بقلم :عبد العزيز التوم ابراهيم
في المجتمعات التي تكون فيها قيم القربي هي القيم المركزية في تحديد درجات الانتماء والولاء داخل البناء الاجتماعي فان الانسان يكون ابن اسرته قبل ان يكون ابن اسرته المركبة ،وابن هذه الاسرة المركبة قبل ان يكون ابن عائلته ،وابن هذه العائلة قبل ان يكون ابن فخذه ،وابن فخذه قبل ان يكون ابن البطن ،وابن البطن قبل ان يكون ابن عشيرته، وابن عشيرته قبل ان يكون ابن القبيلة ،وابن هذه القبيلة قبل ان يكون ابن جهته ، وابن هذه الجهة قبل ان يكون ابن وطنه. هكذا الحال في السودان اصبحت عصية علي العقل التمييز بين ما هو سياسي وعرقي ،وبين ما هو شأن الدولة وشأن القبيلة ،واصبحت الدولة هي القبيلة والقبيلة هي الدولة ! ، وبالتالي تعتبر العصبية هي الألية المحركة لطبيعة الفعل السياسي والاقتصادي والثقافي والقانوني .وفي ظل كل الحقب التاريخية المختلفة التي ظلت فيها الشعوب السودانية تكافح وتناضل من اجل نيل حريتهم وارداتهم من القوي الاستعمارية سواء كانت اجنية او المتدثرة بالثوب الوطني بات سؤال القبيلة هو السؤال الجوهري والملح . ومن المعلوم ان القوي الاستعمارية الاجنية لم تنظر للعامل الاثني علي اساس انه عنصر لتشكيل القومية ،بل اداة لخلق الصراعات الطائفية والعرقية ،فلم تثر قضية تقسيم المستعمرات الافريقية علي اساس التقسيمات العرقية ،ولكن اثيرت علي اساس القطاعات الجغرافية ومشاريعها المقترنة وخاصة في انتاج مواد الخام التعدينية والزراعية ،وهكذا تحولت افريقيا بحكم مؤتمر برلين لسنة 1884 الي وحدات متنافرة وصغيرة ،صارت الاساس لمعظم الحدود السياسية الدولية الافريقية الحالية ،وفي جانب اخر ضمت عدد كبير من الجماعات اللغوية والدينية والقومية والعرقية والقبيلة دون ان يربط بين هذه الجماعات الشعور بالانتماء الي مجتمع واحد متجانس .ان الاقرار بهذه الوقائع والحقائق والعوامل التي ساهمت بشكل او اخر في شل حركة البناء الاجتماعي لا يعني بها نفي او تجاهل الادوار التي قامت بها الانظمة التي ورثت الاستعمار الاجنبي بل ان هذه الانظمة عززت وجذرت العرقية والقبلية وزادت هوة الشعور بالاغتراب بين المجموعات الاخري والوطن واستشرت ظاهرات الحروبات الاهلية والاقتتال بفعل سياسات العنصرية البنائية التي تنتهجها هذه الانظمة ،حتي بلغت الازمة في قمتها وفي اعلي مراخي الوصف داخل المنظومات الدولية الانسانية …ابادة جماعية..التطهير العرقي …الخ .
وبالرجوع الي كوامن ومتضمنات طبيعة الصراع في السودان ، نجد ان القبيلة هي المعيار المركزي والعامل الرئيسي في مأزق او جدل الانتماء او الولاء للسودان ،تشكلت القبيلة السياسية بعد خروج الانجليز عن طريق تحالف بين المجموعات الشمالية النيلية العروبية التي تدعي بظاهرة التفوق العرقي علي غيرهم من الشعوب السودانية ،وظلت هذه المجموعات العرقية ممسكة بالسلطة سواء عبر اليات الشرعنة الزائفة المتمثلة في الاحزاب السياسية الطائقية او العرقية او عبر الانقلابات العسكرية من ذات التحالف ! وتاريخ الانقلابات العسكرية يعلمنا درس مهم بل يطرح تساؤلات اركيولوجية بهذا الصدد ، لماذا فشلت كل المحاولات الانقلابية العسكرية التي قامت بها بعض ابناء الهامش من داخل المؤسسة العسكرية ؟ !!! ، وهل تذكرون ما قاله “جعفر النميري” عندما نفذت بعض زمائله الضباط من ابناء الهامش محاولة انقلابية فاشلة ،نعم طلب منهم ان يصطفوا في صفوف علي اساس الجهة والعرق ! حيث اتجه نحو ابناء جبال النوبة وقال لهم: اذا انتم اتيتم الي السلطة فمن الذي يعمل خادما في بيوت الشماليين الاحرار ، وهل تعتقدون ان بنت شمالية حرة يمكن تعمل في بيوت النوبة !! ثم اتجه للجنوبيين فقال لهم : انتم اذا تيتم الي السلطة في الذي يحمل مخلفات البشرية للشماليين من بيوتهم!! ،ثم التفت اخيرا لابناء غرب السودان وقال لهم :اذا انتم اتيتم الي السلطة فمن الذي يعمل في المشاريع ! نعم، هكذا حدد ” نميري ” الدور المنوط لكل هذه المجموعات العرقية داخل السودان !! وفي خضم تحليلنا لهذه المقولات ان الذهنية التي اطلقت هذه العبارات لاتختلف كثيرا من الذهنية التي رفضت منح الجنونيين الحكم الذاتي عبر المقولة الشهيرة no federation in one nation , وهي ايضا لا تختلف كثيرا من ذهنية “البشير ” عندما قال عقب دخول حركة العدل والمساواة امدرمان في 2008 مقولته الشهيرة ” ديل يحكمونا” اذا هي تكاثر وتناسل لذات الذهنيات رغم اختلاف الازمنة والامكنة والادوار، وبالتالي اي عملية تغييرية لا يستهدف تفكيك بنية هذه الذهنية العنصرية التي تمايز السودانيين علي اساس العرق وتحدد وضعيتهم الاجتماعية ونيل الخدمات والوظيفة علي هذا الاساس لا يمكن لمثل هذا التغيير ان يكتب له النجاح ،وان الخطوة الاولي نحو تحقيق تغيير او انقلاب حقيقي لابد من الاعتراف بالسياسات العنصرية البنائية التي ما انفكت الدولة منها، وان مثل هذا الفعل والاشتغال يتطلب الجراة والموضوعية لتناول هذه الظاهرات العنصرية دونما اي ابلسة فكرية التي تنتهجها بعض مثقفي وساسة الشمال النيلي العروبي ،كما يجب عليهم ان ينأوا بانفسهم من ظاهرة العيب السياسي والثقافي والتحدث برأس مرفوع عن ازمة التمييز العنصري في السودان ،فهذه هي صرخات في وجهه كل من يريد تغيير حقيقي ،فهل من مجيب ! .
[email protected]