دارفور المحرقة الجديدة ومعادلة الحياد والانحياز
بقلم حسن إبراهيم فضل
لم يفق المجتمع في دارفور من كابوس القتل والتشريد والتهجير والابادة الجماعية التي جرت فصولها قبل عقدين من الان والتي وقعت بين عامي 2003 و2004 والتي راح ضحيتها اكثر 400 اربعمائة الف مدني ونزوح ولجوء اكثر من مليونين انسان الى دول الجوار في شرق تشاد وغيرها , حتى عاد ذلك الكابوس مرة أخرى وبصورة اكثر بشاعة وبطريقة منهجية تنذر بمستقبل غاية في القتامة.
صور وفيديوهات وتقارير صادمة عن قتل منهجي وانتقائي نفذتها قوات الدعم السريع ومجموعات عرقية مرتبطة بها في مناطق واسعة من ولايات دارفور خاصة في ولايات غرب ووسط دارفور وجنوب دارفور, فضلا عن تقارير لكبريات المؤسسات الإعلامية والمنظمات الدولية التي نددت بتلك الفظائع وحذرت من إبادة جماعية جديدة تهدد المدنيين في دارفور ومناطق واسعة من السودان في ظل استمرار الحرب التي تدور رحاها بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع المتمردة عليها و التي ارتكبت فيها فظائع كبيرة من قبل في الخرطوم ومدن اخرى .
وفي احدث تقرير لها قالت المنظمة الدولية للهجرة, ان هناك تقارير أفادت بمقتل نحو 700 شخص في غرب دارفور بعد اشتباكات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في الجنينة خلال يومي الرابع والخامس من نوفمبرالجاري, ونشرت صحيفة الواشنطن يوست تقريل بعنوان( جيل جديد يواجه إبادة جماعية محتملة في دارفور) شملت مقابلات ورويات لناجيين من تلك المحرقة رووا قصص صادمة لما جرى وما زال يجري في ولاية غرب دارفور في منطقتي ادري وازرني بالإضافة لتقرير اخر بثته قناة الس ان ان والتي أظهرت دفن اسرى ومدنيين وهم احياء في قبور جماعية.
وحذر مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد جوزيب بوريل عن تقارير -نقلا عن- شهود أفادوا بمقتل ما يزيد على ألف شخص من قبيلة المساليت في أردمتا بولاية غرب دارفور، خلال ثلاثة أيام فقط في هجمات شنتها قوات الدعم السريع ومليشيات تابعة لها وقال بوريل “تبدو هذه الأعمال الوحشية الأحدث من حملة تطهير عرقي أوسع نطاقا تنفذها قوات الدعم السريع بهدف القضاء على مجتمع المساليت غير العربية و لا يمكن للمجتمع الدولي أن يغض الطرف عما يحدث في دارفور، ويسمح بحدوث إبادة جماعية أخرى في هذه المنطقة.
هذه الفظائع المرعبة دفعت الحركات المسلحة الموقعة على السلام في جوبا عاصمة جنوب السودان الى اعلان خروجها عن موقف الحياد الذي التزمت به منذ اندلاع الحربي بين الجيش والدعم السريع في 15 ابريل الماضي, وأعلنت تلك الحركات في مؤتمر صحفي عقد بمدينة بورتسودان الساحلية في شرق البلاد خلال مؤتمر صحفي عن خروجها عن الحياد ومشاركتها في العمليات العسكرية في كل الجبهات دون تردد، وادانت بشدة انتهاكات الدعم السريع وممارساتها المعادية للوطن والمواطن والجرائم ضد الإنسانية بما فيها حق الحياة.
وأكدت على تمسكها المطلق بوحدة السودان أرضا وشعبا ولن تفرط فيها وقالت ان وحدة السودان دونها المهج والارواح ولن تسمح بتمرير أجندة تفكيك السودان الجارية الآن ، كما لن تسمح بأن تكون دارفور بوابة لتفكيك السودان.
ان التطور في مجريات الحرب في السودان التي امتدت لأكثر سبعة اشهر شهدت فيها انتهاكات واسعة ضد المدنيين وممتلكاتهم , التزم خلالها الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق جوبا لسلام السودان الحياد فيها ,غير ان دخول تلك الحركات المسلحة اليوم في هذه الحرب التي اعتقد انها دفعوا اليها دفعا بسبب الاستهداف الصارخ للمدنيين من قبل قوات الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها وبحكم مسؤولية هذه الحركات الأخلاقية والوطنية فضلا عن الضغوطات المجتمعية من قواعد وحواضن هذه الحركات باعتبارها حركات ثورية ناضلت لعقود من اجل إرساء قيم السلام والاستقرار والعدالة لا يمكن لها ان تتفرج على أولئك الذين قاتلت عنهم لسنوات وهم يبادوا بطريقة منهجية وانتقائيةوفي ظل سقوط كبريات المدن وحواضر الولايات في يد الدعم السريع مترافقة مع انتهاكات جسيمة ضد سكان تلك المدن والمناطق التي احتلوها.
لكن حصار مدينتي الضعين و الفاشر التي تمثل والقيمة المعنوية والرمز المقدس لحضارة أهل دارفور وتمثل علامة فخرها وتاريخها كواحدة من السلطنات التي ارست قيم الإنسانية والبسالة غيرت كل المعطيات على الأرض مع دخول الحركات المسلحة على خط المواجهة في ظل استمرار جرائم ارتكبت على أساس عرقي من قوات الدعم السريع وما تشهده أجزاء من إقليم دارفور من حروب قبلية بينية ما زالت مستمرة حتى امس الأول خاصة في جنوب دارفور والتي وقعت بين قبيلة السلامات والبني هلبة وهما قبيلتان تصنفان على انهما عربيتان وعلى الرغم من ابرام اتفاق هش في مدينة كاس بولاية جنوب دارفور برعاية قائد ثاني الدعم السريع الا ان تلك الاشتباكات لم تتوقف وقد امتدت الى مدينة برام حاضرة قبيلة البني هلبة والتي تفيد التقارير عن سقوط اكثر 180 شخصا بين الطرفين بين قتيل وجريح بين القبيلتين.
وبالتالي نذر نشوب حرب قبلية بين مكونات دارفور العرقية واحتمالية وقوعها واردة بنسبة اكبر بعد دخول الحركات المسلحة الى هذه الحرب لما للإقليم من تعقيدات اثنية وقبلية معقدة يغذيها الجهل والانتصار للقبيلة وهو مؤشر خطير ينذر بحرب شاملة سوف لن تقف عند حدود السودان او دارفور للتداخل القبلي بين دول الجوار , وقد تجلى ذلك بوضوح في الحرب التي دارت في الخرطوم ودارفور ومشاركة المئات من عناصر قبلية من دول الجوار من تشاد والجنوب الليبي فضلا عن دول الجوار الافريقي كمالي والنيجر والذي عقد المشهد وفرط العقد حتى لدى قيادة الدعم السريع الذي اصبح لا كلمة لها ولا تستطيع السيطرة على تلك العناصر التي لا تنصاع لاي أوامر باعتبار انها ليست قوات نظامية وانما مليشيات قبلية اعتادت النهب والسلب في دولها والارتزاق في دول الجوار.
هذه المؤشرات اليوم تقود إلى احتمالين اثنين يتوجه لها المشهد السوداني:
1- الاحتمال الأول وهو مرجح بدرجة كبير في ظل المعطيات على الأرض وهو هجوم قوات الدعم السريع على المدن التي يحاصرها اليوم في دارفور كالضعين والفاشر والتي تمثل رمزية خاصة لأهل دارفور ويرى البعض ان استباحتها تعتبر جزء من استباحة كرامتهم وبالتالي يجب ان يفعلوا كل شيء من اجل حمايتها او الفناء دونه وبالتالي ستكون شرارة الحرب العرقية الشاملة والتي لا تقتصر على الجيش والحركات المسلحة فقط بل ستدخل كل المكونات العرقية في دارفور وامتداداتها في دول الجوار وهذا هو السناريو الأسوأ والذي سيمتد تداعياتها الى جميع دول الجوار السوداني بلا استثناء.
2- أما السناريو الثاني فهو نجاح المبادرات المطروحة ومنبر جدة في الوصول لوقف و لو مؤقت لإطلاق النار يلتزم فيه الدعم بوقف استهداف المدن وان يلتزم كل طرف في مواقعه التي فيه اليوم ومواصلة الجهود للوصول لوقف اطلاق نار دائم وهذا سناريو مرجح أيضا بدرجة كبيرة لان الدعم السريع ان هاجمت الفاشر ومهما كانت القوة التي ستهاجم بها ستكون خاسرة ليس فقط عسكريا ولكن أيضا تزداد الضغوط المحلية والإقليمية والدولية عليها خاصة وان هذه القوات تعتبر الانتهاكات مهمة أساسية لها وبالتالي ربما تعجل بدخول قوات إقليمية او دولية للسودان وربما تعجل بالملفات الحقوقية في جرائم الإبادة العرقية التي ارتكبوها الى المحكمة الجنائية الدولية.
هذا الواقع يتطلب مواقف ومبادرات وطنية جدية بعيدا عن مناورات المصالح الحزبية واجترار خلافات وخيبات الماضي والذي تعتبر هي السمة في كل الأنشطة التي تقيمها القوى المدنية والأحزاب والتكتلات التي تتكاثر كما الارانب وكل صباح يظهر تكتل جديد بذات المضمون والمحتوى من الخيبات وفقدان الاتزان الوطني.
ويظل الأمل في إنهاء الكابوس السوداني الذي دام لعقود مرهونا بتسوية يجمع جميع أطياف الشعب السوداني ومكوناته السياسية والاجتماعية والعرقية والدينية، لأن “الحرب الأبدية التي لازمت الدولة السودانية منذ قبل الاستقلال” ستفاقم بؤس الشعب السوداني المغلوب على أمره والذي دفع وما زال يدفع ضريبة مكلفة للصراع في أشلاء الدولة التي لم تلتئم بعد والتي تنذر بتقسيم السودان لكنتونات قبلية وهو سناريو وهدف بعض الأطراف التي تقود الحرب الان وداعميهم.