍ من المُتخصِّصين في الاجتماع والنَّفس والتربية، بشأن ازدياد الشذوذ الجنسي وكيفيَّة احتوائه/تحجيمه، حيث أجمعوا بأنَّه يبدأ منذ الطفولة لأسبابٍ/عوامل عديدة، أبرزها التَحرُّش/الاعتداء الجنسي (المُتكرِّر) عبر أشخاصٍ من نفس الجنس/النوع، وإهمال مُعالجة الاختلالات الفسيولوجيَّة والنفسيَّة، بالإضافة إلى البيئة المُحيطة كضعف/غياب دور الأب وتَسَلُّط الأُم، أو نشأة الطفل/الذكر وسط الأُناث دون توعية أو مُخالطة الذكور، والألعاب المُقدَّمة له والبرامج الترفيهيَّة التي يشاهدها وما إلى ذلك.
اتفقنا آنذاك (عام 2013) على إجراء استقصاء ميداني، لمعرفة الأسباب الحقيقيَّة لتَزايُد الشذوذ، وطرح المُعالجات/المُقترحات تبعاً لنتائج الاستقصاء. حيث قُمنا بتصميم استبيان من أسئلةٍ مُحدَّدةٍ ومُباشرة، وتَوَزَّعنا على العاصمة (الخرطوم، أمدرمان، بحري) بأحيائها المُختلفة، واتَّبعنا أُسلوب العَيِّنة العشوائيَّة البسيطة، والتي بلغ حجمها 700 (شاذ/سالِب)، بعد استبعاد الاستمارات غير المُستوفية. ولقد أثبتت النتائج المُتَحَصَّل عليها، الدور (الكارثي) للسُلَّم التعليمي الثُماني في ارتفاع مُعدَّلات الشذوذ، وهو سُلَّمٌ أصَرَّ المُتأسلمون على تطبيقه، رغم الرفض الواسع الذي وجَّهه له مجموعات من الأساتذة والتربويين، لاختلالاته التربويَّة/الأخلاقيَّة والأكاديميَّة الخطيرة، لأنَّه يَجْمَعُ بين أطفالٍ أعمارهم (6-7 سنوات)، مع صِبية لا تقل أعمارهم عن الـ15عام ورُبَّما أكثر، بما يُخالف الأعراف/القواعد التربويَّة والشرعيَّة، بخلاف اختلالات مناهجه الدراسيَّة، وعدم مُواءمتها لفئات التلاميذ العُمريَّة، وعجزها على تلبية حاجاتهم المعرفيَّة.
وبلغة الأرقام، فقد أظهرت نتائج دراستنا الميدانيَّة أنَّ 97.4% من المبحوثين، أصبحوا شاذين نتيجة للاعتداء عليهم جنسياً، الذي تمَّ بنسبة 97.2% (في المدرسة) عبر تلاميذ الفصلين السَّابع والثامن، وأفاد جميع المُعْتَدَى عليهم (في المدارس) بأنَّ الاعتداء كان (مُتكرِّراً) وبالإكراه/الترهيب! وبالنسبة للمُستوى الاجتماعي والمالي، فقد أكَّد نحو 98.6% أنَّه مُتوسط، مما يعني أنَّ غالبيَّة الضحايا من الكادحين! والمفاجأة الأكبر، أنَّ جميع المبحوثين، أي الـ(700 شاب)، أكَّدوا عدم رضاءهم عن أوضاعهم الحاليَّة، أي رافضين (الشذوذ)، وهذا ما ذكره بعض (الضحايا) في تحقيق صحيفة التيَّار المُشار إليه أعلاه، الذين (بكا) بعضهم، تأكيداً لـ(مُعاناتهم) وإحساسهم بـ(مَرَارة) التجاهُل والظُلم الأُسري/العائلي والمُجتمعي!
رغم هذه الكوارث الواضحة، وَاصَلَ المُتأسلمون الإفساد والتدمير، حيث أعلنوا عام 2014 عن إضافة سنةً تاسعةً لمرحلة الأساس، فقمنا بكتابة سلسلة من المقالات وتقديم عدد من المُحاضرات التنويريَّة، بخطورة ذلك وحتميَّة مُناهضته بجِدِّيَّةٍ وقُوَّة، ووجدنا تجاوُباً واسعاً من أولياء الأمور، إلا أنَّ المُتأسلمين عَمَدوا لإرباك الرأي العام، كعادتهم حينما يُفْتَضَح (خُبثهم)، فقد فاجأتنا سعاد عبد الرازق (وزير التعليم آنذاك)، بإعلانها عن إرجاع المرحلة المُتوسِّطة، بدءاً من العام 2015-2016. وللترويج لهذه (الفِرْيَة)، نَظَّمت تلك المُسْتَوْزِرَة مُؤتمراً صُحفياً بوزارة التعليم، حَشَدَت له ترسانتهم الإعلاميَّة الإسْلَامَوِيَّة المأجورة، ولقد حَرَصْتُ على المُشاركة فيه وواجهتُها بأسئلةٍ مُحدَّدة، أبرزها: متى وأين شَيَّدوا (مباني) المدارس المُتوسِّطة وكم بلغت التكاليف؟ وأين المناهج الدراسيَّة، سواء للمرحلة المُتوسِّطة (الجديدة) أو الأساس أو حتَّى الفصل الدراسي التاسع المُضاف حديثاً؟ ومن الذي أعدَّ تلك المناهج ومتى، وأين وكيف ومتى تمَّ قياسها/تَعْييرها، وعلى مَنْ تمَّ القياس (التلاميذ+المُعلِّمون)؟ وما هي نتائج القياس/التقييم والمُعالجات/التقويم؟ وأين المُعلِّم الذي سيقوم بتدريس تلك المناهج، وأين ومتى تمَّ تأهيله (تربوياً/أخلاقياً وأكاديمياً) للقيام بتلك المُهمَّة؟ خاصَّة وأنَّ وزارة التربية كانت وقتها، ولا تزال، تشكو (قِلَّة) المُعلِّمين! والسؤال الأخطر، بأي منطق أو شريعة أو قانون، يجمعون الأطفال الصغار مع الصِبْيَة البالغين، في مكانٍ واحدٍ دون رقابة؟! فاستشاطت المُسْتَوْزِرَة المُتأسلِمة غضباً، ولم تُجِبْ على أيٍ من الأسئلة، وتَرَكَت البُؤساء/المُتملِّقين يُبرِّرون لذلك الخُبث والتدمير (المُتعمَّد) زوراً وبُهتاناً، وهذه جميعها أحداثٌ (مُوثَّقة)!
وقبل شهرٍ ونصف، وَاصَلَ مُعتز موسى تخديرات/تضليلات عصابته الإسْلَامَوِيَّة بشأن السُلَّم التعليمي، حيث أوردت الشروق في 16 أكتوبر 2018، أنَّ مُعتزاً هذا (طَالَبَ) بعودة السُلَّم التعليمي السابق، تبعاً لتوصيات مُؤتمر التعليم عام 2012، و(أكَّدَ) على تجويد طباعة الكتاب، و(نَّادى) بمُعالجة إشكالياته! وهذه في مُجملها تصريحاتٌ (فوضويَّة/إلهائيَّة)، فهل رأيتم رئيس وزراء (مُحترم/صادق)، يتعامل مع مرؤوسيه/الوزراء بعباراتٍ مثل (طَالَبَ، أكَّدَ، نَّادَى)؟! من الذي سيتَّخذ القرار إذا كان هَرَم السُلطة التنفيذيَّة (يُطَالِب ويُنادي)؟! ولو كان صادقاً لَوَجَّه وزير التعليم مُباشرةً، وحَدَّد له سَقفاً زمنياً للتنفيذ، وفقاً لخططٍ واضحة المعالم، تشمل الجوانب الماليَّة والفنيَّة والبشريَّة، كتكاليف بناء/تشييد المدارس (المُنفصلة) لكل مرحلة، ومناهجها وتقييمها وتقويمها، وتدريب وتأهيل المُعلِّمين أخلاقياً/تربوياً وأكاديمياً، وتأمين رواتبهم وغيرها من المُتطلَّبات، وهذه تحتاج ميزانيات ضخمة غير مُتوفِّرة لـ(مُعتز) الآن! ولو كان جَادَّاً، لَأمَرَ بدراسة/معرفة أسباب تأجيل (قرارات/توصيات) مُؤتمر التعليم المُقام عام 2012، وحَاسَبَ المسئولين عن (تعطيلها)!
قد يقول قائل بأنَّ الشذوذ قديمٌ في السُّودان كغيره من الدول، والأطفال يُغْتَصبُون من الجيران أو داخل من الأسرة/العائلة، وليس فقط بمدارس الأساس. أقول نعم الشذوذ كان موجوداً ولكن بنسبٍ بسيطةٍ وإطارٍ مُحدَّد، ولم يكن بالمُستويات المُرعبة الماثلة، وإذا رجعنا لأسبابه الأُخرى (غير الاعتداء)، كالاعتبارات الفسيولوجيَّة والنفسيَّة والبيئة المُحيطة، فسنجدها لا تتناسب مع ارتفاع هذه الظاهرة، حتَّى لو تُوفَّرت (مُجتمعة)! وبالنسبة للتحرُّش/الاعتداء الجنسي داخل المدارس أو خارجها، فقد استندنا على دراسةٍ ميدانيَّةٍ (حقيقيَّة)، مُستوفية لجميع شروط البحث العلمي الرَّصين، لنضمن التشخيص (الدقيق)، غير القابل للتأويلات أو الأمزجة الشخصيَّة، بخلاف أنَّ الأمر الوحيد الذي استجدَّ علينا هو هذا السُلَّم التعليمي الكارثي، الذي (وَفَّرَ) جميع عوامل الشذوذ، بدءاً بِجَمْعِ الأطفال الصغار مع الصِبية البالغين المُمتلئين بالرغبة الجنسيَّة، تبعاً لمرحلتهم العُمريَّة الحَسَّاسة، والأخطر (تكرار) التَعَدِّي الجنسي على الضحيَّة، وفقاً لتأكيدات الذين استقصيناهم بأنَّ المُعتَدِي الأوَّل كان يُكرِّر اعتداءه، ويدعو بقيَّة زُملائه للتَمَتُّعِ بالضحيَّة من بعده، حيث يَنْكَسِر الطفل ويفقد مُقاومته، ويُصبح مُستسلماً للآخرين.
إنَّ دهشتي/صدمتي كبيرة من الآباء، الذين لم يستشعروا حتَّى الآن، (المِحْرَقة) التي يرمون فيها فلذات أكبادهم بأياديهم يومياً، واتساءل كيف يقبلون بقاء أطفالهم مع الصِبية البالغين لمُدَّة سبع ساعات في اليوم، ينفردون بهم وينالون من طفولتهم ويُحطِّمون مُستقبلهم؟! فنحن في الواقع، نخسر (الفاعل) و(المفعول به)، فكلاهما سيُصبح (شاذاً) بعدما يَفْقِد (فِطْرَته) السَّليمة، وسنفقد مُساهمته (الفاعلة) إنسانياً ومُجتمعياً. حيث أفاد المُتخصِّصين في هذا الشأن، بأنَّ الشاذ يتبرمَج على أفكارٍ خاطئة، عقب اختلال الرُّوح وتغيير الغريزة، وإدمان/اعتياد الجسد على الاختلالات السُلوكيَّة، والميل الشهواني للمُتماثل جنساً، فيَنْصَبَّ اهتمامه على (إشباع) رغباته المُختلَّة، ويَعْجَز عن المُقاومة رغم (رفض) الكثيرين لذلك الواقع! ولقد أكَّدنا كثيراً بأنَّ المُشكلة ليست في (مُسمَّى) المرحلة الدراسيَّة، وإنَّما (فَصْلُ) التلاميذ طِبقاً لأعمارهم، حِفاظاً عليهم وحمايةً لهم!
بدلاً من الحَسرة على (ضحايا) الشذوذ، والسُخرية منهم والتَهَكُّم عليهم، لنعمل على إيقاف هذا النَّزيف وإغلاق (رَّافده) الرئيسي، مُمَثَّلاً في السُلَّم التعليمي الإسْلَامَوِي الكارثي، ولنبدأ بإيقافهم عن الدراسة حتَّى يتم إعادة (فرز/تشكيل) التلاميذ في مدارسٍ مُنفصلةٍ وفقاً لفئاتهم العُمريَّة، وبالتوازي نعمل على احتواء ومُعالجة (الضحايا)، وإرجاعهم لخِدمة أنفسهم ومُجتمعهم وبلدهم. وهذه مسئوليَّة تَضامُنيَّة بين أولياء الأمور/الآباء والمُجتمع، وهو حَقٌ أصيلٌ لأولئك (اليُفَّع)، بأن يَنشأوا بفِطْرَةٍ طبيعيَّةٍ سليمةٍ كبقيَّة الخَلق، يُحَقِّقون آمالهم ويرسمون طموحاتهم دون عُقَدٍ وأمراضٍ نفسيَّة. وعلينا إفشال استراتيجيَّات وخِطَطْ المُتأسلمين، الرَّامية لإفساد وتدمير أبنائنا بالشذوذ وانتهاك الرجولة وقتل النخوة والمخدَّرات والتجهيل، وحَرصهم على صناعة شعب خانع وذليل، ومُشتَّت وتائه وشاذٍ فكرياً/سلوكياً، بعدما ضَمِنوا لأبنائهم مَساراتٍ حياتيَّةٍ وتعليميَّةٍ (آمنة).
ليتنا نستشعر خُبث المُتأسلمين واستهدافهم لأبنائنا، ونعمل لإيقافه وتحجيمه بمسئوليَّةٍ وجِدِّيَّة عاجلاً غير آجل. ولقد مَنَعَ بعضنا أطفاله من المدرسة لعجزه عن توفير وجبة الإفطار، والأولى مَنْعَهُم حفاظاً عليهم من الشذوذ، ولتكن هذه شرارة لتغييرٍ شاملٍ يستهدف اقتلاع هذه العصابة التي صنعت جميع أزماتنا، وهذا ممكنٌ جداً لو تَوفَّرت الإرادة والصدق والتَجَرُّد.