فلنُدرك ميناء بورتسودان قبل الابتلاع ..!

د. فيصل عوض حسن
وفقاً لصحيفة الراكوبة وباج نيوز في 22 فبراير 2020، أعلنت حكومة حمدوك أنَّ لديها خِطَّة إسعافِيَّة لتشغيل ميناء بورتسودان، عبر (دولة أجنبِيَّة) بمبلغ 250 مليون دولار، وأنَّ هناك (5) دول تتنافس على تشغيل الميناء، وأنَّهم شَكَّلوا لجنةً من (4) وُزراء للنظر في هذا الأمر. واعتبرت الأمين العام للاستثمار وتنمية القطاع الخاص، أنَّ ميناء بورتسودان (أكبر) مُشكلة تواجه الاقتصاد حالياً، رغم إقرارها بموقعه الاستراتيجي، مُسْتَدِلَّةً بتَعَطُّل حاوية (شخصيَّة/تَخُصَّها) لـ5 أشهر بسبب إجراءات الميناء!

التصريحات أعلاه مُتناقضة ومُريبة، فمن جهة أمَّنَتْ (السيدة) أمين عام الاستثمار، على الموقع الاستراتيجي لميناء بورتسودان، ومن جهةٍ ثانية وصفتها بـ(أكبر) مشاكل الاقتصاد، لكنَّها (تَحَاشَت) تماماً الإقرار بفشلهم في (الإدارة/التسيير)! فإتاحة الميناء للغير يعني (الفَشل)، والغريب المُرتَقَب سواء كان فرداً أو دولة، ليس غبياً ليرمي أمواله للمخاطر، وليس (قدِّيساً) ينشُد الثواب الرَبَّاني، ولكنه دَرَسَ الأمر ويعلم تماماً الفوائد (المُضاعفة) التي سيجنيها بدِقَّة. وأمَّا (الرِّيبة)، فمَبْعَثَها بعض التَساؤُلات التي يجب تَدَبُّرها، ومن أبرزها: متى وُضِعَت الخِطَّة الإسعافِيَّة المزعومة، ومن وضعها وما هي مُؤشراتها؟ ولماذا لم يُشركوا العاملين في ذلك، باعتبارهم أكثرِ النَّاس معرفةً بأوضاع الميناء واحتياجاتها الفعليَّة؟ وهل يكفي تَعَطُّل حَاوِية تَخُص (السيدة) أمين عام الاستثمار، لنعتبر الميناء (أكبر) مشاكل الاقتصاد؟ ومن الذي حَدَّدَ مبلغ التشغيل المُشار إليه أعلاه، وبُناء على ماذا، ومن سيتكفَّل بدفعه؟ وهل نعجز عن توفير هذا المبلغ الزهيد، حتَّى نتخلَّص من (رئة) البلاد ومنفذها الرئيسي للعالم، بخلاف عوائده الضخمة و(المضمونة)؟ وما هي الدولة (الأجنبِيَّة)، ومتى اتفقوا معها، وآجال الاتفاق (متى يبدأ وينتهي) وشروطه؟ وهل فُوْضِلَت الدولة مع دُوَل أُخرى، وما هي معايير المُفاضلة، وما حدود/نِسَبْ مسئولياتها الاجتماعِيَّة؟ وأين الشفافِيَّة التي وَعَدَ بها الدكتور حمدوك، في أوَّل تصريحاته عقب أدائه القَسَم كرئيسٍ للوُزراء من (التعتيم) المُصاحب لهذا الأمر السيادي/الخطير؟

الأهمَّ من كل هذا، أنَّ مبدأ إتاحة الميناء للغير (مرفوضٌ) من أساسه، سواء كان بالبيع/الإيجار أو الإدارة/التشغيل (الكُلِّي أو الجُزئي)، لأنَّه يتَقَاطَع مع الثوابت السياديَّة/السياسيَّة والاقتصاديَّة المُتعلِّقة بالمنافذ البحريَّة، ويجب (مُعاقبة) من يسعى لذلك بأقصى العقوبات! فبجانب إقرارنا الكامل بحقوق العُمَّال والمُجتمع المحلي ببورتسودان والشرق عموماً، فإنَّ الميناء يَهِم (جميع) السُّودانيين، ويتجاوز النطاق الجُغرافي والقَبَلي/الجَهَوِي الذي (يَتَعمَّدون) حصره فيه، ومُحاوَلاتهم (الخبيثة) لتبسيط أخطار التَخَلُّص منه. فميناءُ بورتسودان ركيزة (حتميَّة) لاستقلالنا/سيادتنا الوطنيَّة، وبتأجيرها للغير تصبح معلومات وارداتنا وصادراتنا ومخزوناتنا الاستراتيجيَّة (مكشوفة)، وهذا خطرٌ أمنيٌ/استراتيجيٌ كبير. كما تُعدُّ الميناء مفتاحاً لتجارتنا الدوليَّة ورابطاً لاقتصادنا بالعالم، وتُساهم بـ(عوائدها من العُمْلاتِ الحُرَّة) في تحسين ميزان المدفوعات وزيادة النَّاتج المحلي، وتخفيض تكاليف الواردات وتدعم القُدرات التنافُسيَّة للصادرات، وترفع مُستوى الدخل وتُهيئ فرص العمل، بخلاف عوائد/رسوم عبور ورُسُو السُفُن الأجنبيَّة، وهذه مُعطياتٌ تتقاطع وإتاحة ميناء بورتسودان للغير مهما كانت المُبرِّرات.

لنتأمَّل قليلاً مُعاناة الدول الحبيسة/المُغلقة أو المعزولة بحرياً، وخضوعها (صَاغِرَة) للغير عن الاستيراد والتصدير، وتأثُّر نموها الاقتصادي بتكاليف النقل والمُنَاوَلة وغيرها، بخلاف الأبعاد السياسيَّة وهي الأخطر. وإنْ كانت مُعاناة الدول المعزولة/الحبيسة، أقلَّ حِدَّةً بأوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فهي أشدُّ أثراً بالدول الأفريقية، لأنَّنا بالأساس دول نامية أو أقلَّ نمواً، ونحتاجُ لـ(تنويع) و(تطوير) مصادر الدخل القومي وتقليل النفقات العامَّة. ولو أخذنا إثيوبيا كمثال، نلحظ تأثُّرها الكبير بوضعها الجُغرافي كدولةٍ حبيسة، ولُجُوئها للموانئ المُجاورة كجيبوتي والسُّودان (ميناء بورتسودان نفسه)، خاصَّةً عقب تَورُّط المُتأسلمين في مُحاولة اغتيال حسني مُبارك بأديس أبابا، وهي فرصةٌ انتهزتها إثيوبيا، ليس فقط لاستغلال ميناءنا ببلاش، وإنَّما لإشباع أطماعها المُتجَذِّرة في أراضينا الخصبة والمُسْتَوِيَة، وهي مزايا تفتقدها إثيوبيا لوقوعها في منطقةٍ مُرتفعة، ودخلت بسببها في مُشاحناتٍ تاريخيةٍ مع جيرانها بالقرن الأفريقي وحوض النيل والبحر الأحمر، والحديث يطول ولا يسع المجال لذكره. وهناك أيضاً، دولة جنوب السُّودان، التي عانت من الاختناق وعَجَزت عن تصدير البترول، لأسبابٍ سياسيَّةٍ أو لارتفاع تكاليف نقله، وهذا أيضاً لغياب المنفذ البحري، وهو حال جميع مناطق السُّودان الأُخرى، التي تُشكِّل بورتسودان منفذها الوحيد للعالم.

سينبري (القحتيُّون) وأزلامهم مُدافعين عن هذه الخيانة، بحجَّة (تَدَهْوُر) الميناء وحتميَّة تطوير آلياته والاستفادة من تكنولوجيا التشغيل، وغيرها من الحِجَجْ/المُبرِّرات الواهية. وفي هذا نقول، بأنَّ ميناء بورتسودان دَمَّره المُتأسلمون (عَمداً)، حينما تَخَلَّصوا من كوادره الكفوءة والنَّزيهة، واستبدلوهم بآخرين لا يُجيدون سوى النهب والتدمير، وأهملوا صيانة الميناء وتطويره ليجدوا الحِجَّة للتخلُّص منه. وبالنسبة لحِجَّة التكنولوجيا، فيُمكن (ابتعاث) نُخبة من شبابنا في دوراتٍ تدريبيَّةٍ مُتخصِّصة، وفق شروط واعتبارات فنِّيَّة/مِهَنِيَّة دقيقة، إلى الدول المُتقدِّمة في إدارة وتشغيل الموانئ، لرفع كفاءتهم وترقية قدراتهم في هذا المجال. أو يُمكن جَلب خُبراء من تلك الدول لتدريب كوادرنا الوطنيَّة بـ(الداخل) تقليلاً للتكاليف. أمَّا التكنولوجيا نفسها من آليات ومُعدَّات وأدوات مُناولة وغيرها، فيُمكن توفيرها عبر المُغتربين الذين أبدوا استعداداً كبيراً للمُساهمة في نهضة البلد، ويكون ذلك في شكل أسهم بأسعارٍ مُحدَّدة وفق الاحتياجات (الفعلِيَّة)، وتُطْرَح الأسهم للسُّودانيين (حصراً)، لكن هذه الخطوة تُحتِّم على حمدوك وحكومته نشر (تفاصيل) خطِّتهم المزعومة لتشغيل الميناء فوراً، وإشراك العاملين والخُبراء (المحليين) في كافَّة المراحل وعدم (التعتيم)، ليُثبتوا لنا مِهَنيَّتهم وصدقهم/جدِّيتهم في خدمة البلاد وتطوير الميناء!

يُؤسفني كثيراً القول بأنَّ حمدوك وجماعته لم يتركوا (للعُقلاء) فرصة للثقة فيهم، تبعاً لمُمارساتهم وتضليلاتهم المُتتالية ونقضهم المُتواصل للعهود! وعلى سبيل المثال وليس الحصر، أدَّى (حمدوكٌ) القَسَمَ رئيساً للوُزراء في 22 أغسطس 2019، وبحلول 22 فبراير 2020 أكَملَ (180) يوماً في السُلطة، لم يُعالج فيها الاقتصاد في (100) يوم كما وعد، ولم يبلغ السلام الذي قال في (6) أشهر، ورَفَعَ الدعم الذي (التزم بشِدَّة) على عدم رفعه، رغم قناعتي بأنَّ ما فعلوه ليس رفع دعم وإنَّما (زيادة أسعار)، ولم يجعل الحد الأدنى للرواتب (8800 جنيه)، ولم يُوقِف تصدير موادنا الخام (وياريت لو كانت هناك فوائد عائدة للبلد)! ولم تتحقَّق الحُرِّيَّة والعدالة واستمرَّ القتل والنهب والمُلاحَقاتِ وتكميم الأفواه، و(تَجَاهَلَ) الشهداء والجرحى والمفقودين، وصَمَتَ على إزالة (الجداريات) الرَّائعة المُعبِّرة عن ملاحمهم/تضحياتهم الفريدة، حتَّى لجنة التحقيق التي شكَّلوها بَدَأت باللَّف والدوران، ولَاحَت نُذُر خيباتها في الأُفُق.
ليت حمدوك اكتفى بالتضليل و(نقض) العهود/الالتزامات، إنَّما جَلَبَ لنا (بَلَاوي) من العَدم كتعويضات الضحايا الأمريكان البالغة 10 مليارات دولار، زاعماً أنَّها شرطٌ لإزالة اسم السُّودان من قائمة الإرهاب، وأنَّه (خَفَّضها) لملايين، وهذا قمة التضليل، حيث لم يشترط الأمريكان هذا الشرط من قبل، ولم نسمع به إلا خلال زيارة حمدوك لأمريكا، دون دعوةٍ رسميَّة أو تنسيقٍ مُسبق، حيث لم يستقبله أي وزيرٍ من وُزرائها، ثُمَّ خَتَم (الخيبات) بتسليم البلد (تسليم مفتاح) للأمم المتحدة..! وهذه جميعاً مُعطيات (مُوثَّقة)، عايشنا تفاصيلها كواقعٍ أمامنا، ولم آتِ بها من عندي، تجعل كل ذي عقل لا يثق بحمدوك وحكومته، بعدما اتضح بما عدم اكتفائهم بكَسْرِ خَواطِرِنا وسرقةِ ثورتنا (الوحيدة)، وإنَّما (إصرارهم) الواضح، لاستكمال أخطر مُخطَّطات المُتأسلمين وتلبية أطماع سادتهم بالخارج، ولقد (وَثَّقتُ) لهذا في عددٍ من المقالات المُفصَّلة، كمقالة (إِلَى أَيْن يَقُوْدُنَا حَمْدوك) بتاريخ 24 سبتمبر 2019، و(المُتَلَاعِبون) بتاريخ 24 أكتوبر 2019 و(مَتَى يَنْتَبْهْ اَلْسُّوْدَانِيُّون لِعَمَالَةِ حَمدوك) بتاريخ 10 فبراير 2020.

أعلمُ تماماً أنَّ حديثي لن يعجب (الهَتِّيفَة) وآكلي الفِتَات وبعض الغافلين، لكن هذا لا ينفي أنَّه حقائق عشناها جميعاً، ويستحيل إنكارها وتجاوُزها بالصياحِ/الهجوم غير المنطقي، وإنَّما تتطلَّب التَدَبُّرِ وإِعْمَالِ العقل والمنطق في تحليلها، بعيداً عن العواطف والمُجاملات. علينا تطبيق هذه المنهجِيَّة العلميَّة/العمليَّة في خطوات التَخَلُّصِ من ميناء بورتسودان، أخذاً في الاعتبار التساؤُلات المنطقيَّة التي طرحتُ بعضها أعلاه، وعدم الاعتماد على آراء/أقاويل الآخرين وتشكيل قناعاتنا في ضوئها، ليتسنَّى لنا الوصول لاستنتاجاتٍ وواقعِيَّة. ولنثق تماماً بأنَّ حمدوك و(قحتيُّوه)، لن يتأثَّروا بفُقدان ميناء بورتسودان، وسيختفون عقب إكمال مهامهم، وحينها ولن نجد حمدوك لنقول له شكراً أو (تباً)!

أُكرِّر ما قلته سابقاً، بأنَّ موانئنا البحريَّة حالة استثنائيَّة، لأبعادها السياديَّة والسياسيَّة/الاستراتيجيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، وميناء (بورتسودان) تحديداً تُعدُّ آخر مُقدَّراتنا الوطنيَّة/القوميَّة العاملة، والمُصيبة سَتَطَال (كل) السُّودان دون استثناء إقليم/منطقة. فلنتَّحد جميعاً للحفاظ عليها، ولنُنَاهِض هذه الجريمة بكل ما أوتينا من قدراتٍ وطاقات، ولتكن هَبَّة بورتسودان بداية انطلاقتنا (القَوِيَّة)، لإيقاف مُخطَّطات نهب وتمزيق ما تبقَّى من بلادنا.
د. فيصل عوض حسن
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *