من يحمي أهل دارفور بعد خروج القبعات الزرق؟ الجزء الثاني
بقلم عائشة البصري
لم يكن جيش عمر البشير يغفر لعساكر “يوناميد” قيامهم بواجبهم، فلم يمض يومان على الحادثة حتى اقتحم خمسة عساكر قاعدة البعثة في مهاجرية ليلاً، وأطلقوا النار على عناصر حفظ السلام واتهموهم بعدم محاولتهم منع المتمرّدين من قتل القوات الحكومية، وكأنه جيء بـ”يوناميد” لتحارب في صفوف جيش البشير، وقبل انسحابهم صرخ أحدهم: “الآن سنقتلكم”. لم يخلفوا وعْدَهم وهاجمت القوات الحكومية، بضباطها وجنجويدها، الكتيبة النيجيرية رقم 34 في الساعات الأولى من صباح يوم 19 إبريل/ نيسان. طوال ساعتين عصيبتين، تعرّض عناصر حفظ السلام لوابل من القصف ببنادق هجومية آلية ورشّاشات محمولة على مركبات عسكرية على مسمع السلطات السودانية التي رفضت الاستجابة لطلب النجدة، على الرغم من قربها من القاعدة، فاضطروا للدفاع عن أنفسهم ضد حُماتهم، وراح ضحية هذا الهجوم ضابط سوداني وجنديان نيجيريان.
لم يكتفِ القَتَلَة بارتكاب جريمة حرب، بل عادوا بعد بضع ساعات مدججين بالسلاح، بقيادة
“لا يعقل أن تعهد مهمة حماية المدنيين إلى رجال حميدتي وعبد الفتاح البرهان”
الملازم إبراهيم أبو بكر عبد الله الذي هدّد البعثة بهجوم أكبر يدمر القاعدة بمن فيها إذا لم تدفع له ديّة بقيمة 250 ألف جنيه سوداني (57 ألف دولار آنذاك)، تعويضاً عن قتل أحد ضباطه. وثّق “فريق الخبراء المعني بالسودان” مزيداً من تفاصيل هذا الهجوم في تقرير رفعه إلى مجلس الأمن في 11 فبراير/ شباط 2014 (S/2014/87)، وأرفق صورة الملازم وعساكره، بحيث لم يترك مجالاً للتشكيك في مسؤولية القوات الحكومية عن القتل العمد لعناصر حفظ السلام النيجيريين. ومع ذلك، طالب المجلس المُخادع الحكومة السودانية بإجراء تحقيق في الحادثة، وكأن في وسع الجاني أن يتحرّى عن جريمته ويبثّ فيها.
هذه هي حقيقة البعثة التي ما زالت تتعرّض لعدائية فلول النظام ونهبهم منشآتها في واضحة النهار، وكان متوقعاً أن تدعمها حكومة عبد الله حمدوك، وتصرّ على بقائها، بدل أن توافق على خروجها بحلول أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، كان يفترض أن تنصفها بدل أن تتهمها، هي الأخرى، بممارسة “الوصاية” على السودان، وتدبير شؤونه بموجب الفصل السابع. في مطلع شهر مايو/ أيار الجاري، أثبت مقتل أزيد من 30 شخصاً في قرية دوانا في ولاية جنوب دارفور أن هذا الإقليم ما زال ينزف، ونيران الفتن القبلية لم تهدأ، وأن معسكرات النازحين وقرى المزارعين ما زالت تتعرّض للاعتداء والنهب، وما تزال رحى الحرب دائرة في جبل مرّة، وما يزال السلام بعيد المنال، في ظل مفاوضات لا نهاية لها حول تقاسم الثروة والسلطة.
إخراج القبعات الزرق في مرحلة انتقالية هشّة يعني أنه لن يكون للمدنيين ملاذ إن ساء الوضع لا قدّر الله، وانتصرت على الثورة دولة حميدتي، الموصوف بأنه قاطع الطرق، سارق الذهب، والذي أصبح الجميع يناديه باحترام الفريق محمد حمدان دقلو، وهو يتمدّد شرقا وشمالا وجنوبا. ولأن الذئاب لا تؤتمن حتى على صغارها، لا يعقل أن تعهد مسؤولية حماية المدنيين إلى رجال حميدتي وعبد الفتاح البرهان والولاة العسكريين وقادة المناطق العسكرية الذين يشكلون أكبر خطر على سلامتهم. إن لم تُصغ حكومة حمدوك لصوت النازحين وغيرهم من المستضعفين الذين يطالبون بإبقاء “يوناميد” إلى أن يتحقق السلام ويستتب الأمن في دارفور، فسيسجل التاريخ أن الثورة السودانية حققت ما فشل نظام البشير في إنجازه: إخلاء الساحة من الطرف الثالث الذي يقف شوكة في حلق من يتربّص بالمدنيين.