محمد بشير ابونمو
[email protected]
لكل مهنة مصطلحاتها وآدبياتها ”literature” ، وكذلك نظمها ولوائحها العملية و الرقابية المتعارف عليها . فى مجال المصارف ، هنالك ادارة مهمة يقوم عليها غالب العمل المصرفى ويعتمد عليها نجاح اى مصرف من حيث الربحية ومن ثم استمرار قوته المالية ونجاحه فى تمويل القطاعات الحيوية فى الاقتصاد . قد يختلف اسم الادارة المناط بها الوظيفة من مصرف الى آخر ولكن فى الغالب لا يخرج مسمى الادارة من اسماء مثل ( القروض والتسهيلات / الائتمان / الاستثمار ) ، رغم ان الاسم الاخير ارتبط بشكل خاص بالعمل المصرفى (الاسلامى ) . لتقديم تمويل لاى مشروع بصرف النظر عن حجمه لا بد من اخضاعه لما يعرف بالتقييم الائتمائى “credit appraisal” ، ويخضع هذا التقييم لمعايير متعارف عليها عالميا اهمها الضمانات المرصودة مقابل التمويل او ما يعرف اصطلاحا بال “collaterals “ وضرورة مناسبة هذه الضمانات لقيمة التمويل ، ومعايير اخرى مثل اولوية التمويل للقطاعات الاستراتيجية وألا يكون التمويل للقطاعات التى يحظر او ُيقلل فيها التمويل حسب تقديرات السلطات الرسمية وخاصة البنك المركزى وفق سياساته الائتمانية و النقدية المعلنة للبنوك ، وعلى ضوء هذا التقييم يتم تحديد جدوى مشروع التمويل من عدمه ومن ثم منح التمويل او منعه .
اطلعتُ قبل يومين وثلاث على تقرير ورد فى جريدة الانتباهة يتحدث عن موظف مبتدئ لم يتجاوز ال 23 عاما ، يعمل فى قسم المقاصة فى احد المصارف ، اختلس هذا الموظف من مال البنك الحكومى (مال دافعى الضرائب ) حوالى السبع (7) مليار جنيه (حوالى المليون دولار او اقل بقليل باسعار اليوم ) ، ولولا شطح الشباب وظهور علامات النعمة الفجأة و(البوبار ) لما تم كشف النهب المتواصل من هذا الشبل وذلك لضعف الاجهزة الرقابية فى البنوك فى عهد الانقاذ ، سواء كانت مراجعة داخلية او خارجية ، ولكن مثل هذا الخبر اصبح من الامور العادية فى عهد الانقاذ حيث الفساد والسرقات من المال العام تجئ من كبارها وبارقام فلكية وبحماية “فوقية” معروفة ، عدا ما يتسرب منها الى المحاكم فى اطار صراع مراكز القوى وتصفية الحسابات الخاصة ما بين المتصارعين على السلطة ، على نمط هذه ……. بتلك . ولكن ما لفت نظرى هى قصة اخرى رواها الكاتب فى نفس التقرير ، وهو ان احد اقطاب المؤتمر الوطنى – ذوى الدقون الكثيفة – جاء متأبطا “فايلا ” الى مكتب مدير احد المصارف الحكومية واذا بالمدير يقفذ من مكتبه مرحبا ومهللا ومكبرا ” اهلا بالشيخ المجاهد ” (وكنت اود معرفة فترة جهاد الشيخ طالب التمويل ، هل هو فى العهد الغابر الذى ذهب بجنوبنا الحبيب او فى عهد “الفطائس” الاخيرة ، ولكن …… ما علينا ) ، وقام الشيخ بتسليم الملف للمدير ، والملف يحوى بعض الشهادات كضمان للتسهيلات التى يطلبها الشيخ من البنك ، واذا بالمدير يقوم بالتأشير على الطلب بالموافقة الفورية ، وحتى دون فحص الضمانات المقدمة ، وقام بتحويل الملف الى الموظف المعنى لاعداد الدراسة اللازمة لغرض التنفيذ . ولكن الموظف المعنى تفاجأ بضعف الضمانات المرفقة وعدم كفايتها للحصول على التمويل ، وبناء عليه ارجع الملف للمدير منبها اياه – وبكل حسن نية – ان الضمانات المقدمة لا تفى اطلاقا لمنح مثل هذا التمويل الكبير ، وان سعادته – اى المدير – من المؤكد لم يقم بمراجعة الملف قبل الموافقة عليه ، ربما لانشغالاته الكثيرة وزحمة العمل . الا ان المدير لم يعجبه تصرف الموظف ، رغم ان ما يفعله هو من صميم مهامه الوظيفية ، وقام المدير بتعزيز موافقته السابقة بكتابة اخرى على طلب التمويل بعبارة ” يكفى رصيده من الايمان ” واشار للموظف للمضى قدما لاعداد الدراسة وتنفيذ التمويل !
قصدت من المقدمة اعلاه فى بداية المقال عن عمل المصارف واهمية ادارات الائتمان والقروض اوالاستثمار والمعايير واللوائح المنظمة التى تحكم هذه الادارات لمنح القروض والتسهيلات ، لابين للقراء الى اى مدى نظام الانقاذ قد حطم الانظمة واللوائح والقوانين المنظمة لاى عمل فى الخدمة المدنية وخاصة فى قطاع هام مثل المصارف . شخصيا عملتُ لما يربو على العقدين فى المصارف وبانواعها ، المركزية منها والتجارية وفى داخل السودان وخارجه ، ولكن لاول مرة اسمع عن معيار لتقييم القروض المصرفية يسمى ” كفاية الرصيد الايمانى ” ، وحقيقة اشفقت جدا على موظف الائتمان فى هذا الحادث وتعاطفت معه لدرجة كبيرة لانى اقدر مدى الورطة التى ادخله فيها مدير البنك ، وذلك لانه سيقوم باعداد دراسة ائتمانية وافية لتحديد جدوى منح التمويل من عدمه ، ولكن مديره قد حدد مسبقا قرار منح التمويل وطلب منه فقط اعداد الدراسة (تحصيل حاصل ) بالاعتماد اساسا على عنصر جديد ومبهم لتقييم القروض من ابتداعه الخاص . ولابداء الجدية والاصرار وحتى لا يمنح الموظف اى فرصة للتوصية برفض التمويل فقد دون المدير معيار التقييم الجديد (كفاية الرصيد الايمانى ) كتابة بطلب التمويل ، حتى يتناسى الموظف عن اى اسئلة حائرة تدور فى ذهنه ، مثل كيفية قياس “الرصيد الايمانى ” وخاصة اذا اصبح هذا العنصر هو الوحيد والفاصل لتحديد جدوى المشروع من عدمه ، كالموضوع الحالى قيد الدراسة !
على المستوى الشخصى اعجب جدا لجرأة من يمكن تسميتهم ب ” فرق التمكين ” والذين اتى بهم نظام الانقاذ لادارة الخدمة المدنية بقطاعاتها المختلفة بعد تشريد الموظفين الاكفاء ، لان ملفات العمل فى اى مرفق ، غير انها تعتبر ارشيف للعمل يمكن الرجوع اليه فى اى وقت من الاوقات فى المستقبل لمراجعة العمل للتأكد من نظاميته ، فهى فى نفس الوقت سجل براءة للمسئول فى المرفق المعنى حتى ولو ذهب الى المعاش ، وذلك لقياس ادائه ونزاهته ومهنيته ، فكنت اتوقع توجيها شفويا من المدير للموظف المعنى لمنح العميل التمويل المطلوب على مسئوليته الشخصية وان يوقع فى النهاية على الدراسة بالموافقة بصرف النظر عن توصية الموظف ، ولكن ان يصل بالمسئول لكتابة عبارة غريبة على المهنة مثل ” كفاية الرصيد الايمانى ” وتكون هذه العبارة قابعة فى سجله المهنى ، وُتعتمد عليها بشكل حاسم فى موضوع منح الملايين من المال العام لمنسوبى النظام ، فهذه جرأة فائقة وخروج صارخ على المهنية التى ضاعت فى عهد الانقاذ ، وقلة حياء تستوجب المحاسبة الفورية ، ولكن لمن تُقرع الاجراس ؟!
محمد بشير ابونمو
الاثنين 10 فبراير 2014 م