صلاح شعيب
نظام الحركة الإسلامية المسيطر الآن على مفاتيح الحياة في البلاد لم يأت أصلا ليحسن مداولة السلطة سلميا وسط القوى السياسية. ولو كان رموز الإخوان المسلمين يؤمنون بديمقراطية الانتخاب حقا لما اختصروا طريقهم إلى السلطة بانقلاب عسكري. وإذا قرأ الذين ينادون بمنازلة السلطة انتخابيا فكر حسن البنّا، وسيد قطب، وبقية المنظرين، جيدا لما كلفوا أنفسهم مشقة التفكير في إمكانية هزيمة الإخوان عبر صناديق الاقتراع، أو توظيف المناسبة لاقتلاعهم إذا زوروها. ولو أن المنادين باللجوء إلى انتخابات النظام كحل لأزمات الوطن عرفوا كيف يدير الإخوان المسلمون الانتخابات الشكلية على مستوى النقابات، والاتحادات الطلابية، وبعض المؤسسات الاجتماعية، والرياضية، لأدركوا حقيقة معنى الإسلام السياسي. بل إن تجارب آخر انتخابات رئاسية، وجغرافية، أقامها النظام كشفت لنا بالوثائق الدامغة كيف أن التزوير هو جوهر هذا العبث.
ولعل الذاكرة ما تزال تحمل فكرة خج الصندوق خجا متمهلا حتى يملأه المش
رفون عليه ببطاقات مرشحي الحزب الحاكم. فضلا عن ذلك فإن كل هذه الانتخابات السابقة ظلت مسنودة برعاية الحزب الحاكم الذي يمول أعضاءه من مال البلاد، ويجدون كل الدعم اللوجستي الذي يفتقر إليه كل من هو غير مشارك في السلطة. الأكثر من ذلك أننا ندري أنه بعد أن تكتمل الإجراءات الصورية للانتخابات تذهب صناديق الاقتراع إلى دور الحكومة نفسها التي ينافس رموزها، وليس إلى مواقع محايدة. بل إن الذين يحرسون، أو يعدون، بطاقات الاقتراع هم نفسهم الأشخاص الذين يعيشون على كنف الذين يطرحون أنفسهم للفوز بالانتخابات. ولذلك لم تشهد البلاد طيلة نشوء فكرة انتخابات الإخوان المسلمين أي اقتراع يقوم على الشفافية التي ظللنا نشهدها في بعض فترات الحكم الوطني. ويجدر التذكير أن هناك مرشحين تابعين للحركة الإسلامية نزلوا ضد رغبة زملائهم الممسكين بالسلطة ولكنهم شكوا من التزوير الذي عبث بأصواتهم. فإذا كان الاسلاميون يزورون ضد بعضهم بعضا في انتخاباتهم داخل التنظيم وضد قواهم الأخرى التي انسلت من الحركة الاسلامية فكيف يكون الحال حين يتنافسون مع خصومهم الطائفيين، والأيديولوجيين، والمستقلين.؟
إن كل انواع الانتخابات التي يجريها الإسلاميون هي الغش عينه، والذي يحسنونه، وللأسف يأخذ بألباب بعض سياسيينا، ومن ينشطون في مساحة التفكير الاستراتيجي. فالانتخابات وحدها مهما كانت شفافة لا تخلق تداولا سلميا لمناصب المؤسسات في القطاع العام، أو الخاص. فهي جزء من كل منظومة النهج الديموقراطي. وإذ إن أي انتخابات لا تبقى نزيهة إلا في نظام ديمقراطي كامل الدسم، فإن غض الطرف عن لوازمها الأخرى إنما هو مضيعة للوقت إن لم يكن حرثا في البحر. فالذين يتنافسون لنيل ثقة الناخب لا بد أن يكونوا معا على قدم المساواة في قدرات التمويل، ومساحات الحرية. فمرشحو النظام يستندون على “كسبهم المادي المخصوص من الدولة” وتعين حركتهم أجهزة إعلامية حكومية وخاصة، ومنظمات مجتمع مدني مدعومة من الدولة، وهناك إعانات أخرى مستترة. وبطبيعة الحال لا يقف المشرفون الفنيون على العملية الانتخابية ضدهم، إضافة إلى أن مؤسسات الشرطة، والأمن، لا تعترضهم، أو تعوق سعيهم للفوز. بجانب ذلك فإن الدولة بطبيعة نهجها هي دولة الذين ينافسون خصوم الإسلام السياسي في انتخابات الرئاسة، أو الاتحادات النقابية، والدوائر الجغرافية. إذن فعمليا تصعب منافسة مرشحي الحكومة في الانتخابات الماضية وكل التي ستعقبها لتزوير الإرادة الشعبية، وحيازة الشرعية الدستورية التي ما تزال تمثل عقدة للإسلاميين.
يتضح أن الذين يقولون بأن مشاركة المعارضة في انتخابات الرئاسة ستنشطها حتى إن لم تفز سيتوقفون الآن من إنتاج أي نوع من التأمل لخلق بدائل للتعامل مع النظام طوال العامين القادمين. أي المطلوب منا أن نحطم آمالنا حتى في الانتفاضة حتى نريح أعصاب النظام بأنه لن يصاب بأذى طوال هاتين السنتين ما دامت الاستراتيجية المعارضة ستبنى منذ الآن لخوض الانتخابات.
إن البحث عن استراتيجيات لتنشيط المعارضة لا يكمن بالضرورة وحده في الهرولة نحو مشاركتها في الانتخابات القادمة على ما في ذلك من مغامرة انتحارية سيوظفها النظام لإنهاء عقدة شرعيته.
إن مشكلة ضمور الأحزاب التقليدية وسائر أحزابنا الأخرى عضوية. فهي عاجزة عن زيادة قواعدها، إن لم نقل المحافظة عليها، والتواصل معها لأسباب شتى، الجوهري فيها أن النظام الاستبدادي يتحمل جزء من المسؤولية عن هذا. فضلا عن ذلك فإننا نلاحظ أنه منذ مباركة السيدين لأبنائهم لأن يكونوا جزء من السلطة أفقرت معارضتهما. فإذا كانت زعامة حزب الأمة قد ضمرت بعد مشاركة عبد الرحمن في السلطة فإن الحزب الاتحادي الأصل، وعددا كبيرا من فصائل اتحادية اندمجت مع السلطة وتماهت فيها. أما بالنسبة للحزب الشيوعي، وحزب البعث، فإن تعويق كوادرهما في العمل العام والخاص، فضلا عن الانشقاقات عطل ذلك النشاط المؤثر. وبالنسبة للحركات المسلحة الرئيسيّة فلا اعتقد أنها نمت تواصلا مع قواعد في مناطق النزاع ناهيك عن سائر بلاد السودان. إذن فهذه المشكلة العضوية المتعلقة بتجذير القوى السياسية لنشاطها عبر القواعد الشعبية هو محك الإخفاقات المستمرة للحركة الوطنية. والحقيقة أنه رغم أفضلية ظروف ما سمي التحول الديموقراطي إبان تنفيذ اتفاق نيفاشا بالقياس للظروف الحالية فإن الأحزاب التقليدية عجزت من الاستفادة من ذلك المناخ لإحداث اختراق في التأثير المفارق على الرأي العام. ولعلها عجزت حتى من إصدار صحف مؤثرة تصل لقواعدها، وهي التي تدعي أنها ما تزال حينها تملك قواعد متينة في الريف والحضر. ولذلك يبقى من الخطل أن نتصور أن هذه الأحزاب، وبقية فاعليات المجتمع المدني المعارضة، قادرة على تحريك الشارع إبان الانتخابات، خصوصا أن للنظام قرابة ست فضائيات، ويسيطر على الأجهزة الإعلامية. وهناك عشرات من الصحف الموالية له بالإضافة إلى ذلك فإن قوانين النظام للعمل الصحفي تهدف للمزيد من التضييق، وما يزال البرلمان ينتظر مناخا مواتيا لإجازة قوانين في منضدته لمحاصرة نشاط شبكات التواصل الاجتماعي.
إننا لا نتخيل أنه في خلال العامين القادمين ستعمل أطياف أحزاب المعارضة في الإعداد للانتخابات بشكل جيد إذا سلمنا بجدواها. فهذه الأحزاب تعاني من خلل أساسي في ممارسة الديمقراطية داخل أجهزتها، والشواهد كثيرة، ولذلك تبعثرت إلى جماعات بعضها يشارك السلطة في التزييف. ولا بد أن الحركات المسلحة قد ضعفت لعوامل عديدة، وحتى إن نجح علي الحاج لجلبها للسلام مع الحكومة فلا نتخيل أنها ستحدث اختراقا في ما يتعلق بتنشيط القواعد الشعبية التي لم تختبر حجمها.
إن انتخابات 2020 تمثل إضافة لمحاولات تزييف الإرادة السودانية، ولا يحتاج أي رجل راشد أن يتصور أن الإسلاميين سيتنازلون طوعا للمعارضة لقيادة البلاد عبر صنيعهم الانتخابي. ومن ناحية أخرى لا نتصور أيضا أن الانسحاب في آخر لحظة سيقوي المعارضة، أو يهدد وجود النظام. والذين يضربون الأمثلة بما جرى في هذا الخصوص في بلدان من حولنا يبدو أنهم لم يدركوا نازية النظام السوداني، واستعداده لإبادة أكبر قدر من المتظاهرين كما حدث في ثورة سبتمبر. ولذلك اعتقد أن مشكلة التغيير لا تكمن في استبدادية النظام وحدها، وإنما تكمن في الأساس في فشل قوانا السياسية في تكوين مظلة قومية مستقرة لإحداث اختراق في المشهد السياسي منذ الثلاثين من يونيو. فصيغ تحالفات التجمع الوطني، والإجماع الوطني، ونداء السودان، وباريس، وميثاق الفجر الجديد، عجزت عن خلق تناغم في وحدة المعارضة السلمية، ووحدتها أيضا مع الحركات المسلحة. ولا نظن أنه في ظل تصارع الأجندات وسط هذه القوى أن يقوم للعمل التحالفي قائمة ما لم يستشعر القادة السياسيين أهمية تقديم التنازلات لصالح مقاومة النظام.
لا شك أن المنادين بخوض المعارضة للانتخابات القادمة يحسنون الظن في الخطوة، ولكن من خلال النظر لقرائن الأحوال يبدو أن الأولوية الأساسية للعمل المعارض هي معالجة نواحي الضعف التنظيمي المستشري. وهذه خطوة لازمة لإحداث تغيير ممكن، ومستدام، ومبني على أرضية صلبة. والحال هكذا ربما وجدنا أن افتقاد النقد الذاتي داخل كياناتنا القومية يمثل أس الضمور الذي لحقها طوال تجاربها التاريخية. فلا يستقيم الظل والعود أعوج. فأحزابنا الرئيسية ما يزال يقودها من بلغوا الثمانين من العمر، وليس هناك بوادر أمل لخلق نقل سلس للقيادة للأجيال الجديدة. وهنا تكمن العناصر المؤدية الى الفشل في تفعيل الأحزاب، بل إننا نلحظ كل يوم مساع حثيثة هنا وهناك للاصطراع حول وراثة السيدين بكثير من التهافت. ولا نتصور أنه في أجواء كهذه ستمتلك قوانا السياسية القدرة على جلب الجديد في المشهد السياسي، ناهيك عن منازلة نظام متمكن في كل شبر من أرض البلاد.
خلاصة المقال أن بناء الأمم أمر شاق، ويحتاج إلى رجال ونساء دولة ذوي بال طويل، ومثابرة خلاقة في تحقيق التغيير في العقول أولا. ومخطئ من يظن أن ثلاثين عاما من فشل المعارضة في إسقاط نظام استبدادي تمثل معضلة بلا حل. فالبناء الوطني يستغرق قرونا عددا كما دلت التجربة البشرية، وهذا يتطلب من الذين ينشدون تحقيقه أن يعملوا أولا على معالجة الخلل العضوي في تركيباتنا السياسية الذي يتوسد بنية تاريخنا الوطني. ومتى ما عالجنا أزمات أحزابنا التنظيمية فإنها ستتمكن حتما من إحداث التغيير.