بسم الله الرحمن الرحيم
هل العسكر وحدهم هم سبب الداء؟
هاشم ابورنات
لاشك ان الحكام في التاريخ القديم كانوا جلهم ممن يمتهنون العمل العسكري وكان اهم ما يجعلهم كذلك ان السلطة كانت مرتبطة بمنطق القوة وقد تغير هذا المنطق تدريجيا الى ان وصلت الشعوب الى المنطق الديمقراطي وهو المنطق الذي يسود مجتمعاتنا هذه الايام ورغم ان هذا المنطق له ايضا من المزايا والمثالب ما له الا اننا اذا القينا نظرة فاحصة للحال القديم فسنجد ان الاستقرار هو الذي ولد الديمقراطية وان الديمقراطية تتطور بتطور الانظمة واستقرارها.ولاشك ان الوصول الى الديمقراطية نفسه مرت عليه نظريات اخرى ولكن كل النظريات اصبحت تؤمن الان ان الوسيلة الامنة لتطبيقها هو اللجؤ الى نوع من الديمقراطيات في المقام الاول وهذا جهد مقل وليس بكلام علمي بحت.
في العهود القديمة كما اسلفنا كان من يحكم هو قائد الجيش وقد يستعين بمستشارين وقد يحكم بنفسه ومثالا لذلك ان نبي الله دأؤود كان جنديا في الجيش واعطاه الله بسطة في العقل والجسم حتى صار ملكا ولكنه حكم حكما راشدا وورثه ولده نبي الله سليمان الذي حكم حكما عادلا ايضا .
امثلة اخرى انجلترا معقل الديمقراطية فان ملوكها كانوا من العسكر الذين حاربوا وتحاربوا حتى استقر الحال وصارت انجلترا مملكة ثم توحدت تلك البلاد لتنشئ المملكة المتحدة .النمسا والمانيا وفرنسا واليابان والولايات المتحدة بدأت بحكم القادة العسكريين ولكنها تطورت بعد ذلك الى ان وصلت الى الحكم الديمقراطي.
من حسن حظنا في السودان وفي القرن العشرين بالذات ان النظام الذي ارتضيناه بعد ما نلنا استقلالنا هو النظام الديمقراطي ولكن تأرجح الامر بين ثلاث انظمة ديمقراطية وثلاثة انظمة عسكرية ويبدو ان استيلاء العسكر على السلطة كان دأئما نتيجة لخلافات بين السياسيين سواء كانوا من اهل الاغلبية الديمقراطية او من اهل المعارضة الاقل حظا في الفوز بمناصب وزارية وسأسوق مثالا لذلك .
فبحسب ما تورد الينا الروايات فان الانقلاب الاول كان برئاسة الفريق ابراهيم عبود والذي سماه المؤرخين بأنه تسليم سلطة من رئيس مجلس الوزراء لخلاف بينه وبين زعيم الحزب بينما هناك روايات اخرى تقول ان ذلكم الزعيم كان يسعى لجعل السودان مملكة واخر يقولون انه كان يريد ان يصير رئيسا للجمهورية الاسلامية التي كان يسعى لقيامها .
اما الانقلاب الثاني فكان متوقعا بعد الخلافات العميقة وسط الاحزاب ووسط اجنحة كل حزب خاصة بعد المذكرة التي رفعها احد قادة الاحزاب لوزير الدفاع كأنما يطلب من الجيش ان يستولى على السلطة بينما نار الحسرة على وأد الديمقراطية بحل الحزب الشيوعي مشتعلة في الافق وكان سبب ذلك ان الحل تم بتمثيلية هزيلة تماما مثل ما نراه هذه الايام من تمثيليات ستؤدي الى كوارث متوقعة .
الانقلاب الثالث وهو ماثل امامنا الان تم بعدما شعرت جبهة سياسية معينة بفقدانها لمصداقيتها بعدما سيطرت اعلاميا على عقول الشعب ثم اتضحت اللعبة المنظمة في استديوهات (دان فوديو) التي كانت امكانياتها اقوى من اذاعة وتلفزيون السودان ومن ثم كان الحل الوحيد امام هذه الفئة السياسية ان تستولى على السلطة وكان المال السائب بيدها هو من اقوى الوسائل في ترطيب عقول بعض العسكر ضعاف الذمة والتجهيز للامر معنويا .
نخلص الى ان الثلاث انقلابات كانت بتشجيع وتنظيم احزاب سياسية وكانت ضحيتها الاولى في كل هذه الانقلابات هم من العسكريين بينما انزوى معظم من هم وراء هذه الانقلابات في زوايا بعيدة عدا حزب سياسي واحد فقد قادته وخيرة شبابه ولا زال ينفي عن نفسه صلته بذلك النظام العسكري.
عندما حدثت هذه الانقلابات وتم لها الوصول الى السلطة قامت انقلابات اخرى وفشلت وكان ضحاياها ايضا من العسكر وكان من مات منهم من اعتبر شهيدا ومنهم من اعتبر فطيسا والمحرض الاساسي لهذه المحاولات ربما ايضا قد مات او اختفى وانزوى ثم ساهم في اعادة الكرة ….وهذا هو التفسير البسيط الذي ينحو نحوه العسكريين بينما الحقيقة هي ان هناك اعتداء قد تم على السلطة وان الذي ينجح يفرض الامر بينما الذي يفشل يلقى جزاءوه .
واذا ما عدنا الى الانظمة المختلفة التي قامت نجد انها ثلاث عسكرية وثلاثة ديمقراطية ونجد ان الانظمة العسكرية نجحت في اقامة مشاريع تنموية وفشلت في بعضها بينما لم تتمكن هذه الانظمة رغم انجازاتها من كسب قلوب الشعب بينما الانظمة الديمقراطية فشلت في اقامة مشاريع مفيدة بينما كسبت الشعب الى جانبها وذلك نسبة الى ان النزعة الى الحرية هي صفة اصيلة في قلوب السودانيين بحكم انهم شعب رعوي اساسا ويميل الى الشورى فالانجازات وحدها ليست كافية خاصة اذا ما شابها افساد سياسي ومالي او انتهازيات للسلطة .ويقول اهل السياسة ان الانظمة العسكرية لم تدع فرصة للانظمة الديمقراطية لتثبيت اقدامها وتقديم شئ مفيد لهذا البلد فكلما بدأت الديمقراطية قفز عسكري الى السلطة وهذا منطق مفهوم ولكن من هو الذي يدفع بالعسكريين الى السلطة بالسودان ؟؟ او ليسوا هم الساسة انفسهم !!؟ .وسأورد رواية قلتها من قبل , ففي عهد الديمقراطية الاخيرة وفي اخر ايامها زارنا بيوغندة د.حسن عبد الله الترابي وكان حزبه الجبهة الاسلامية متحالفا مع حزب الامة وكان الترابي يتولى وزارة الخارجية ومقامه كان بمثابة نائب رئيس الوزراء .
في خضم هذه الزيارة كانت هناك مقابلة مع الجالية السودانية بيوغندا والتي كنت اتشرف برئاستها وكانت المقابلة في منزل السيد محمد عبد الله جار النبي رجل الاعمال المعروف تعقبها جلسة غداء وكانت يوغندا تعج بمجموعة كبيرة من الاسلاميين اعرف اخوة منهم افاضل لا ادري الان ان كان غبار السياسة قد غيرهم ام لا .
في الاجتماع بالجالية استفسرت الدكتور الترابي بعد تنويره لنا عما اذا كانوا يشعرون بحالة الجيش السوداني المتدهورة وضربت امثلة مسهبة وقلت له الاتخافون من ضابط عائش في هذا الالم ان يقفز الى الخرطوم و(يقلبها)
رد لي الدكتور الترابي قائلا:- لاشك ان السودان مر بثلاث ديمقراطيات وكانت احسنها هي الاولى فالثانية واما الثالثة والتي نحن فيها اليوم فهي الاسوأ.كما ان السودان مر بحكمين عسكريين الاول للفريق عبود وكان احسنها والثاني للنميري وهو اسوأ من حكم عبود واما الحكم العسكري القادم اي الثالث فسيكون اسوأ حكم سيمر على البلاد .
تحضرني بعض الوقائع التي تحكى عن الفريق عبود :- فقد كان مفروضا سفره ووفد من قيادة مجلس الثورة انذاك الى دولة مجاورة وكان مفروضا حضوره الى المطار في الساعة السابعة صباحا للسفر في السابعة والنصف وبالتالي كان مفروضا حضور اعضاء الوفد قبل الرئيس في السادسة والنصف الا انهم عندما حضروا في السادسة والنصف وجدوا الرئيس عبود جالسا في حجرة كبار الزوار فقالوا له :-
-حضرت بدري يا معاليك!!
-ايوة ما عايز الطيارة تفوتني
يعني بالبلدي كدة ما عاوز يأخروا ليه الطيارة
حادثة اخرى :-
عندما تم تخطيط ارض حي العمارات تم منح عبود قطعة ارض بالدرجة الاولى الا انه طلب تبديلها الى الدرجة الثانية ولما قالوا له ان هذا ما تستحقه رد عليهم :-
-انا ما عندي قدرة على السلفية بتاعت الاولى وما بقدر اسددها!!
بالبلدي كدا ما بيتين وشقة ومزرعتين.
حادثة ثالثة:-
اللواء حسن بشير نصر يتصل بالفريق عبود تلفونيا:-
-كنا معاليك في المستشفى في زيارة (فلان) وهو مريض للغاية
-لكن يا حسن تكلمني بعد الزيارة ما انتهت!!
تصوروا مدى انضباط هذا الرجل الذي بكى عليه الشعب السوداني عندماجاء الى سوق الخضار ليشتري بطيخة فاذا بكل الحضور يهتفون:-
-ضيعناك وضعنا معاك يا عبود
ويأتي حاكم عسكري اخر هو النميري وكما قال الرأئد زين العابدين محمد احمد عبد القادرعندما سئل لماذا انقلبتم على السلطة الشرعية فأجاب:-
We have done what is to be done at that time
لقد فعلنا ما كان يجب علينا فعله في ذلك الوقت .
وهو يعني بذلك ان الحال كان يستدعي التغيير
ولكن الحكم العسكري الثاني كان فعلا كما قال الترابي كان اسوأ من الاول رغم انجازاته الكثيرة فان اخفاقاته نغلبت على ما انجز واول هذه الاخفاقات كان هو الفشل في اعادة الحياة الديمقراطية الى السودان واما الاخفاقات الاخرى فانها قد ارتبطت بان الحاكم توجه نحو ديكتاتورية الفرد وكذلك التطور السريع في الحياة العامة بالسودان وظهور الاغتراب بحسناته ومساوئه .
ثم جاءنا الحكم العسكري الثالث والذي كان يقوده من في القصر رئيسا ومن في السجن حبيسا وكان هذا شكلا جديدا من الحكم والذي كانت اسباب استيلائه على السلطة واهية وللاسف فان من وصف الحكم القادم بأنه سيكون الاسوأ قد قام بنفسه باللجوء الى الاستيلاء على السلطة مع علمه التام وهو رجل متمكن انه سيكون الاسوأ وهذا والله عيب وعار كبير لآن ما حدث دمر بلادنا واوصلها الى ما هو عليه الان ولايستطيع الدكتور حسن الترابي ولا اعوانه مهما قالوا ان ينفوا انهم سبب كارثة السودان وان التكالب على السلطة والفساد الاداري وتحطيم مبادئ الخدمة المدنية هي مسئولية يتقاسمها التنظيم الاسلامي بشقيه الجزء الحاكم والجزء المعارض.
لقد اتى الانقلاب الثالث ببدع لم تكن معروفة في السودان ادت الى خلل رهيب في الحياة عامة وخاصة وذلك بأستنهاض العنصرية والتي سعت كل الانظمة السابقة عسكرية وديموقراطية الى الحد منها كما انها سعت الى اشعال الحروبات ذات التوجه الاثني وفرقت بين الناس كعرب وزرقة وشجعت الاثنيات على الاعتداء على المستضعف تماما مثل ايام الجاهلية واصبح كل شخص ضعيف يسعى لحمل السلاح لحماية نفسه من حامل السلاح الاخر واستشرى الظلم البأئن واصبحت المفخرة وسط الناس هي لمن يستطيع ان يلهف ويلغف واصبح الرجال والنساء الامينين هم (مغفلون) واستشرى الظلم تحت اسم القانون وكثر خداع الشعب وبالذات المواطن البسيط وفسدت النساء والرجال وصرن من يرين افخاذهن هن الاشرف بحكم ما ينلنه من سطوة ومال وانتشرت المخدرات وسط الشباب وارتفع معدل الانحراف الجنسي وظهرت الحفلات التفاخرية بل وصارت تعرض في بعض وسائل الاعلام وامتلك الناس جزر في شرق اسيا وقامت الشواهق في بلدان اخرى وفتحت الحسابات في بنوك خارجية واصبح عاديا ان يقوم رجال الاعمال الذين صعدوا في عهد هذا الحكم – اصبح عاديا – ان يحولوا اموالهم الى الخارج بعدما تدهور الحال الاقتصادي وبدأت بوادر نهاية الدولة .
اكثر الامور ايلاما ان النظام الحاكم لا زال يتدثر برداء الدين والعروبة ليحلل قتل الابرياء في مختلف بقاع السودان بدءا من دارفورالتي انهكها القتل الممنهج وعرج على كردفان ثم النيل الازرق بينما وميض النار يبدو في شرق السودان …. ونعود ونقول من هم الضحايا ومن هم وقود هذه النار ان حطبها ووقودها هم هذا الشعب الطيب الصابر المسكين
اما من يقول ان الاوضاع بخير فهو قطعا غافل وهو لايعرف ان الثورات قد اشتعلت ومن يظن ان الحال جيد فسيكون قابعا في العواصم والبيادر حتى تأتيه الصرخة وهو جاثم في دياره وحينها سيقول الان فهمت كما قالها الرئيس التونسي زين العابدين بن علي وذلك بعد فوات الاوان ولعله لن يجد وقتا ليقول (امنت برب موسى وفرعون) .
واضح مما نستعرضه الان ان الحكام العسكريين وبحكم انهم يستعملون القوة يميلون الى الاستفراد بالسلطة وحالة الفريق عبود هي حالة استثنائية لانه عندما علم ان الشعب (ما عاوزه) تنازل لصالح الديمقراطية وعليه فان السودان هذه الارض الواسعة الممتدة لن تحكم الا بتراضي جميع ابنائها تراضيا حقيقيا وليس صوريا وما لم تكن هنالك عدالة شاملة ومساواة كاملة في الحقوق والواجبات فان اي قادم للحكم واهم انه سيحكم قطرا كالسودان اهله خليط وجنسيات مختلفة يجمعها حب الرجال الاوفياءالامينين على وطنهم الساعين الى بسط العدالة بغض النظر عن لونهم او عرقهم ومن لم يسمع فليسمع الطوفان قادم ايها الظلمة ودولة الظلم ساعة ودولة الحق الى ان تقوم الساعة .
والحق ابلج والباطل لجلج
هاشم ابورنات
لندن 28مايو2012