ما بعد الصدمة الإقتصادية: المعضلة الأميركية.. غياب العدل في توزيع الموارد

ما بعد الصدمة الإقتصادية

 المعضلة الأميركية.. غياب العدل في توزيع الموارد

على مدى فترة زمنية طويلة، ظل الأميركيون يشترون أكثر من اللازم ويدخرون أقل من اللازم. هكذا يفتتح المؤلف، «روبرت رايش» صفحات كتابه الجديد الصادر أخيرا، الذي نتعايش مع أهم مضامينه وطروحاته في هذه السطور.

والحق أن هذه المقولة ليست من بنات أفكار المؤلف، وقد كان وزيرا ضمن المجموعة الوزارية المسؤولة عن قضايا المال والاقتصاد في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون.إن هذه المقولة منسوبة الى الوزير المسؤول عن القضايا نفسها في إدارة الرئيس أوباما الحالية، وهي تشير الى السلوكيات والمبالغات في الإنفاق والاستهلاك الى حد الإسراف والهدر، تلك التي أفضت، في رأي المؤلف، ومعه جمهرة من الباحثين والمحللين الى وقوع الأزمة المالية – الاقتصادية الراهنة.ومن عجب أن المؤلف لا يتفق مع هذه المقولة تماما، ولكنه يذهب في تحليلاته كمسؤول سابق وأكاديمي ضليع الى أن من جذور الأزمة الراهنة ما يتمثل في أن المستهلكين الأميركيين، وخاصة أفراد الطبقة الوسطى، ظلوا يستهلكون وينفقون بصورة أقل مما يحفظ للسوق وللاقتصاد صحتها وقدرتها على الاستمرار.من هنا يذهب المؤلف الى أن مشكلة أميركا تتجسد في أنها ظلت على مدار سنوات تستهلك أكثر مما تنتج، وتستورد أكثر مما تصّدر، وعندما بالغ المسرفون في أساليب الاستهلاك والطلب على الواردات زادت فواتير الاستيراد، وهو ما أوجد بدوره عجزا مخيفا في الميزان التجاري.:عندما يغيب العدل:هذا التشخيص يمكن أن يكون بديهيا، أو فلنقل تقليديا بالنسبة لأي بلد وأي اقتصاد. بيد أن مؤلف هذا الكتاب لا يقف عند حدود هذا التشخيص المأهول أو المكرور. إنه ينتقل خطوات أبعد كي يقول أن السبب الأساسي لأزمة بلاده يكمن في سلبية بالغة الخطورة يمكن أن تلخصها العبارة التالية: غياب العدل في توزيع موارد الوطن وثرواته القومية.

 

في رأي البروفيسور «رايش» أن جذور هذه الأزمة المالية الراهنة إنما ترجع الى الثلاثين سنة الماضية، تلك التي شهدت تفاقم هوة اللامساواة أو اللاتكافؤ في الدخل المالي بين طبقات وفئات المجتمع الأميركي، وهو ما أدى كما يقول الى مزيد من تركيز المكتسبات بيْد القلة الموسرة التي تحولت بحكم قانون الأشياء من حالة اليسر أو الرخاء الى حالة الاستئثار أو الاحتكار.

 

وبعقلية الأستاذ الجامعي يحرص المؤلف على أن يردف أفكاره هذه بأرقام مساندة ليوضح أنه في عام 2007 كان هناك نسبة واحد – نعم واحد في المئة – من الأميركيين تحظى بأكثر من نسبة 29 في المئة من إيرادات الأمة الأميركية بأسرها (واحد في المئة من السكان يستأثرون بنحو ربع امكانات البلاد «مرة واحدة»، كما يقولون).

 

مقارنة إحصائية

 

وعلى سبيل المقارنة الإحصائية، يحرص مؤلف هذا الكتاب على أن ينّبه القراء إلى أن أغنياء بلاده كانوا يتحكمون في نسبة لا تزيد على 9% خلال عقد السبعينات من القرن العشرين.

 

ما الذي تغير إذن؟ هذا هو السؤال المطروح بتكرار ملحوظ بين صفحات الكتاب، وهنا يجيب المؤلف موضحا ما يلي: الذي تغير هو شروط أو أركان المعادلة الاجتماعية الاقتصادية، بين حقبة السبعينات حيث كان ثمة توازن نسبي ومعقول الى حد ما بين الذين يملكون والذين لا يملكون، فالطبقة المتوسطة في أميركا صادفت مع الثمانينات وما بعدها من القرن الماضي اندلاع أوار المنافسة من جانب قوى خارجية.

 

في أوروبا وفي شرقي آسيا، والطبقات الأميركية الدنيا – ولاسيما عمال الصناعة والأُجراء – صادفتهم جاءتهم تحديات التطور التقني فإذا بالتكنولوجيات المستجدة في مجالات الإنتاج والخدمات، وقد أفضت الى الاستغناء عن جموع العمال الذين حلت محلهم كائنات الذكاء الاصطناعي ومستجدات الثورة التكنولوجية.

 

في تلك الفترة من سنوات عقد الثمانينات، ارتفعت الأصوات كي تلقي باللوم كله على عاتق الحكومة مطالبة بتقليل دور الحكومة الى حد تهميش دور ومسؤولية الدولة مقابل تضخيم وإعلاء دور القطاع الخاص في الداخل والشركات عبر الوطنية والمؤسسات المتعددة الجنسيات خارج الحدود.

 

ثلاثي الرأسمالية

 

في تلك الحقبة كان لابد وأن تلمع – كما يوضح مؤلف كتابنا – أسماء ثلاثة في سماوات السياسة ودنيا الاقتصاد. هي أسماء ميلتون فريدمان ( في شيكاغو) + مرغريت تاتشر (في لندن) + ورونالد ريغان (في واشنطن – العاصمة).

 

أما فريدمان فهو أستاذ الاقتصاد الأشهر وكان رأس مدرسة شيكاغو للاقتصاد الداعية الى تكريس وتطبيق سياسة إطلاق عنان النشاط الاقتصادي للقطاع الخاص والحد من دور الدولة ومسئولياتها الى حد التحجيم إن لم يكن التقزيم.

 

وقد راجت أفكار البروفيسور فريدمان، وعلى متن رواجها ارتفع نجم مرغريت تاتشر والرئيس ريغان اللذين ارتبط نظامهما الحاكم، كما هو معروف باقتصاد السوق.

 

بيد أن الذي حدث هو أن إطلاق العنان لقوى السوق، وفي مقدمتها بداهة قوانين العرض والطلب، جاء على حساب موارد ودخول وامكانات الطبقات الدنيا والوسطى في المجتمع، الأمر الذي اضطر أفرادها الى الحد من استهلاكهم وتقليص مشترواتهم وإعادة تعريف احتياجاتهم على أساس مبدأ الانكماش ومفردات الاستغناء عن هذا البند أو ذاك.

 

من هنا يخلص الأستاذ «روبرت رايش» الى ما يلي: إن تحجيم استهلاك الطبقات العاملة والوسطى أدى إلى انخفاض الطلب، فإذا كانت الإيرادات المكتسبة غير كافية، فإن الاقتصاد يطرح في السوق سلعا ويهيئ خدمات تزيد عن قدرة الناس (العاديين) على شرائها أو اقتنائها أو الحصول عليها.

 

في هذا السياق يقول المؤلف: إن العاملين في أي مجتمع هم أيضا مستهلكون. وإذا ما تقاضوا أجورا أو رواتب مجزية أو كافية فهم يبادرون بالطبع إلى شراء السلع والخدمات التي ينتجها العاملون الآخرون.

 

من ملفات الماضي

 

في السياق نفسه يستعيد «رايش» درسا مستفادا من ملفات الماضي شبه البعيد: ويتمثل في مبادرة رجل الصناعة الأميركي الشهير هنري فورد (1863 – 1947) الذي استوعب هذه البديهية الاقتصادية فكان أن رفع الأجر اليومي للعاملين على خط تجميع أحدث سياراته في العقود الأولى من القرن العشرين بواقع 5 دولارات يوميا، وكان هذا أكثر من ضعف الأجور السائدة في تلك الأيام.

 

هكذا أبرم فورد (وأمثاله من بناة الاقتصاد الحديث) ما يصفه المؤلف بأنه «الصفقة الأساسية» التي جلبت معها فترة رواج اقتصادي نعمت به أميركا برخاء غير مسبوق وخاصة عبر السنوات الفاصلة بين عامي 1947 و1975.

 

ثم يمضي المؤلف خطوات أبعد يجتاز فيها الحدود الفاصلة بين عالم الاقتصاد والاستهلاك وعالم السلوك والسيكولوجيا، يقول أن المجتمع الذي اعتاد أفراده أن يشهدوا إسرافا وتبذيرا إلى حد الإهدار من جانب صفوة طبقاته، سيظل من الصعب على أفراد طبقاته الأدنى أن يمارسوا سلوكيات الترشيد والتقشف بغير حدود.

 

المؤلف هنا يحيل بشكل غير مباشر إلى النمط المتعارف عليه في العلوم السلوكية وهو: إن الاستهلاك الترفي – الكمالي سلوك مُعدٍ، في حين أن الاستهلاك التقشفي الرشيد نمط ليس معديا بحال من الأحوال، فالناس – كما يقول المؤلف – يصعب عليهم ألا يزيدوا استهلاكهم وهم يروْن من حولهم ينفق الآخرون عن سعة ذات اليمين وذات الشمال.

 

وفي بلد فقير – يقول المؤلف أيضا – قد يعبر الرجل عن محبته لزوجته فيهديها زهرة يانعة، لكن في بلد يعمد فيه أثرياؤه إلى تبذير الأموال الطائلة حتى في شراء طاقات الزهور النادرة، ولا تقنع حتى أزهد الزوجات إلا بباقة من ست وردات غاليات الثمن في كل حال.

 

وهكذا – يواصل المؤلف أيضا – ارتفعت تكاليف حفلات الزفاف بين الأميركان من نحو 11 ألف دولار بين عامي 1980 و2007 لتصل الآن إلى 28 ألف دولار حتى بعد تكييف الأرقام وتعديلها حسب معامل التضخم.

 

صفقة أكثر إنصافا

 

هكذا فكتابنا تسوده نغمة أو دعوة إلى توسيع مظلة العدل والإنصاف، وهو ما لاحظناه من جانبنا بقدر ما لحظه أيضا «سباستيان مالابي»، الزميل الباحث في مجلس العلاقات الخارجية في واشنطون في عرضه النقدي لهذا الكتاب الذي حرص على أن يضع له العنوان التالي: صفقة أكثر إنصافا والكاتب المذكور يرصد صفحات النقد التي احتواها الكتاب.

 

لا لأساتذة أو خبراء الاقتصاد ولكن لقادة العمل السياسي حتى من بين صفوف الحزب الديمقراطي الذي ينتمي إليه المؤلف شخصيا، وخاصة كبار أعضاء الكونجرس الذين لم يتورع مؤلف الكتاب عن اتهامهم بسلوك التواطؤ مع الدوائر الاقتصادية التي تسببت في وقوع الأزمة المالية الراهنة.

 

في هذا الصدد يضيف المعلق «سباستيان مالي» في وصف مؤلف كتابنا ما يلي: «روبرت رايش» أستاذ في كلية بيركلي المرموقة وهو معلق شهير في الإذاعة القومية الأميركية، والرجل يتمتع بمواهب تجمع بين بلاغة الحديث وجسارة السلوك لدرجة الطرافة في بعض الأحيان.

 

بهذه الشمائل لا يتورع المؤلف – كما نلاحظ من واقع سطور كتابنا – عن توجيه قوارص الكلم إلى شخصيات من قبيل السناتور «كريستوفر دود» الذي يتهمه بأنه له علاقات دون مستوى الشبهات مع دوائر الصناعة وإلى السناتور «توم داشل» الذي تهرب رغم مكانته من دفع الضرائب وإلى ديك جبهارت الذي سبق إلى استنكار سلوكيات العاملين في مهنة اللوبي التي تحدق بدوائر الكونجرس مستعينة كما هو معروف في السياسة الأميركية بأساليب الإقناع والإغراء أو الضغط أو حتى الابتزاز، ومع ذلك فما لبث السياسي المذكور أعلاه أن أصبح واحدا من أبناء هذه المهنة.

 

عن الضرائب التصاعدية

 

من جانبه يرى المؤلف أن لا سبيل إلى خروج مجتمعه من أزمته الراهنة إلا برفع السقف الضريبي، على شكل ما يصفه بأنه «ضرائب تصاعدية» تؤديها الشرائح الموسرة التي تشغل.

 

كما ألمحنا، نسبة الواحد في المئة من قمة الهرم الاجتماعي – الاقتصادي في الولايات المتحدة إذ يفوق دخل الفرد منها مبلغ 410 ألف دولار في السنة، ومن ثم تكون مطالبته بدفع ضريبة قد تصل إلى نسبة 55 في المئة، أما الذين تزيد ايراداتهم السنوية عن 260 ألف دولار فيدفعون نسبة 50 في المئة، وهكذا.

 

يقترح المؤلف أيضا أن تقترن هذه الإجراءات بزيادات تطرأ على الأجور ويواكبها تخفيضات تناسبية معقولة في نسب الضرائب المفروضة على أفراد الطبقة الوسطى في أميركا ومن دونها وصولا إلى الذين تقل إيراداتهم في السنة عن 20 ألف دولار.

 

ومرة أخرى يعلق على هذه المقترحات التي يطرحها الكتاب – كاتب آخر هو «جيمس برسلي» الذي يرصد موعد صدور كتاب الوزير الأميركي السابق مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية المقرر عقدها في نوفمبر القادم حيث تظل مصائر الحزب الديمقراطي الحاكم – حزب الرئيس أوباما على المحكّ.

 

وفي هذا الخصوص يقول جيمس برسلي: مازلت أعتقد أن الأميركيين سوف يلتمسون سبيلا إلى الأمام بما من شأنه تجنب مثل هذه الدعوات الشعبوية التي يطرحون مثيلات لها في أوروبا الغربية.

 

فيما تتلافى أيضا الاستمرار في الإمعان بإتباع سياسة الانفلات الاقتصادي بعيدا عن الضوابط واللوائح والتنظيمات (يصفها الناقد بأنها سياسة دعه يعمل ودعه يمر الداروينية بمعنى أنها تترك الحبل على الغارب لقوانين العرض والطلب دون أي تدخل أو محاولة ترشيد من جانب الإدارة الحاكمة).

 

مع ذلك، يحسب للمؤلف أنه لم يكتف بتحصيل الحاضر أو تشخيص أدوائه، ولكنه شغل نفسه بإلقاء نظرة على آفاق المستقبل الذي ينتظر اقتصاد بلاده حيث مازال يعاني آثار صدمة 2008، ومن ثم تأتي أهمية المنظور المستقبلي الذي أطل منه «البروفيسور رايش» على أحوال ما بعد الصدمة على نحو ما يوضحه عنوان هذا الكتاب، والذي يؤكد أنه ينبغي أن يمر بحزمة إجراءات جريئة يعتمدها أوباما لإعادة التوازن للمجتمع الأميركي.

 

المؤلف في سطور

 

استطاع البروفيسور «روبرت رايش» أن يجمع في مسيرته في سلك العمل العام بين الجانب الأكاديمي بوصفه أستاذا لعلم السياسة العامة في كلية غولدمان بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، وهي معهد مرموق في مجال العلم المذكور، وبين خبرته الميدانية الحافلة وخاصة بعد أن شغل منصب وزير العمل في إدارة الرئيس الأميركي الأسبق «بيل كلينتون».

 

وربما دفعته هذه الاهتمامات الى أن يضع خبراته البحثية في خدمة توعية الجمهور في بلاده بأبعاد القضايا الاقتصادية والمالية، وخاصة في أعقاب الأزمة الاقتصادية التي مازالت آثارها ماثلة في مرافق الحياة الأميركية.

 

ومن ثم تتوالى حتى الآن أحاديث البروفيسور «رايش» سواء على شاشات التليفزيون أو من خلال الراديو (إن. بي. آر – الإذاعة القومية الأميركية التي تتمتع بمصداقية خاصة بحكم تبعيتها للحكومة الاتحادية وعدم اعتمادها على الإعلان التجاري سبيلا للتمويل).

 

وقد سبق وقدمت «البيان» عرضا مستفيضا لآخر ما أصدره «روبرت رايش» من دراسات وهو كتابه المهم بعنوان «السوبر ؟ رأسمالية» الذي عالج فيه ظاهرة التحول في دنيا المال والأعمال التجارية وعلاقة هذه التحولات بالديمقراطية على مستوى المجتمع وبالحياة اليومية على مستوى الأفراد.

 

صدر هذا الكتاب في سبتمبر الماضي، وحظي باهتمام واسع وملحوظ من جانب عدد كبير من المعلقين والنقاد في مجالي الاقتصاد والسياسة على السواء، ومنهم من ربط بين توقيت صدوره وبين انتخابات التجديد النصفي لمجلس الكونغرس في الولايات المتحدة على وجه الخصوص.

 

وفيما تذهب طروحات الكتاب الى أن السبب الجوهري للأزمة الاقتصادية الحالية إنما يرجع في جذوره الى الافتقار الى التوازن العادل في توزيع الدخل (أجورا ورواتب ومكافآت وعوائد) بين شريحة أعلى تكاد تستأثر بأكبر المقدرات (ولا تزيد نسبتها الحالية عن 1 % من أفراد المجتمع الأميركي) .

 

فإن من خبراء المال والاقتصاد من يتصور أن السبب الأساسي إنما يتمثل في أن المجتمع لم يشهد نموا حقيقيا ولا تطورا جذريا في الوسائل التي يتبعها في مسيرته الاقتصادية، وبمعنى أن السبب ليس التباين الاجتماعي الطبقي، بقدر ما أنه قصور حركة النمو وجهود التنمية، مع ما واكب ذلك من زيادة الواردات على الصادرات (من أطراف من آسيا بالذات) وهو ما أدى إلى إصابة الميزان التجاري الأميركي بخلل بالغ.

 

من ناحية أخرى تشير طروحات الكتاب أيضا إلى أن أفراد مجتمع المؤلف انساقوا إلى آفة الإسراف وسلوك الإهدار بحيث تجاوزت سبل معيشتهم حدود ما بحوزتهم من موارد وإمكانات.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *