يوم وُلد الانقاذ… بدأ الوطن يموت (1-4)
حامد على نور
“ديننا كان دائما رائعا وعفيفا ونظيفا… وحينما حوله الساسة الى ايدولوجية، بدأ نظيفا ايضا… وحينما نهبوا السلطة وحولوه الى ممارسة.. أخذ شكل الجريمة” محمود درويش
الانقاذ وصلة النسب الايدلوجية بالنازية
للمتمعن فى التاريخ السياسى يرى ان ثمة صلة نسب ايدلوجية واضحة بين (دولة الانقاذ) فى السودان، و(الدولة النازية) التى حكمت المانيا فى ثلاثينيات واربعينيات القرن الماضى. بل ان هذه الصلة تمتد لتشمل الاستراتيجيات والسياسات التى مورست فى تطبيق هذه الايدلوجية على ارض الواقع. وحتى لا نُلقى القول على عواهنه سنسعى وباختصار غير مُخل لتناول العناصر الاساسية المشتركة بينهما:
1- النظامان ذاتا ايدلوجية عنصرية او دينية اقصائية. فالنازيون يعتقدون بان الجنس الآرى الالمانى هو اكثر شعوب الارض سموا، وان قدره ان يحكم وان يضطهد الشعوب الاخرى التى يصنفونها كأجناس او شعوب دونية، يجب اخضاعها بالشدة والتعنيف والتقتيل. هذا بالضبط مافعله النازيون باليهود والغجر والسلاف فى المانيا وفى اروبا. هذا الامر يتطابق الى حد كبير مع اعتقاد الانقاذيين السودانين، الذين هم فى المقام الاول عنصريون ، ثم من بعد ذلك هم “اسلامويون”- وعلينا هنا ان نشير الى ان هناك ثمة فرق بين الانقاذيين، وجماعة الاخوان المسلمين، فألاول هو جزء اصيل من الثانى وخارج من صلبه، الا ان الثانى لا يرضى بهم ممثلين له وينكرون كل افعاله وافكاره-. وصفنا للانقاذيين بالعنصرية لم يأت من فراغ او اتهام دون دليل، فعنصرية الانقاذ بدأت واضحة المعالم وجلية الدليل من يوم ان انتزعوا السلطة وحتى يوم الله فينا، نراهم يفعلون بالشعب السودانى من ذوى الاصول الافريقية فى انحاء الوطن المختلفة الافاعيل: (جنوب السودان، نوبة الجبال، زُرقة دارفور وشعوب النيل الازرق). تلك الجرائم والآثام التى ارتكبوها يترفع الشيطان عن فعلها، ولم يسبقهم عليها احد فعل ما فعلوه من حيث بشاعة الجرائم فى تاريخ العالم الحديث، غيرالنازية الالمانية ، وان قلّ من حيث الكم، قياسا بمحدودية السكان والمكان.
2- العنصر المسترك الثانى هو المزائدة والمغالاة على الاخريين فى القومية اوالوطنية. وان كانت لمغالاة النازية بُعد واحد هو البعد العنصري، فللانقاذيين بُعدين هما: العنصرى والدينى معاَ. فاصحاب الانقاذ الحقيقين، ونعنى بهم “اهل الحل والعقد” فيه وهم من بنى أُميَة السودان، ولا نعنى “تمومة الجرتق” اولئك. فأهل الانقاذ الحقيقيين هم من المتكبرين الذين يرون انفسهم افضل الخلق فى هذا الوطن، ثم من بعد ذلك فان لهم من الحق فى الدين ما ليس لغيرهم. فهم محتكروه علما وفهما وان حكم الوطن بأسمه وعد وميراث ربانى لهم، وفى اعتقادهم لا يوجد عبادا لله صالحون غيرهم، و وانهم المعنيون ب “خير امة اُخرجت للناس” لذلك ينظرون الى الآخر بأستعلاء، ويتعاملون معه بأقصى درجات العنجهية والازدراء.
3- على صعيد العمل السياسى والتنظيمى لتنزيل الفكر او الايدلوجيا لارض الواقع بالوصول الى السلطة اولا، يشترك الاثنان فى الحرص على بناء القوة العسكرية والمادية للتنظيم السياسى منذ “مرحلة الثورة”- اى قبل الوصول الى السلطة، استعدادا لنزعها ثم الهيمنة النهائية عليها. فالاثنان حرصاعلى بناء المليشيات العسكرية من شبيبتهم، لارهاب معارضيهم والمخالفين لهم فى الفكر، والاثنان دمجا مليشياتهم العسكرية المؤدلجة بعد وصولهم الى السلطة، فى اقوات النظامية للدولة بقصد التمكن منها وفيها، ثم بعد ذلك احكموا السيطرة على مفاصل السلطة واكملوا الهيمنة على كل مصادر الثروة، باعتقاد ان الدولة قد آلت لهم نهائيا، فالدولة هم وهم الدولة! ومن ثم البدء فى بناء الدولة الشوفونية- والشوفونيون هم الذين يرون ان عُصبتهم او قومهم او معتقدهم هو اصل النقاء والحق الذى لا يُعلى عليه ويتعصبون لذلك تعصبا مقيتا- فمثل تلك الدولة لا يمكن ان تُبنى الا قسريا وبأدوات قهر واسعة وحاسمة. ففى النازية كان الجيش النازى المؤدلج والقاهر وجهاز الامن الهتلرى سىء الصيت المعروف بالجستابو.
4- والانقاذيون لم يرو انفسهم يوما باقل جدارة من النازيين، فهم اول من انشأ جهازا امنيا عسكريا (الجهاز/المكتب الخاص) ودربوا كوادرهذا النظام الخاص تدريبا امنيا وعسكريا، وما ان بطشوا بالسللطة حتى نسخوا ومسخوا الجيش السودانى باستبدال قيادته القومية المهنية بقيادات من كوادرهم، وحولوا الجنود ليصبحوا اكثر ادوات اللقمع ضد مواطنيهم. كما واُنشأوا جيوشا موازية فى شكل مليشيات معباءة ايدلوجيا، كالدفاع الشعبى، واخرى قبائلية شُحنت بالكراهية العرقية، كمليشيات الجنجويد وحرس الحدود والمراحيل. واما الشرطة فيوضح لنا الاستاذ المحبوب عبدالسلام فى كتابه/ الحركة الاسلامية السودانية.. دائرة الضوء وخيوط الظلام، كيف ان المكتب الخاص كان يدفع بعناصر الجبهة الملتزمة الى كلية الشرطة ليصبحوا ضباطا مهمتهم انفاذ استراتيجية التمكين فى قطاع الشرطة..وانها سيطرت بالكامل على كل الرتب العليا والوسطى فى هذا القطاع الهام، وان مختلف اقسام الشركة اصبحت تستقبل اولئك الضباط الجبهجية (من التحرى الى الجنسية الى الجوازات والبطاقة وحرس المنشئآت وحرس الصيد والجمارك.زالخ). اما جهاز “الامن الوطنى” فقد حولوه بالكامل الى جهاز حزبي سياسي ، مهمته الاساسية هى حماية العصبة الحاكمة، وبالتالى ظلت تحت القبضة المباشرة للقيادة العليا للانقاذيين: كنافع وعوض الجاز وقطبى المهدى وبكرى حسن صالح. وجهاز الامن يمثل الآن اكبر قوة عسكرية قمعية، وربما فاق الجيش والشرطة معا من حيث ميزانية التسليح والتدريب والامتيازات الخاصة الواسعة.
5- وهكذا فكما عُرفت النازية بغُرف الغاز المميتة، وبمعسكرات الابادة الجماعية للكيانات التى تعتبرها دونية او معادية. فللانقاذ ايضا “بيوت اشباح” للتعذيب حتى الموت لمعارضيها، وجيوش ومليشيات للابادة الجماعية الممنهجة للكيانات السودانية الافريقية -(الزنجية)- التى يرونها عناصردونية، وينكرون عليها ان ترفض اوتتمرد على انظمة الاستبعاد والاستعلاء او ان تطالب باستعادة حقوقها الانسانية والوطنية المستلبة والتى انتزعت منها منذ قيام الدولة السودانية الى اليوم الذى جاء فيه الانقاذ، كقمة للشوفونية السودانية. ففكر الانقاذيين وديدنهم، يقوم على عدم الاعتراف بالاخر- الا نفاقا وخديعة- ولا بحريتة او ثقافتة، ولا احترام لمعتقده اولغته اوتقاليده، ولا شأن لهم بحرية اوعدالة تسع الجميع. كان ومايزال نظام الانقاذ بقيادة العُصبة العنصرية معنيا فقط بالحفاظ على السلطة التى تسنموها ولو بالعنف وبتدمير كل مقدرات وكيانات الوطن. وقد ظل يراهن السياسين الطائفيين، بانه النظام الاقدر- فى عصر التحولات السياسية الكبرى – على الحفاظ على مصالحهم التاريخية- اى “مصالح منظومة النادى القديم”، الذى ظل مهيمنا على مقدرات البلاد منذ عصرتجارة الرق، وقد اعترفت له الآن الاحزاب الطائفية وكل مكونات النادى القديم بتلك القدرة وبدأت تنساق خلفه
6- صلة النسب بين النازية والانقاذية ليست فى الفكر او الايدلوجيا وفى الاستراتيجيات والسياسات العامة، بل وفى نتائج ومآلات تطبيق تلك السياسات. فنجد فى النازية مثلا، ان قائدها (العبقرى) هتلر، استطاع اثارة حماس ملايين الشباب الالمان وعبأهم ايدلوجياَ وعسكرياَ (بالعنصرية الآرية)، فكانت موجات من الشباب النازى الالمانى تتدافع نحو الموت فى ساحات الحرب “بحماسة تليق بشرف قضيتهم التى يحاربون من اجلها”. وتلك القضية هى العنصرية الآرية! ..اليست تلك العبقرية الهتلرية هى التى افضت الى حرب عالمية كبدت البشرية اكثر من خمسين مليون قتيل وعشرات ملايين الجرحى، دون الدمار الذى لحق بموارد الكون الطبيعية والاقتصادية الاخرى.
7- فى السودان، وما ان وُلدت “دولة الانقاذ “- حتى تحولت الحرب الاهلية المطلبية فى جنوب الوطن، الى “حرب دينية مقدسة”، بين مؤمنين وكفار. وعراب تلك السلطة مثل هتلرتماما: سياسى ماكر وعبقرىُ من عباقرة الشر. عمل مع جماعته- وعلى نفس المنظور والنهج النازى- على استقطاب عشرات الالاف من الشباب، الذين تمت تعبئتهم ايدلوجيا وعسكريا، ودفعوا بهم الى ساحات الحرب فى ادغال الجنوب، وظلت تلك “الحرب الدينية المقدسة” دائرة لمدى عشر سنوات ضد “كفار الجنوب”، “يجاهد فيها “المجاهدون” من اجل النصر او الشهادة فى سبيل القضية التى آمنوا بها”، وقد قاتل اولئك الشباب بحماس وشجاعة. ولسوء طالعهم، او لحسنه بالاحرى، فأن تلك الحرب انتهت بعقد اتفاقية سلام نال بموجبها الجنوبيون استقلالهم. اما “المجاهدين” الذين قُدر لهم ان يعودوا احياءً من تلك الحرب، فقد ادركوا انهم لم يحققوا اى نصر ديني، فهم لم يهزموا “الكفار”، ولم ينشروا دين الله فى شبر واحد من ارض الجنوب، كما لم يحققوا نصرا وطنيا سياسيا، اذ لم يستطعوا حتى الحفاظ على وحدة الارض التى ورثوها!.. واما الآلاف الذين قُتلوا فى ادغال الجنوب، فقد ماتوا مرتين: الاولى عندما فقدوا ارواحهم دون تحقيق هدف، والثانية، وهو الموت الزؤام: فقد انتُزعت منهم “قداسة الشهادة” التى وُعدوا – فى الواقع “خُدعوا”- بها، ان همو قُتلوا فى تلك الحرب! لكن وما ان تمت المفاصلة بين “القصر والمنشية”، الا وقام الشيخ بفسخ كل الزيجات المقدسة بالحور العين فى اعالى الجنان ، والتى كان الشيخ هو عرابها ومأذونها الشرعى، الذى “شرف” بالحضور بعض مهرجانات الغناء والرقص لتلك الزيجات السماوية المقدسة المباركة!.
8- الجنوبيون تضرروا ضررا بليغا من تلك الحرب، فقد قُتل منهم مئات الآف وشُرد الملايين من ديارهم، الا انهم فى نهاية الامر حققوا الهدف الذى قاتلوا وقُتلوا من اجله، فأنتزعوا استقلالهم ومضوا عنًا. لكن اين اليوم – بربكم- تلك القضية التى “جاهد واستشهد” من اجلها اولئك الرجال “المجاهدون” ؟ وماذا كان كسب شعبنا وشبابنا من كل ذلك الافك ومن تلك الخزعبلات والترهات؟
يقول المحبوب عبدالسلام فى مطلع كتابه المشار اليه: “ما يحدث هو مسرحية من تأليف شيطان هازىء ساخر” ونضيف اليه “وماكر” وان لم يكن قد عنى ما عنينا.
والنهايات والمآلات
9- انتهت الدولة النازية بنهاية الحرب العالمية الثانية، وكانت المحصلة المؤلمة لها هى ما الحقته بالعالم من اضرار، وان كان الضرر الاكبر هو ما الحقته بنفسها. فقد تدمر اقتصادها تماما، وتقسمت الدولة الالمانية او قُسمت الى دولتين، (المانيا شرقية شيوعية والمانيا غربية راسمالية). والمانيا رغم تجانسها الاثني والديني والثقافي، ورغم بنيتها الوطنية العضوية الراسخة، وقوة ومتانة اقتصادها الوطنى ورغم جهود اصدقائها وحلفائها الغربين الاقوياء، رغم كل ذلك، لم تستعد وحدتها الا بعد حوالى خمسين عاما من نهاية السطوة النازية عليها!
10- فأن كانت تلك هى حال المانيا ، فما بالنا بما سيكون عليه مآل دولة كالسودان، هى العكس تماما من المانيا: دولة متعددة الاعراق والديانات والثقافات، حديثة التكوين على صعيد التاريخ الوطنى، ضعيفة البناء العضوى الداخلى. دولة صُنعت قسريا بواسطة غزو أستعمارى اجنبى، وتتسم بهشاشة فى العلاقات بين كياناتها الاثنية التى مازالت فى مراحل تطور اقتصادية واجتماعية مختلفة ومتدنية بالعموم، بل و مازال السودان يُصنف (كدولة افتراضية)، فقد فشلت حكوماتها الوطنية المتعاقبة فى بناء تأسيس شعور او وجدان موحد نحو الدولة، يكون اساسا لبناء “وطن موحد للجميع” ليس فيه سيد ومسيود… فالكيانات الوطنية الطرفية المهمشة فى سودان اليوم، مازالت تخوض حروبات هوية وتحقيق ذات ضد “كيانات وسلطات مركزية”، موسومة بالدكتاتورية الشمولية، وبوصفها عنصرية الهوى والهوية، ومتهمة بالاستعباد والاستبعاد والهيمنة على مفاصل السلطة ومصادر الثروة! وطن لم يتفق اهله بعد، على مصيرهم ومصيره! ما الذى ينتظره الوطن فى هجير مثل هكذا نظام شمولى عنصرى اقصائى؟
11- ها نحن نرى عمليا وبام اعيننا، كيف ان السودان قد بداء يتداعى، بل ويموت موتا حِسًياَ ومعنوياَ.. فها هى “الحرب العنصرية المقدسة”، قادت فى نهاية المطاف الى فصل الجنوب وتقسم الوطن الى دولتين: (سودان شمال وسودان جنوب)، وبينهما كان- مازال- ما صنع الحداد! وهاهى الحرب العنصرية ما زالت تدور ساخنة فى دارفور والنيل الازرق وجنوب كردفان. هناك توترات، بل ارهاصات بالتمرد فى اجزاء من غرب كردفان، وحتى حُلفاء الامس من بدو دارفور الذين دعموا الحكومة فى حربها العنصرية ضد (الزرقة)، ما عاد اغلبهم على وفاق معها، وهناك تململ فى شرق البلاد وفى الشمال النوبى.! ما الذى يمكن ان ننتظره من حروبات متواصلة تقودها “دولة الانقاذ” ضد شعوبها، غير المزيد من تشظي الوطن؟ ما الذى يُنتظر غير الويلات والثبور وعظائم الامور؟ فالامور فى هذا “النظام” لا تُنبىء الا بموت الوطن طرفا اِثر طرف.
([email protected])