صلاح شعيب
ما هي التحوطات التي يمكن أن تتخذها – أو اتخذتها بالفعل – القوى السياسية المعارضة، سلميا، وعسكريا، في حال توقع حدوث انقلاب عسكري مفاجئ على سلطة البشير في مقبل الأيام؟ وكيف يكون رد الفعل الذي يمكن أن تقابل به جماعة البشير فقدانها السلطة؟ بل كيف يمكننا تصور ماهية محاذير القوي الإقليمية، والدولية، لهذا السيناريو؟ وكيف يمكن أن يؤثر الانقلاب نفسه، سواء كان إسلامويا، أو غيره، في مجمل الأوضاع في البلاد، والمنطقة عموما؟ وهل يمكن أن يشكل هذا الانقلاب المتوقع بداية النهاية لسلطة الدولة المركزية، ودخولها في حالة شلل تام ينهي وحدتها الإدارية التاريخية؟ أم أن هذا الانقلاب ربما يعيد ترتيب الصراع حول السلطة، والثروة، والنفوذ، في البلاد وصولا الى حل نهائي لأزماتها؟ وهل يمكن بالأساس التفكير في إمكانية حدوث انقلاب من أساسه، أم أن كل التحليلات التي تصعب حدوثه أغفلت عاملا حاسما (ما) ربما وحده يعزز خطأ هذه التحليلات، وقصر نظرها؟ وإلى أي مدى تتطابق الأجواء المتوترة في البلاد الآن مع أجوا أدلهمت فيها أوضاع النظم الديموقراطية، والعسكرية، السابقة، والتي كلها تمخضت عن إذاعة بيان عسكري؟ وأخيرا، وليس آخراً هل هناك حقا خلافات عميقة وسط قادة المؤتمر الوطني، وذلك ما قد يؤدي إلى كمون قناعة – في ركن قصي من التنظيم – بضرورة التحرك لاستلام السلطة بحجة أن استمرار سلطة البشير يمثل تهديدا مباشرا لمصالحها؟
أسئلة مكثفة من هذا القبيل ربما تصبح أحيانا مصدرا للتأمل لكثير من الأفراد في مستوى تحليلهم الشفاهي، أو جلساتهم في صالونات “الونسة”، وربما لا تشغل بال كثيرين. ولكن على كل حال تظل مراحل الإنقاذ عرضة للأسئلة مهما وجدت إجابات سابقة، ومتنوعة، ومشكلة، حول إمكانية حدوث انقلاب، أو عدمه.
ففكرة الانقلاب ظلت عند بعض المراقبين سيناريو محسوبا في ظل حالة الجمود التي صارت سمة الساحة الوطنية، ذلك في وقت وصلت فيه قضايا البلاد السياسية، والاقتصادية، والأمنية، إلى مستوى غير مسبوق من التردي. أما إلى أي مدى يمكن أن يتحقق الانقلاب، ومن ثم يعيد البلاد إلى مرحلة جديدة من خلط الأوراق، والمواقف، والتوقعات، فهذا أمر يدخل في باب الخلاف بين الذين يرون إمكانية تحقق هذا السيناريو، وبين الذين يرون أن الإنقاذ عملت بما فيه الكفاية لسد الذرائع داخل المؤسسة العسكرية حتى لا تتخلص من واحد من قياداتها العامة.
ومع ذلك يمكن أن يأتي الانقلاب علي سلطة البشير من خلال الكوادر الوسيطة من الإسلاميين الذين حلوا محل الذين خاف قائدهم العام من أن ينقلبوا عليه من جماعة العميد ود ابراهيم، وصلاح قوش، أو خلافها. فما دام أن الخلاف الذي استعر بين الإسلاميين أكثر من مرة قد لحق المؤسستين العسكرية، والأمنية، فما الذي يمنع أن تكون هناك جيوب داخلهما قد تفكر في التخلص من النظام العقائدي، آخذين في الاعتبار هنا أن الإجراءات التي سبقت إعداد البشير للانتخابات المقبلة قد أبانت أن أقرب الذين من حوله قد صوتوا ضده، وأنه لولا الطريقة التي بدا عليها انتخابه الصوري عبر مجلس الشوري لضاقت فرص حصوله علي الصدارة عبر المؤتمر العام للحزب الحاكم.
حقاً أن الكوادر الإسلاموية داخل الجيش، والأمن، لا تعيش في جزيرة معزولة عن زملائهم المؤدلجين في الخدمة العامة، والقطاع الخاص، والإعلام، والاقتصاد، والتجارة، وغيرها من المجالات التي تتناوب فيها كوادر تنظيم الحركة الاسلامية حمل ثقل السيطرة علي السلطة. إنهم متورطون من أخمص قدميهم حتي أشعث رأسهم في كل ما يتصل بالسياسة داخل حزب المؤتمر. أوليس هم الذين يتحدرون من عشائر مشغولة بورطة ضنك العيش غصباَ عند زمن التراجع في قوة الدولة المركزية، وما يستتبع ذلك من مهددات في الحاضر والمستقبل؟. ومثلما أن كوادر الحركة الاسلامية في هذه القطاعات جميعها متكاملة في أدوارها، وتتشارك، في حماية مكاسب التنظيم فإنه لا يغدو هناك أي خلاف بين دور كادر، وآخر..تتمايز وظيفتهما، ولكن حتما تتساوى مصلحتهما في خدمة، وحماية، إرث الإنقاذ. وعندئذ يبقي الفرق بين الصحفي، والضابط، والدبلوماسي، ورجل الأمن، فرق مقدار، وليس فرق نوع داخل الحزب الحاكم. فالنوع هو العقل المؤدلج، والمقدار هو تمايز المواقع التي يتحصن فيها كل عقل لإثبات مقدرته على التزام الضبط التنظيمي.
وإذا كانت كل الكوادر الإسلاموية العاملة في هذه القطاعات قد تعمقت خلافاتها، حتي بعد الانشقاق، وتوجهت بها نحو الإعلام لتحسمها، وترتبت علي ذلك مواقف حادة أدت الي خروج بعضها عن التنظيم، فإن قطاعي الجيش، والأمن، شهدا خلافات في اوساطهما أيضاً، وأدت إلى تسريح قادة فيهما، واعتقال رموز منهم في دلالة كبيرة، وواضحة، علي أن الخلاف متوطن في أي موقع يسيطر عليه إسلاميون. بل إن الخلاف بين الإسلاميين أنفسهم داخل قطاعي الجيش، والأمن، من جهة، وخلافهم مع قيادة الدولة من جهة أخرى، أدى مؤخراً إلى التخلص من المئات منهم خوفا من أن يودي ذلك بسلطة البشير، والمجموعة التي من حوله.
إن ضباط القوات المسلحة، والأمن، المنتمين للحركة الاسلامية، ومعهم الذين دخلوا المؤسسة بمحاباة القربى دون أن يكونوا إسلاميين، يتأثرون لا محالة بالمحيط الذي من حولهم، ومهما قيدتهم قوانين الضبط العسكري إلا انهم جزء من تحالفات قبلية، وشللية، وجيلية. وكما حاول ود إبراهيم، وقوش، الانقلاب علي قيادة البشير نتيجة دوافع محددة فإننا لا نستبعد وجود شلليات داخل الجهازين قادرة علي أن تقلب الطاولة علي البشير لصالح جهات تدعي الإصلاح، أو تيار ضمن تيارات متصارعة حول السلطة لأسباب شتى.
صحيح أن هناك فرصا ضئيلة أمام القوى السياسية الأخرى لتحريض ضباط تابعة لها داخل القوات المسلحة للقيام بانقلاب في الوقت الحالي بعد أن أحكم التنظيم السيطرة الأيديولوجية على توجهات الداخلين إلى الكلية الحربية، وتفريغ الجيش من كل من يشتبه فيه بأنه ينتمي إلى تنظيم سياسي. ولكن الصراعات في وسط الإسلاميين، خصوصا في الآونة الاخيرة والتي طفت على السطح، لا بد أن تلقي بظلالها علي جهازي الأمن. وما دام أن المغامرين هم الذين يقودون الانقلابات العسكرية فإنه لا بد من وجود بعض منهم في زمن الاحتقان السياسي العميق، ومنهم من هم مدفوعون بطموحات فردية، أو إصلاحية، أو شللية، او قبلية. ولا مناص من أن المذكرات التي رفعت احتجاجا علي أوضاع الفساد داخل المؤسستين التنظيميتين قدمها ناقمون من الضباط، فضلاً عن ذلك أن وجود قوات الجنجويد التي أنهت الدور الحربي للجيش، مع الميزانيات الضخمة التي منحت لتلك القوات، كلها أسباب ربما تثير الغبن داخل الجيش. خصوصا في ظل دوره المحصور في سلاح الطيران، وتلاشي دور قوات المدرعات، والمشاة، والبحرية، والمظلات، علي مستوى العمليات الحربية.
ولا شك أن الانقلابات العسكرية لا تحدث بمعزل عن المعطيات التي تتوافر للمغامرين بإنجازها، بل إنها – وفقا لظروف العالم الثالث – تبدو جزء من حتمية حركة “السيوسيولجي” مهما أحكمت النخب الحاكمة العسكرية، والمدنية، مراقبتها للمنافذ التي من خلالها يتحرك الضباط لتغيير الأوضاع من خلال ساعة الصفر. ومن الناحية النظرية فإن مصطلحي “توازن الضعف” أو “الإرهاق الخلاق” اللذين يصف بهما مراقبون صراع الفرقاء السودانيين المدنيين، والعسكريين، نتج عن أرضية هشة هي من الأعراض التي تفتح شهية المغامرين العسكريين لتغيير الأوضاع. ولعل اللحظات الفاصلة التي انتهزها الانقلابيون في الماضي تتماثل الآن أضعاف أضعاف اللحظات التي أوجدت كل أنواع التغيير السابقة.
أيا كان نجاح سيناريو الانقلاب علي البشير فإن وجهته “الاسلاموية الإصلاحية” كما قد يدعي منفذوه، لن تحقق له نجاحا في تغيير الأوضاع علي الأرض إلا في حال توافر الضغوط المحلية، والإقليمية، والدولية، لحمل المنفذين علي قيام سلطة انتقالية مدنية شبيهة بالفترات الديموقراطية الثلاثة. إذ هنا تنهض ضرورة تصفية دولة الحزب، وتحقيق المحاسبة للذين أجرموا في البلاد، وقتلوا، أو ظلموا، مواطنيها.
كل هذه الفرضيات عاليه قد تتحقق، وقد لا تتحقق، ولكن ينبغي ألا تغيب عن ذهن القادة المشتغلين في العمل السياسي، وهناك ضرورة لمراكز أبحاثها ـ إن وجدت ـ للحوار حولها، والتأمل في البدائل في حال تحقق سيناريو الانقلاب العسكري بغتة، والذي دائماً ما يهمله النشطاء دون القناعة بأننا نتعامل مع واقع “السحرية السياسية” والذي طبقته الإنقاذ حرفيا. إذ صارت هي التي تبتدر المبادرات للقوى السياسية ثم تبدأ تحركاتها وفقا لما تنادي به من جمع للصف الوطني، أو الحوار الوطني، أو لم الشمل، وغيرها من مفردات خطب الاصطياد. ذلك في حين أن الإنقاذ تكتسب في كل فترة من فترات تنزيل شعاراتها الأبليسية وقتا لتثبيت خياراتها، وتوطيد أركانها، وتقسيم القوى المدنية، والعسكرية، ومنظمات المجتمع المدني. ولقد لاحظنا أن المعارضتين السلمية، والعسكرية، ظلت تتعامل بردود فعل الإنقاذ، وفي الثلاثة أعوام شغل المؤتمر الوطني الساحة السياسية، أولا بأمر حكومة الوحدة الوطنية، ثم تغيير طاقمه الرئاسي، فالوثبة التي قذفت بـ”طعم” الحوار مع كل المكونات السودانية. وإلى الآن ما يزال النظام يشغل القوي السياسية، والحركات المسلحة، ومن يدعون بأنهم اصلاحيون، وبعض الكتاب الذين لم يعرفوا الأخ المسلم حتى الآن، يشغلهم بما رسمه أمبيكي، وبن شمباز، وهايلي منكاريوس، من زيارات مكوكية في الإقليم للوصول الي سراب سلام البشير. وبرغم اتضاح الغش السياسي عيانا، بيانا، وتفرغ البشير لانتخاب نفسه بعد أن استنفد خطاب الوثبة إلا أن زعيم حزب الأمة، والحركات، ومعهم الاتحاد الأفريقي، والمجتمع الدولي، ما يزالون يحلمون بأن يتنازل لهم النظام عن حزم وظائف – دون أن يفكك ترسانته الشمولية – لتحقيق السلام بعد ذلك.
اما أسئلة سيناريو الانقلاب الأخرى فهي متاحة للإجابة وفق مرجعية المعلومات المتوفرة لكل النشطاء في الحكومة والمعارضة ومن هم في منزلة بينهما.