ما الذي سيكبح جماح المؤتمر الوطني ؟
تطالعنا الصحافة كل يومٍ بتناقض جديد في خارطة الحياة السودانية يصب بدوره في محيط تراكم من المهددات التي لا تنذر إلا بالمستقبل المظلم لهذا البلد الكبير , وهذا الذي نسوقه قطعاً ليس نظرة تشاؤمية بأي حال بقدر ما أنه واقع يدركه كل السودانيين ويتابعه العالم أجمع , أن تكون هنالك صراعات سياسية ـ في بلدٍ ما ـ بين الأحزاب هذا أمر طبيعي بل حتى يمكن أن يعد ظاهرة صحية قد تفضي في نهاية المطاف إلى أمن و استقرار هذا البلد أو ذاك أو أن تكون هنالك نزعات لدى مجموعة عرقية معينة أو جماعاتٍ إثنيةٍ محددة مع سلطات مركزها وتريد أن تبني كيانها المستقل وتؤسس دولتها الخاصة بها والتي تستطيع من خلالها أن تمارس ثقافتها وتبلور هويتها فهذا أيضاً أمرٌ طبيعي جداً ومشروع حتى وإن أدى الأمر ـ في بعض الأحيان ـ إلى نزاعاتٍ مسلحة كما حدث ويحدث في كثير من بقاع الكرة الأرضية وهنالك نماذج شتى والسودان ليس هو البلد الوحيد في هذا المنحى فجنوب اليمن نموذج والصحراء الغربية نموذج بل وحتى في أوربا التي تعد عالماً متقدماً ومتمدناً تطفح فيها مثل هذه النزعات الاستقلالية وعلى سبيل المثال إقليم كاتالونيا الإسباني نموذج , إذاً فالذي أردنا أن نمهد له هو أن الصراع بأشكاله المتنوعة سواء أن كان سياسياً أو ثقافياً أو دينياً أو جغرافياً أو عرقياً يُعد أمراً طبيعياً في صيرورة حياة المجتمعات البشرية ما دام يُفضي إلى تلبية طموحها وتحقيق سعادتها , لكن هل كانت هذه الصراعات والنزاعات التي تدور رحاها هنا أو هناك في هذا البلد أو ذاك أمراً مجانياً هكذا أو مثالياً ” طوباوياً ” هكذا دون ثمن يُدفع أو فواتير تسدد قبل وبعد انتفاء مسوغاتها ألتي أدت إليها ؟ قطعاً هي ليست هكذا , أي ليست لتنتهي بهذه البساطة والسذاجة , وبسحب كل هذا على واقعنا السوداني نجد أن بلادنا قد دفعت على فواتير الحرب أكثر مما دفعته على فواتير السلام , وأمضت أكثر سنوات ما بعد الاستقلال في الغاب مقارنةً بما جلستها لبناء جسور التنمية والمودة والوئام , فأي بلد في العالم ظل يُكرس كل إمكاناته ويوجه كل ثرواته لبناء آله الحرب والدمار بأكثر مما يبني المدارس ويؤمن البنيات التحتية للمستشفيات ؟ بل ويقدم فلذات أكباده حطباً للحرب وليقتلوا بعضهم بعضاً ثم ليسمي من بعد ذلك فريقاً أعداء وفريقاً شهداء ؟ مؤكد أن هنالك بلداً واحد وهو السودان فهو الوحيد الذي ضرب الرقم القياسي في هذا المضمار ونعني الاقتتال الذي لا تنطفئ ناره إلا لتستعر مرة أخرى من جديد , ولعل هذا يقودنا لما دفعنا إلى كتابة هذا المقال , فقبل يومين قرأتُ تصريحاً لواحدٍ من أبرز القيادات الفاعلة في الحياة السودانية بل هو واحدٌ من أول خمسة شخوصٍ دستورية في هذا البلد الكبير وقبل ذلك كله هو واحدٌ من اللذين لعبوا ـ ويفتو يلعب ـ دوراً كبيراً في رسم ملامح السودان الجديد , فمني أركو مناوي قطعاً ليس رقماً سهلاً أو كياناً مهيناً هكذا يمكن أن تمر الأحداث من تحت جسره دون أن تواجه مصاعب أو عنت , فالرجل كما نعلم يُعد أحد الأركان الأساسية في الصراع الدارفوري والتي بتوقيعها لاتفاق أبوجا كانت قد غيرت من ملامح ذاك الصراع المشار إليه , إذاً فقوله أن انفصال الجنوب قد أضحى أمراً واقعاً وأنه ينتظر الصبغة القانونية قولاً يجب أن لا نتخذه هزواً , ولكن الأكثر خطراً من ذلك هو ما جاء بعد هذا القول حين أشار إلى أن ـ انفصال الجنوب ـ سيفتح شهية العديد من الأقاليم الأخرى , وأن ذلك سيؤدي بدوره إلى نشوب حروب وإلى استنهاض فتنٍ نائمة وما إلى ذلك , فإننا نحسب أن ما قاله هذا الرجل هو فعلاً ما يتوقعه الجميع وهو بالحرف ما قال به الكثيرون غيره , لكن السؤال المُلح الذي يطرح نفسه هو : لماذا كل هذا الصمت أو الخفوت في الأصوات والتي إن ارتفعت لم ترتفع إلا خجولة ؟ ولماذا تترك الكيانات السياسية الفاعلة والقيادات المؤثرة ـ بما فيها وبمن فيها ـ مني و فصيله الحبل على القارب للمؤتمر الوطني ليعيث في الأرض فساد ؟ ألم يئن لمناوي أن ينفض يده وينشر أجنحته ويتولى دفة القيادة ـ في هذا الظرف الحرج ـ بدلاً عن أن يظل حبيس تهميش سلطويٍ فاضح جعله شخصياً يقر بأنَّ دوره يتلخص في ” مساعد حلة ” ـ أو كما عبر هو نفسه في وقتٍ سابق ؟ وما الذي سيكبح جماح المؤتمر الوطني غير وقفات جسورة تقدم عليها القيادات المؤثرة من الرجال ؟ أن يجيز البرلمان السوداني قانون الاستفتاء الذي يقرر بموجبه الجنوبيون مصيرهم أو يعيده مرة أخرى لطاولة التفاوض كل هذا ليس بالأمر المزعج بل ربما كان أمراً صحياً كما أشرنا آنفاً خصوصاً إن تم ذلك في مُناخٍ يعرف فيه الجميع حقوقهم ويدركون ما عليهم من واجبات , لكننا نحسب أن الأمر المزعج والمزعج جداً هو أن يظل حزباً واحداً فارضاً هيمنته المطلقة ولأكثر من عقدين من الزمان وتحت هذه الأجواء التي لم تكن طبيعةً بتاتاً , وهذا يجعلنا نعود مرة أخرى للسؤال الأول أو القول : ألم يئن لكل هذا العبث أن يُكبح مده ؟ في تقديرنا أن أمام المعارضة بمطلق أطيافها هنالك طريقان اثنان لا ثالث لهما ويحكمهما أمد محدد وهما : إما أن تتحد القوى الوطنية بجميع فصائلها وتخوض معركة الانتخابات القادمة وتقوض من ثم سلطة المؤتمر الوطني أو الثاني أن تتبنى قبل ذلك مقترح الأستاذ على محمود حسنين وتفجر انتفاضة شعبية وتتحمل في كلا الحالين ما يستتبعه من تضحياتٍ ومخاطر ونحسب أن دون هذين الأمرين ستؤول البلاد إلى ما تنبأ به مناوي وأمَّن عليه الكثيرون سواه ..
حاج علي ـ Wednesday, December 30, 2009
[email protected]