د. أمجد فريد الطيب
منذ استقلال الجنوب وعلى مدى السنوات السبع الماضية، مرت حركة المقاومة السياسية بمراحل عديدة من المد والجزر. تمثلت ابرز مراحل مدها في انتفاضة سبتمبر ٢٠١٣، والحراك الذي سبقها في يونيو / يوليو ٢٠١٢. فيما دخل الحراك المقاوم في ركود عميق في الفترة الاخيرة، بالرغم من استمرار وتزايد انسداد أفاق الوصول الي حل السياسي. في يناير ٢٠١٨ دعى الحزب الشيوعي الي حراك جماهيري في رد فعل على ميزانية الحكومة المجازة لعام ٢٠١٨، وهو الحراك الذي نجح في تحريك الشارع بشكل محدود ولكن لم يترتب على ذلك الحراك اَي نتائج سياسية ذات عائد إيجابي على عملية التغيير، على الأقل حتى الان.
لهذا الركود أسباب عدة، منها انشغال منظومات المقاومة من احزاب سياسية وحركات مسلحة ومنظومات مدنية -بمختلف ضروبها- بمعضلات وهموم السياسة الفوقية، وأبرزها سيطرة هدف ضرورة وحدة المعارضة في تحالف تنظيمي واحد على افئدة الجميع. ولعل هذا الانشغال بمهام السياسة الفوقية كان هو ما اقعد الأحزاب السياسية المعارضة بالأساس عن دورها الجماهيري، ومنح الحركات السياسية والاجتماعية الجديدة ومنظومات المقاومة المدنية والقاعدية المطلبية المختلفة المبرر والدافع للوجود بشكل لم يستطع حتى النظام الاعتراض عليه او مواجهته بشكل قانوني، ببساطة لانها كانت تمتلك المبرر الاجتماعي للتخلق والوجود. ولكن ما حدث في ٢٠١٤ وعقابيلها كان ان انشغلت اغلب هذه المنظومات (القديمة والجديدة) عن دوافع وواجبات وجودها الاساسية وانساقت وراء هدف توحيد قوى المعارضة. وقد كان لذلك أسباب ربما بدت وجاهتها في ذلك الحين، ولكن النظر للخلف من مربع الان يكشف ان الأثر الأبلغ لهذا الانشغال تمثل في فقدان الفعالية السياسية لكثير من هذه المنظومات بشكل كبير بالاضافة الي افتراع ساحات جديدة للمعارك السياسية في التحالفات الوليدة، والتي أصبحت هي نفسها نقاط تقسيم وتشظي للحركة السياسية بالاختلافات الناشئة حول تكتيكات العمل السياسي.
أيضا نجح النظام الحاكم منذ يناير ٢٠١٤، في الانتقال الي مربع ان يصبح فعله السياسي هو المؤثر الأبرز والأساسي في الساحة السياسية، وليس الأزمات السياسية التي يمر بها وتقتات عليها تحركات المعارضة/المقاومة، والتي كانت ثانوية ومحض ردود افعال تفتقر الي الرؤية الاستراتيجية والأهداف طويلة الأمد او لا تستند على تراكم عمل وتخطيط مسبق في اغلب الأحيان في كلا المرحلتين. فعلى سبيل المثال، كانت دعوة حوار الوثبة الذي طرحه البشير هي نقطة التحول التي أدت الي كثير من المتغيرات العامة والتي استفاد منها النظام بشكل أساسي. حيث تغيرت بعدها مواقف المجتمع الدولي عموما بشكل واضح باتجاه الدفع بشكل من أشكال التسوية السياسية في السودان، بالاضافة الي تشجعه للانفتاح في العلاقات الدبلوماسية مع النظام السوداني واستيعابه بشكل ما في الاسرة الدولية. وكانت ابرز مظاهر ذلك التغيير المرتبطة بدعوة الحوار، تغيير مهام الآلية الرفيعة التابعة للاتحاد الأفريقي من مجرد التوسط في النزاعات المسلحة في السودان الي تكليفها بالإشراف على الحوار الوطني في السودان. وهو التكليف الذي قبلت به اغلب اطياف المعارضة السودانية وأبدت حينها استعدادها للانخراط مع الآلية الافريقية فيه، ولكن ما حدث بعد ذلك كان الاختلاف حول التفاصيل الفنية وشكل الحوار الذي يرغب فيه كل جانب من أطراف الصراع السوداني، وحول الشكل الذي تطرحه او تستطيع طرحه الآلية الافريقية (ما عرف حينها بخارطة الطريق)، وهو الأمر الذي ادى لاحقا الي انقسام المعارضة وتشتت جمع تحالفاتها في الاختلاف حول هذه الخارطة. ولاحقا لعبت الدوائر السياسية المعنية في أوساط المجتمع الدولي دورا اكبر في تشتيت جمع قوى المعارضة وتنظيماتها، حيث كان لعب المقترح الامريكي لايصال مساعدات (طبية) انسانية محدودة لمناطق الحرب في جنوب كردفان عبر الخرطوم وتحت إشراف أمريكي -والذي تم طرحه بشكل موازي ومنفصل عن مائدة الحوار الافريقية التي ارتضتها الفصائل السياسية السودانية- كمدخل للتفاوض الثنائي حول وقف الحرب في المنطقتين، وهو ما رفضته قيادة الحركة الشعبية آنذاك لعدم واقعية بعض تفاصيله وعدم شموليته، متمسكة بأطروحة الحل الشامل، دورا أساسياً في إشعال النزاع الذي ادى الي انقسام الحركة الشعبية بين فصيلي عبدالعزيز الحلو الذي يطرح مطالب إقليمية خاصة بالمنطقتين، وعقار الذي يتمسك برؤية حل هذه القضايا في إطار الحل الشامل لقضية التحول الديموقراطي في السودان.
ولكن الأساسي في هذا الاستعراض هو ان النظام استطاع فرض فعله السياسي ووجوده في المعادلة كالمحرك الأساسي للمتغيرات السياسية وهو الامر الذي دعم بشدة قوته ووجوده السياسيين.
بشكل مطرد، استطاع النظام زيادة أهميته الدبلوماسية وتسويق اهمية وجوده للقوى العالمية والإقليمية التي كانت بدأت بالفعل في الانفتاح عليه. وذلك عبر انخراطه في اداء ادوار إقليمية وعالمية قد لا تتفق ولا تتصل بشكل مباشر مع المصالح الوطنية السودانية، مثل انخراطه في خطة مكافحة الهجرة الي أوروبا المعروفة باسم عملية الخرطوم، او تعاونه المستمر مع الدوائر الاستخبارية الامريكية والغربية عموما فيما عرف بمكافحة الاٍرهاب، بالاضافة الي انخراطه في الارتزاق العسكري بشكل فاضح في حرب اليمن، وتقلبات مواقفه في الموقف من سد النهضة والذي يشكل أهمية تنموية استراتيجية بالنسبة لاثيوبيا ومعضلة سياسية استراتيجية بالنسبة لمصر. وعمل النظام أيضا كسمسار للعلاقات الدولية في خلق علاقات دبلوماسية واستقطاب الدعم لدول أفريقية مثل يوغندا وإثيوبيا من دول الخليج الثرية (السعودية والإمارات على وجه الخصوص)، وغير ذلك. مما جعل وجود واستمرار نظام البشير هو خيار مفضل يسهل التعامل معه والضغط عليه وابتزازه لخدمة مصالح قوى إقليمية في الخليج والقرن الأفريقي وقوى عالمية في أوروبا وأمريكا. وهو ما استفاد منه أيضا في تقوية وجوده السياسي كأمر واقع إيجابي بالنسبة للقوى الإقليمية والدولية بشكل اكبر.
وفي ذات الحين الذي كان النظام يعضد فيه من وضعه السياسي، استمر الضعف ينخر في جدران عمل المعارضة. حيث ضربت الخلافات السياسية بتحالف نداء السودان الذي اعتمدته المعارضة منصة لوحدتها والتي بذلت من اجلها الغالي والنفيس وصاحب ذلك انقسام موازي في صفوف قوى الاجماع الوطني الذي غادرته التنظيمات التي اختارت كنصة تحالف نداء السودان. واستمرت المعارضة في مزايدة ضعفها عبر الغرق في الخلافات حول تكتيكات إسقاط النظام (دون وجود تعريف واضح لما يعنيه هذا الشعار) وتبادل اتهامات الكسل والتخوين. الشاهد ان الامر انتهى مرة اخرى الي تشتت أطراف المعارضة وفقدان كثير من تنظيمات المقاومة التي انخرطت في جهود توحيدها لفعاليتها السياسية والقاعدية.
بالرغم من كل ذلك، استمرت تنظيمات المعارضة والمقاومة المختلفة في انكار حقيقة ان النظام قوي ومتماسك وقادر على تجاوز ازماته السياسية بفعالية، بالاستناد الي مظاهر الأزمة الاقتصادية ومحاولة تحريك واثارة الجماهير عبرها. وذلك بالاستمرار في ترديد فرضية ان النظام على وشك الانهيار. وبالتأكيد فان النظام يعاني من أزمات داخلية متزايدة، ابرزها الصراع الداخلي حول المناصب وعلى رأسها مقعد الرئاسة، بالاضافة الي صراعات تصفية الحسابات على مستويات متعددة داخل الحزب الحاكم، إلا ان المصالح تجمع بين فرقاء النظام بشكل اكبر، واولها رغبتهم الغريزية في الحفاظ على بقاء نظامهم، مع بروز بعض مطالب التغيير الشكلي، من المبعدين والمبتعدين عن دائرة صنع القرار داخل النظام، ولكنها لا ترقى الي ان تتعارض مع الإبقاء على جوهر النظام.
اما المرتكز النظري المبني على فرضية الانهيار الوشيك للنظام، فيحوي عدة اخطاء في التحليل وما يترتب عليه من خطوط سياسية يمكن إجمالها فيما يلي:
اول اخطاء المعارضة مبعثه فهم شمولي راسخ في مجتمعاتنا لمتغيرات الاجتماع والسياسة، يربط بين الحق وبين القوة. هذا المفهوم الراسخ يدفع قوى المعارضة/المقاومة المختلفة للاستمرار على الدوام في وصم النظام بالضعف والانهيار الوشيك. وتهويل حجم ازماته حقا وباطلا للتدليل على هذا الانهيار المرتقب. ثم تصديق هذا الزعم والبناء عليه. غير ان قوة النظام لا تعني انه على حق، والاعتراف بقوته لا يقود بالضرورة الي التسليم ببقاء النظام او الاستسلام له. بل ان هذا الاعتراف هو المدخل الاول والوحيد لتلمس خطى الصواب في معرفة كيف نقاوم النظام الحاكم وننتصر عليه. فرضية ضعف النظام وتدهوره مستندة الي فرضيات جزئية خاطئة -كما سيتم استعراضه ادناه- والاخطر انها تقود الي مواجهات غير ناضجة ودون اعداد عملي وسياسي كافي، لا ينتج عنها سوى زيادة احباط الجماهير ومفاقمة أزمة فقدان الثقة في آليات العمل الجماهيري.
فرضية ضعف النظام وانهياره مستندة في بنيانها على الأزمة الاقتصادية المعيشية. وتستبطن الفرضية ان هذه الأزمة هي مهدد كبير للنظام وستودي الي انهياره. وهذا التحليل يستند -شكليا ودون تمحيص كافي- الي تجربة انتفاضة مارس/ابريل ١٩٨٥ حين ادى -بحسب طارحي هذه الفرضية- سوء الوضع المعيشي الي خروج الجماهير في مظاهرات واسعة أسقطت النظام الديكتاتوري الحاكم حينها. هذا التحليل خاطئ تماما وفِي شقين: تناوله للازمة الاقتصادية وتناوله لطبيعة النظام (كما هو خاطئ أيضا في التشبيه التاريخي بظرف انتفاضة مارس / ابريل والقوى المؤثرة فيها والعمل من اجل التحضير لها فيما لا مجال للخوض فيه في هذا المقال ولكنه يطرح علينا واجب لاحق لتحليل اخر لظروف وأدوات صناعة التغيير الديمقراطي في السودان). نظام المؤتمر الوطني الحاكم حاليا يتبنى اقتصاد السوق الحر الرأسمالي بشكل كامل وغير مستتر. والطبقة الحاكمة -بالوكالة- هي طبقة رجال الاعمال وتجار او مجتمع السوق، والحكومة الحالية تقوم بخدمة مصالحهم بصورة مباشرة. وهذه الطبقة لا تعاني ولا تتضرر من الحالة التي تم تسميتها بالأزمة الاقتصادية الراهنة، بل هي تساهم في صناعتها وتستفيد وتكسب منها. وبينما يعمد البعض الي الافتراض النيوليبرالي المستورد من الغرب والذي يقول بان تحرير السوق يمشي جنبا الي جنبا مع زيادة المساحات السياسية الديمقراطية. كان اول من طرح فرضية هذه العلاقة بشكل سببي هو صمويل هنتجتون “صاحب كتاب “صراع الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي”، الذي ربط فيه بين الاطروحات والنظم السياسية السائدة في مناطق مختلفة من العالم وبين القيم الحضارية للشعوب، ملمحا الي الديمقراطية التعددية هي منجز خاص بما اسماه بالحضارة الغربية وقد لا يكون ملائما لحضارات الشعوب الاخرى، في مقاله المنشور بدورية هارفارد للأوضاع العالمية في صيف ١٩٩٢، والمعنون باسم: التحرير الاقتصادي وصناعة الديمقراطية: كيف يمكن ان يتطور العالم:Liberalization and Democratization: How the World Can Modernize، وكما عزز هذا الربط لاحقاً الاقتصادي البريطاني جون وليامسون، حين ربط بين الديمقراطية ومبادئ اجماع واشنطون Washington Consensus، التي كان قد صاغها في عام ١٩٨٩ وتبنتها المنظومات النقدية العالمية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وغيرها كوصفة للتنمية على النموذج النيوليبرالي، في مقاله الديمقراطية وإجماع واشنطون المنشور بدورية تنمية العالم في عام ١٩٩٣، كما اعتبر استاذ السياسة في جامعة أوكسفورد أيان ماكلين هذا الارتباط السببي من قبيل المسلمات في أطروحته المنشورة عام ١٩٩٤: التحرير الاقتصادي والديمقراطية: أيهما الدجاجة وأيهما البيضة :Democratization and economic liberalization: Which is the chicken and which is the egg? . وبشكل متسارع أصبحت هذه الفرضية هي احدى الركائز الاساسية التي يعتمد عليها الغرب في نشر الديمقراطية على نموذجه المثال) غير ان هذا الافتراض خاطئ تماما وغير سليم في واقعنا السوداني وفِي دول الجنوب العالمي الأقل تطورا على وجه العموم. حيث ان طبقة رجال الاعمال او ما يمكن ان نسميه بطبقة مجتمع السوق “Business Community” الحالية في بلادنا، هي طبقة محافظة بطبيعة تكوينها وطبيعة عملها المستند على التجارة والاستيراد والبيع المباشر، ولا توجد لديها مطالب سياسية محلية متعلقة بتخفيض رسوم عمليات ومدخلات الانتاج مثلا لأنها لا تقوم بالإنتاج اصلا. اما بقية الرسوم الحكومية مثل الضرائب والعوائد والجمارك وغيرها، فهذه تحلها لها حقيقة ان الحكومة هي اكبر مشتري من السوق المحلي -خذ مثال السيارات، او القمح، او اَي سلعة مستوردة اخرى وستجد ان الحكومة هي اكبر مشتري مواظب على هذه السلع- وبالتالي فان الزيادات الحكومية على السلع يدفعها مجتمع السوق باليمين ويضع تكلفتها على قيمة السلع المباعة للحكومة ليستردها مرة اخرى باليسار، بينما يحافظ هو على هامش ربحه. وبطبيعة الحال، لا تستفيد الحكومة من هذه الزيادة في ظل استمرار صرفها البذخي وتضخم حجم اداراتها المترهلة، التي تمنعها من تقليل هذا الصرف، بالاضافة الي الصرف المتزايد على الرشى والترضيات السياسية الموجهة لصناعة التسويات الشكلانية التي تسمح لها بالاستمرار على سدة السلطة بدلا عن مناهج الحكم الراشد. ولا يتضرر من الزيادة المطردة في أسعار السلع غير المواطن والذي هو مشتري وزبون ثانوي بالنسبة للسوق السوداني، بحيث لا يشكل رضاءه أو التنافس عليه هاجسا للمؤسسة الرأسمالية المحلية. وايضا ادى سيادة هذا النمط الاقتصادي، الي ظهور وانتعاش مجالات جديدة للانشطة الاقتصادية الطفيلية مثل السمسرة والخدمات غير المرتبطة بالإنتاج (المعدوم اصلا) والتي تهدف الي تقليل التكاليف وتقليل الموظفين من خلال اقتصاديات اعادة التوجيه والاعتماد على الموارد الخارجية (Outsourcing economy)، -وهو الامر الذي وصل الي مرحلة تراجيدوكوميدية في ظهور تجارة الشيكات البنكية التي تعجز البنوك عن صرفها لعدم وجود سيولة! فيقوم احد سماسرة التبييض بشرائها نقدا باقل من قيمتها الفعلية مقابل ايداعها في حسابه البنكي الذي يستخدمه لإجراء معاملة بنكية اخرى قد تكون حكومية او سوقية… بالتحويل البنكي دون الحوجة الي سيولة نقدية، مع هامش ربح يكسبه بتقليل قيمة الشيك الأصلي المدفوع لصاحبه). وهو ما يزيد من الفئات المستفيدة والمتنفعة بشكل مباشر وغير مباشر من استمرار النمط الاقتصادي الحالي والوضع السياسي الذي يحافظ عليه. وبما سبق، لا يحتاج مجتمع السوق في السودان الي اعتناق اَي مطالب سياسية محلية تدعم تغيير تركيبة الوضع السياسي الحالي باي شكل في ظل استمرار قدرته على العمل والربح. وعليه فان شعار الأزمة المعيشية برغم من صوابه فهو لا يهزم نظام الموتمر الوطني الحاكم سياسيا. حيث ان هذه الأزمة هي نتاج طبيعي لنجاح سياسات الحزب الحاكم… والغريب بالنسبة لوجوده هو ان لا تكون هناك أزمة معيشية او غلاء أسعار.
مطالب الديمقراطية وحقوق الانسان واتاحة الحريات، هي مطالب سياسية سليمة وتعبر عن حقوق لا جدال حولها، ولكنها تبقى مطالب صفوية للنخب السياسية والحضرية، والتي لم تستطع ترجمتها لمخاطبة الواقع اليومي لبقية فئات الشعب. وغالبية هذه الفئات أصبحت تعاني من مشاكل اكثر مباشرة وإلحاحا من هذه المطالَب الفوقية على أهميتها. هذه المطالَب -ومطلب غلاء المعيشة أيضا- هي مطالب اكثر تعلقا بالطبقتين الوسطى والعليا وهي الطبقات المعنية بالتغيير السياسي بشكله الفوقي. وهي القادرة أيضا على صناعة التغيير بشكله الانتفاضي المستوحى من تجربتي مارس/ابريل ٨٥ وأكتوبر ٦٤، حيث انها تستند الي تراكم مالي يوفر لها غطاء حماية اجتماعية يسمح لأفرادها بالتظاهر والإضراب لعدة ايّام دون ان يتأثر او يتضرر نسقها الحياتي بشكل كبير. هذه الرفاهية الحضرية -اذا صح التعبير- اصبح يفتقد اليها الغالبية -٧٥ الي ٩٠ في المئة- من الشعب السوداني الذي يعيش تحت خط الفقر، ويعتمد على الدخل اليومي من العمل اليومي الذي لا يتحمل الانقطاع. وهذه أيضا هي احد مظاهر قوة النظام وضعف طرح المعارضة والتي اعتمدت التغيير الجماهيري عبر بناء كتلة حرجة من الجماهير الثائرة دون اختيار الشعارات الصحيحة والبسيطة والمباشرة والتي تخاطب قضايا اوسع كتلة من هؤلاء الجماهير.
كذلك فان اطروحات المعارضة فيما تعدده عن سوءات النظام ومخازيه السياسية وانتهاكاته وخلاف ذلك، هي اطروحات محلية. لا تعني بقية العالم في شيء ولن يقوم بالتوقف عن التعامل مع النظام او مقاطعته وتضييق الخناق عليه بسببها. وغير ذلك، فان هذه الانتهاكات بالنسبة للمجتمع الدولي هي من طبيعة النظام الشمولي الحاكم، وعليه فان حدوثها هو من طبائع الأشياء بالسبة للمجتمع الدولي والذي لا يمانع في وجود مثل هذا النظام على شموليته ما دام يخدم مصالحه في الإقليم والعالم وداخل البلاد. فيصبح ترديد هذه المظالم هو مجرد واجب مكرور. وصحيح انه لا يمكن الاستغناء او التخلي عنه وتركه لأنه يحقق -وحقق مرارا بالفعل- مكاسب حقوقية جزئية في قضايا فردية وموقتة مثل اطلاق سراح معتقلين او إيقاف تعذيبهم او غير ذلك، لكن لا يمكن ولا ينبغي التعويل عليه في صناعة تغيير جذري ذو اثر باقي او طويل الأمد، او اكتساب حلفاء دوليين في المعركة ضد النظام. الطريق الوحيد الي اكتساب مثل هؤلاء الحلفاء يمر عبر تقديم سياسات وحلول بديلة لعمالة النظام المطلقة في القضايا المشتعلة في الإقليم وفِي العالم، وهو ما تزال تعجز عنه المعارضة السودانية بشكل يجعل بقية العالم لا ينظر ولا يتعامل معها بجدية. فالعالم يتعامل مع مصالحه واهتماماته فحسب ولا يمارس السياسة بشكل خيري. ولا يتطلب ذلك من المعارضة تبني مواقف متماهية مع مواقف القوى الدولية -مثلما فعلت قوى تحالف نداء السودان بلا وعي منها حين استخدمت اكثر من مرة مصطلح الهجرة غير الشرعية الذي يجتهد الاتحاد الاوروبي لتسويقه من اجل تجريم حالات اللجوء الإنساني ودفع حدوده جنوبا بعيدا عن وصول المهاجرين والهاربين الي أراضيه- بل ان المواقف التي ستكون فعلا جديرة بالاحترام والتعامل الإيجابي والجاد معها ستكون تلك المتعلقة والمبنية على الأجندات الوطنية السودانية، والتي تسعى لمخاطبة قضايا الإقليم والعالم من خلال منظور المصلحة الوطنية السودانية. اَي موقف متكامل من هذه القضايا سيجبر العالم على التعامل معه، ولكن ما لا يمكن اخذه بجدية على الاطلاق، هو عدم وجود هذه المواقف تماما.
نقطة اخرى مرتبطة بطرح وخطاب المقاومة في معارضة النظام هو انها تستند بالكامل على منهج “الشكية” وطرح المشاكل دون طرح حلول او خيارات حلول عملية لما يمكن ان تقدمه لحل مشاكل المواطن عند تغيير السلطة السياسية وبعد إسقاط النظام. وهذا ما جعل شعار إسقاط النظام شعار مجرد من مضمونه وفاقد للسند الجماهيري الشعبي عند الجماهير غير المرتبطة بالسياسي اليومي، ويحدث ذلك على الرغم من تضجرها الواضح من النظام الحاكم والوضع السياسي عموما. وما يجري على شعار إسقاط النظام يجري على شعارات اخرى مثل إيقاف الحرب، والجبهة العريضة للمقاومة… الخ. وهي شعارات برغم صوابها فقدت لكثرة ترديدها دون وجود تراجم مادية لها فيما يتعلق بمطالب وقضايا الجماهير المباشرة في الريف ومناطق الحرب والحضر صدى حيويتها في اذان الناس.
احد اكبر النواقص التي يمكن ان نصفها في كتاب خلل العمل السياسي للمعارضة السودانية، هو في تعاملها مع قضية الحرب. حيث ظلت المعارضة الحضرية من احزاب وتنظيمات مدنية (كما تطلق على نفسها) تتعامل مع قضية الحرب وتطالب بوقفها من منظور تأثيرها الاقتصادي وما يبتلعه الصرف العسكري والأمني من الميزانية، مقابل مقارنة ذلك بما يصرف على قطاعات الخدمات العامة من تعليم وصحة وغيرها، وهي خدمات متركزة بشكل اساسي في المدن والمناطق الحضرية. ودافعها لذلك هو تبسيط قضية الحرب وتأثيراتها لجمهورها المديني، دون وضع اعتبار في احيان كثيرة لكون ان المتضررين بهذه الحرب هم أيضا مواطنون سودانيون يستحقون الدفاع عنهم وعن مصالحهم ومطالبهم بشكل اصيل وليس مجرد ناتج ثانوي. وعلى الجانب الاخر ظلت تنظيمات المقاومة المسلحة، تتعامل مع قضية الحرب كشأن خاص بها وحدها (بالرغم من انها ترفع مطالب قومية متعلقة بإعادة تركيب الدولة السودانية على حد نصوص وثائقها)، وتتعامل مع المواطنين السودانيين في المناطق المتأثرة بالحرب كجمهور (حكر) خاص بها وحدها وهي وحدها التي تحتكر تمثيله وتمثيل مصالحه وتحتكر الحديث باسمه وعنه. ودافعها الي ذلك هو استنادها بشكل أساسي الي التركيبة الاثنية الخاصة بالأقاليم التي تشتعل فيها الحرب، واعتمادها على تصنيف كل الاخر الاثني كعدو، بما يساعدها في خلق الرابطة العاطفية بين جمهورها وبين اجهزة تنظيماتها السياسية. ولعل عدم وجود اطروحات لقضايا التنمية والعدالة في تلك الأقاليم عند الأحزاب والتنظيمات المدنية هو ما جعلها أيضا تسلم بمثل هذه التقسيمة وتركن اليها كسلا عن واجب الاجتهاد لتطوير اطروحات تخاطب هؤلاء المواطنين السوادنيين، او تقاعسا عن مواجهة مطلوبات الطرح الوطني الشامل، او تفاديا لاثارة حفيظة الحلفاء المقاتلين. فتقاسمت تنظيمات المعارضة الوطنية أقاليم الوطن فيما بينها على الصعيد العملي، بينما ظلت تجتهد عبر تحالفاتها في طرح خطاب قومي للحل الشامل العمومي الذي لا يخوض في التفاصيل.
هذا الاستعراض السابق، ليس دعوة تخذيل ولا تراجع عن اَي مواجهة مع النظام الحاكم، ولكنه دعوة لفصائل المعارضة السودانية للبدء في مواجهة صريحة مع الذات ومع الواقع، من اجل البحث عن سبل أمضى وأنجع لخدمة اهداف الممارسة السياسية، والتي هي خدمة وتحقيق مصالح الناس السودانيين في المقام الاول. ما تحتاجه المعارضة هو النظر الي الحقائق السالبة والإيجابية بصدق مع الذات لاجتراح هذه الطرق. والشاهد انه لا يوجد صواب مطلق ولا خطأ مطلق ولكن هناك واقع يحتاج للتعامل معه كما هو، وليس كما نريده او نظنه في عقولنا.