وليــد تقــل
الثورة ،عادة ما تنتج بعد إستنفاد الوسائل المرنة والطرق السلمية ، حتى إذا باتت كل سبل الرشد السياسي والأخلاقي للنظام القائم ، بكل تسمياته (ديموقراطي ــ ديكتاتوري ــ إنقلابي ) ، مسدودة حينها تكتمل معادلة الثورة ؛ذلك بعد تمحيص وتقليب للخيارات ورؤى متعمقة . فهي عملية إصلاحية مستمرة لا تتوقف عند مرحلة الإشتعال ، ولا يبددها تطاول الأمد فحسب، إنما تستمر حتى نهاية أشواطها عبر الطريق الذي إختطته لنفسها ، وصارت بسببه شخصاً معتبراً ، لا تحدها الإصلاحات الجزئية ذات المقدار الصغير، ولا يضيرها تساقط الأجزاء الغير قابلة لتحمل الأعباء. كما لا يمكن للفئات البيروقراطية الموصوفة بالتأثير أن تنال من غايات الثورة إلا بقدر ما يرتضيه طموح الثورة ذات نفسها ؛ وليس طموح قادتها !!.
طبيعة الواقع السوداني ، والذي ليس له مثال يُحتذى به ، هي طبيعة ذات ملمح تعقيدي يتطور ليفضئ إلى تعقيد أكبر ، كون عنصر الإنسجام ـدعك عن الإنصهار ــ معدوم أصلاً .فما يقارب البضع وثمانون قبيلة ،تعيش في مناخات متعددة ، من حيث التكوين النفسي ،ومن حيث التقارب التقاليدي ، لا يمكن أن تدار بعقلية مركزية ، رموزها وشخوصها الفاعلين لا يتجاوزوا الثمانمائة بالكاد ،يتداولون الوظائف الروتينية ومراكز الإتصال بالعالم الخارجي ، ويفشلون في توفير رغيف الخبز ، تارةً ينشئون تحالفات تجارية إقتصادية إستثمارية ، يطلونها بغطاء السياسة. وطوائف متعددة من الجياع والمحرومين تقوم بعملية إسناد هذه الإطماع ، وهي صامنتة لا تلوي على شئ إلا طمعها في عيش كريم وحال مستور.تصارع تخاريف الخصخصة بإمعاء خاوية وصدور عارية مهترئة، تلهبها نيران العنصرية ويفت عظامها الناموس والباعوض.لا ترغب هذه القطاعات الواسعة من المكلومين في سماع أخبار اللات الكاذبة ولا المصالحات الإستثمارية.
أمراض التوهم على إجمالها صارت فزورات ومغالطات يطلقها جزء الكل ليصدقها عامة الناس دون وازع أخلاق أو ضمير سليم ،عليه لابد من إستئصال الخلايا السرطانية فوراً لكي نحافظ على ماتبقى.وأمراض التوهم هي متلازمة تصيب الجسم بفقدان المناعة فمرض (النيوراستينا) أو الإعياء النفسي والإحساس بالتعب والإرهاق الجسدي والنفسي فيشكوا المريض التعب لأقل جهد ، هذا هو حال المتوهمين ، أما المقابلين لهم من التيارات السياسية فهي لا ترضى تنافساً يكلفها جهداً ، بل تريد خطب ود السلطة بأفل المجهودات ، هذا من ناحية ، ومن الناحية الأخرى تتلبسها أوهام الكيد السياسي وعداء المختلفين عنهم في المعتقدات والمنطلقات الفكرية والسياسية ، حتى يقوموا بعملية التعمية والتضليل خوفاً من ضياع الحكم وبذلك يقومون بعملية إختطاف إستباقي .
في خضم السجالات والمناكفات المبررة لعملية التسابق حول السلطة تجلى بيع الكلام والإفتراء الرخيص في التصريحات التي أطلقها الناطقين وغير الناطقين بلسان التيارات السياسية ، تبريراً للرغبة الجامحة لوراثة الحكم وتبديل المقاعد ،إذ ليس من الأخلاق أن يتبنى حزباً ما أو جماعة سياسية خطاً ثورياً يذهب إلى أقصاه في مبارزة النظام الديكتاتوري ردحاً من الزمان ، ثم لا يكمل ليلته النضالية تلك ؛ إلا ويخرج على الناس بقائمة من المبررات يسكبها على الوجوه بكل برودة دم ليبرر بها هذا التيار أو ذاك موقفه من ذات النظام !!
إذن ، عملية أو حيلة الإزاحة في نظر العامة ، باتت مكشوفة، فلا يمكن أن يصدق الناس ــ كل الناس ــ هذه المبررات ويتبعونها إلى منتهى الغياهب فقط لرغبة هذه التيارات في الولاء فلا يوجد حاجة لمزيد من الكفاح والصراع من أجل تحقيق الأهداف التي يصعب تحقيقها ومعني ذلك أن القلق الذي يثار من هذا الموقف، لا معنى له ،إذ يجب على الثوريين الحقيقيين نفض أياديهم من هكذا نطاق ، والذهاب فوراً صوب التجمعات الثورية ليقودونها بأنفسهم ،حيث لا سيّد ولا مسود (سيّد نفسك مين أسيادك ) من هنا يبدأ تصحيح المسار الثوري من أولئك الذين يتركون الأبواب مؤاربة ، فالنضال لا يعرف الإنتصاف والثورة مستمرة.
ونسمع في الأخبار المنقولة بتصرف وتدخل تجميلي من قبل أجهزة نظام الإبادة ، أن مسألة الحكومة القومية وليست الإنتقالية !! متفقٌ عليها ، وتارةً نسمع مقترحات حكومة تكنوقراط ، فالملاحظ هو أن هذه الأحاديث والتي تصلح لأن تكون محض (قوالات) تخلو من أي حديث عن إيقاف الحرب أو توفير الخبز أو حتى إطلاق الحريات ، حيث لا يزال الناشط الدارفوري (تاج الدين عرجة) معتقلاً لدى أجهزة النظام ولا تزال الطائرات تطلق حممها فوق رؤوس اليتامى والأرامل ، هذا وضع طبيعي للتيارات السياسية ، التي ما ناصرت قضية الا وكانت غايتها ذاتية شخصانية ، بالطبع لا يُرتجى من الذين رفضوا بند التمييز الإيجابي للمناطق المهمشة والمكتوية بالحرب ، كما جاء بميثاق الفجر الجديد ، طبيعي أن يتكلمون في أمور خاصتهم ، تدور حول المشاركة والمشاركة في الجهاز التنفيذي تحديداً ، لاسواها.
تبقى من كل هذا الهرج السلطوي والتوهم المرضي ، أن نستخلص العبر وننفض أيادينا كنشطاء وسياسيين وكفاءات ننتمي الى مثل هذه التيارات ، بل ولا يكفينا الفئ الى المد الثوري فحسب ، إنما القيام بحملة توعوية إستقطابية كبرى حتى لا تتبعثر الأوراق وتصير قضايانا العادلة في مهب الرياح المتلاطمة من كل جانب.
[email protected]