ما تريده أثيوبيا في السودان غير ما تريده الخلجان والهكسوس .. بقلم: أحمد محمود كانم

بإستثناء الدول العظمي التي عبرت باكرا عن وقفتها مع تطلعات شباب الثورة السودانية ، هرولت كثير من دول الجوار الإقليمي لدعم المجلس العسكري ماديا ومعنويا وفنيا بل وعسكريا لوأد إرادة الشعب ، لا لشئ سوي لتعارض مصالحها مع وجود حكومة تقودها عقول مدنية تجيد الرقص علي إيقاعات طبول المصالح التي تربطها بينها وبينها دون إفراط أو تفريط . لكن كان من بين تلك الدول المجاورة دولة واحدة هي الوحيدة التي حظيت وستحظي بإحترام الشعب السوداني ما بقي فيهم شريف .
* في الواقع لم يكن آبي أحمد هو أول زعيم أثيوبي يخطوا تلك الخطوة المشرفة نحو استقرار السودان وتطلعات شعبه ، فقد سبقه في ذلك الامبراطور هيلا سيلاسي عقب استقلال السودان رغم الخذلان الرهيب الذي مني به من قبل نظيره السوداني آنذاك ، وقبلهما الامبراطور يوحنا في أواخر القرن التاسع عشر رغم الغدر الذي كلفه حياته علي أيدي السودانيين ،و ذلك في مارس/اذار 1887 بعد أن استشعر الخليفة عبد الله التعايشي استحكام قبضته علي الحكم في معظم أجزاء السودان و اتسعت شهيته لتوسيع دائرة نفوذه ، أرسل خطاباته الشهيرة للتبشير بالرسالة المهدوية ، فأرسل إلي الخديوي توفيق باشا بمصر ، والسلطان عبد الحميد ، والملكة فكتوريا في بريطانيا ، والسنوسي بليبيا وقبائل الحجاز وغيرهم .
إلا أن ما يجدر التوقف عنده هنا هو خطابه إلي الامبراطور الأثيوبي يوحنا و مواقفه ونظرته العميقة لمشكل السودان .
فقد كان يأمل الامبراطور يوحنا من أشقاءه السودانيين التعاون معه في الدفاع عن مصالح البلدين من أطماع الطامعين الذين تكالبوا علي نهب ثروات البلاد ، بغض النظر عن اختلاف التوجهات الأيدلوجية والدينية .
* وكان الخليفة عبد الله التعايشي قد كتب إلي الامبراطور يوحنا ثلاث مرات يدعوه إلى الإسلام ، وعندما تجاهله الامبراطور ، إستدعي حمدان أبو عنجة أحد أقوي قادته القتالية من كردفان ، وأرسله حاكما علي القلابات ، ليقوم بالاغارة علي أثيوبيا تنفيذا لتهديد الخليفة ، فأغار حمدان علي أثيوبيا مرتين خرب من خلالهما كثيرا من القري بعد أن قتل اهلها وغنم ممتلكاتهم وحرق دور العبادة وقتل الرهبان وحمل نساءهم سبايا إلي سيده الخليفة .
ولم يكن رد الامبراطور يوحنا علي هاتين الغزوتين بغزوة مثلهما ، بل كتب خطابا رقيقا إلي أبي عنجه بالأمهرية والعربية يدعوه إلى الصلح والإتحاد لصد الافرنج . فرد عليه ابو عنجة بأن اقتراح الصلح و_السلمية_ دليل علي الضعف ، وهو رأي الخليفة نفسه . فاضطر الامبراطور يوحنا علي الدخول مكرها في معركة الدفاع عن النفس ، فهجم علي القلابات في مارس 1889 ، وكان حمدان أبو عنجة قد مات وخلفه الذكي طومل ، و لقي الامبراطور يوحنا حتفه أيضا في تلك المعركة برصاصة طائشة.. مما ألقي بظلاله علي اضعاف قوة الجيشين ، فكانت إحدى أهم العوامل التي أسالت لعاب المستعمر البريطاني المصري وتحفيزهم للعودة إلى السودان .
نظرة سريعة إلي خطابي كل من االامبراطور يوحنا والتعايشي تدلنا علي ما كان بين الرجلين من فارق في الرجاحة العقلية ، فالاول رجل متزن ينظر إلى الأمور نظرة واسعة ، بينما كان التعايشي عكسه تماما . وما أشبه الليلة بالبارحة !
* إن أية محاولة لتقزيم دور الوساطة الأثيوبية المتمثلة في اللجنة التي شكلها رئيس الوزراء الإثيوبي د. آبي أحمد أثناء زيارته الأخيرة إلي السودان لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء ، يعتبر خطأ تاريخي لا يقل كارثية عن ما أقترفه التعايشي الذي عجل بمقتله وزوال أول دولة وطنية في ما سمي بالسودان الحديث وإعادته _رغم التجاوزات_ إلي حضن المستعمر مجدداً بعد استشهاد الملايين من أجدادنا الذين قال عنهم أحد قادة الجيش الاستعماري الحربيين : أنا لم أهزم السودانيين ..بل قتلتهم .
لم تحشر أثيوبيا الشقيقة أنفها في شأن سيادة السودان كما ألمح بذلك المجلس العسكري ، ولم تقم كغيرها بإعلان معاداة طرف دون آخر كما فعلت السعوديه والامارات ومصر .
وبالرغم من تحفظات قوي الحرية والتغيير من بعض شروط الوساطة الإثيوبية و زيارة بعض حلفاءها لأثيوبيا ، إلا أن ما يجب أن يدركه الجميع هو أن تفهم دولة أثيوبيا الشقيقة لمشكل السودان و قناعتها بعدالة قضية الثورة السودانية وإصرارها علي إعادة الطرفين إلي المفاوضات والضغط علي الاتحاد الأفريقي والولايات المتحدة للوقوف بجدية لحل مشاكل السودان ، تجعلها الدولة الوحيدة التي قدمت كل ما تراه مناسبا دون أن تكون لها أية في ما يدور في السودان سوي ما ترجوه من إلحاق السودان بركب التقدم والرقي عبر دولة مدنية ذات إرادة وإدارة و دراية قوية تجعلها مدركة بكل ما له وما عليه من حقوق وتطلعات مواطنيه ، وضمان استقرار الأوضاع بدول المنطقة .
فحذارا حذارا أن تخسروا هذا الوسيط القوي الأمين فتضطرون للشرب من نفس إناء الخليفة وبصورة أكثر بشاعة ، لأن المستعمرين الخليجين والهكسوس أشد جهلا وتخلفا وعنصرية وإستبدادا وأنانية لو كنتم تعلمون .
المملكة المتحدة
22 يونيو 2019

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *