سليم عزوز
«على الضيق»، كان استقبال الرئيس السوداني عمر البشير، لـ «عبد الفتاح السيسي» في الخرطوم؛ حيث اقتصر المؤتمر الصحافي على دعوة الإعلام المحلي فقط! «على الضيق» هو اصطلاح مرتبط بـ «فقه الأفراح» عندما يكون الفرح قاصراً على أقرباء الدرجة الأولى للعريسين، وعادة ما يتم هكذا لأسباب مالية، أو لظرف عائلي طارئ، كأن يكون أي من العروسين، قد فقد قريباً له، ولا يمكن التأجيل لأسباب مرتبطة بـ «النحس»، الذي يحيط بهما، ولكثرة الوفيات في العائلتين، أو لأن العريس مسافر إلى الخليج، و»خير البر عاجله»!
وقد احتارت البرية في محاولة الوقوف على سر أن يكون المؤتمر الصحافي «على الضيق»، والاكتفاء بدعوة الإعلام المحلي، مع أن معظم مراسلي الإعلام الأجنبي في الخرطوم هم أيضاً صناعة محلية، ومن أهل السودان، ومن ثم يكون القرار باقتصار الفرح على الصحف والفضائيات السودانية، لافتا، ومثلي لم ينطلي عليه المبرر بأن المكان ضيق، لا يتسع لكل المراسلين، فما الذي منع أن يكون في مكان أكثر اتساعاً؟ والأهم من هذا كله فما هي أسباب هذه الزيارة، وما نشر عنها، أنها «لبحث القضايا ذات الاهتمام المشترك…»، إلى آخر هذا الأكلشيه، الذي يتردد في نشرات الأخبار، عند الحديث عن هذا النوع من الزيارات التي تبدو روتينة بلا معنى!
الموضوع وما فيه، أن السيسي مكلف رسمياً من أولياء الأمر في «أبو ظبي»، بأن يتقارب مع السودان، حتى لا يذهب الرئيس السوداني بعيداً، وهناك قلق اسرائيلي، وخليجي بالتبعية، بعد الاتفاق مع الجانب التركي، فتصرف السيسي في البداية على طريقة العسكريين، فأوكل إلى أذرعه الإعلامية مهمة الهجوم على السودان شعباً، وحكومة، وبذات نظرة التعالي التي تحكم البعض، وقد غزاها حكم العسكر في مصر على مدى ستين عاماً، وبعد الفشل في الابقاء على وحدة السودان، وهي ذات النظرة التي سيطرت على الراحل محمد حسنين هيكل، وإذ جعل من كتابه «خريف الغضب» أداة انتقام من السادات، فقال ضمن ما قال إنه كان معقد من لونه الأسود، لأن والدته سودانية، وقد غضب السودانيون، فكتب في تقديمه لكتاب «السودان وأهل السودان» لـ «يوسف الشريف»، مدعياً البلاهة وهو يقول إنه فشل في التعامل مع السودانيين، الذين يغضبون منه سريعاً، فكان كمن جاء يكحلها فأعماها!
الابتزاز من السودان إلى قطر
لقد انهال أحمد موسى وغيره بالهجوم على السودان و«البشير»، وفق قواعد الابتزاز، التي تنجح في المعارك التي هي «على الضيق»، لكنها فشلت إلى الآن في التعامل الدولي، وقد هاجم الإعلام السيساوي قطر وأميرها، ووصل الهجوم إلى العائلات، وهو مستوى لو هبط إليه القطريون ما بقي حجر على حجر، وهو الأداء الذي انتقل إلى إعلام دول الحصار، فمثل خروجاً على القيم العربية الأصيلة، التي كنا نعتقد أن هذه الدول لا تزال ملتزمة بها، لكن على ما يبدو أن العدوى انتقلت إليهم ممن ليسوا محكومين بهذه القيم، وقد اكتشفنا مؤخراً أن نسبهم ينتهي عند البطالمة، الذين نزحوا إلى مصر سنة 323، بعد وفاة الاسكندر الأكبر!
والكاشف عن هذا الانتماء «البطلمي» أن وزارة الأثار قامت بتسليم «التابوت» الذي عُثر عليه في الاسكندرية لأهل الحكم، وعلى غير العادة فيما يختص بالأثار، بما في ذلك الأثار الحديثة نوعاً ما، وكانت الذريعة أن «التابوت» يحتوي على جثامين ثلاثة من الجنود من البطالمة، والبطلمي مثله مثل جحا، وقديما ورد في الأثر: «جحا أولى بلحم ثوره»!
وبعد قيام الإعلام البطلمي بالهجوم على الأمير تميم ووالدته، التقي البطلمي عبد الفتاح السيسي به في الخارج، فاقترب منه معتذراً على تطاول إعلامه على «الست الوالدة»، وهو اعتذار كان يُنتظر به أن يعرب الأمير عن تذمره من هذه الإساءة والشكوى للسيسي، ليتقدم الحوار خطوة للأمام، للسؤال عن الرز، لكن الأمير تجاوز الأمر، فعادت «ريمة» لعادتها القديمة، وعاد «البطالمة» إلى ذات الأسلوب في «الردح وفرش الملاية»!
وإذ فشل أسلوب الاعلام البطلمي مع الرئيس البشير، فقد وسط السيسي رئيس الوزراء الأثيوبي السابق لاصلاح ذات البين، وجمعهم لقاء على مضض، ظننت وقته أن هدف السيسي منه هو «اللقطة»، وحتى يقول للمصريين أن السودان معه في حل مشكلة سد النهضة، لتمرير مخططه، ليصبح السد واقعاً، ويصبح من حق أثيوبيا أن تتحكم في مياه نهر النيل، استعداداً للخطوة التالية، وهي وساطة اسرائيلية بمقتضاها تفيض علينا أثيوبيا من الماء مقابل وصول نهر النيل إلىهم، تنفيذاً للوعود العرفية التي وعدهم بها السادات في أيام المفاوضات الخاصة باتفاقية السلام، ويقال إن السادات لم يكن جاداً في ذلك، لكنه كان فقط يدغدغ عواطف القوم، وقد رد عليه مناحم بيغين بأنهم لن يفرطوا في مبادئهم من أجل مياه العالم. وعلى ما أتذكر فإن مصدر هذه الراوية هو «أنيس منصور»!
حسن الجوار
عمر البشير، هون من أمر الحضور التركي للبحر الأحمر، وبدا منفتحاً على الجميع، وليس مستعداً أن تكون هناك علاقة على حساب علاقة أخرى، وتوقف هجوم إعلام البطالمة، وبدا السيسي حريصاً على استمرار علاقة «حسن الجوار» مع الفريق عمر البشير، وقد جامله بمنع «الصادق المهدي» من دخول مصر، «عربون محبة»، وهو إجراء لم يقدم عليه نظام مبارك بكل الغباء الذي عُرف عنه، رغم أن بينه وبين «المهدي» ود مفقود. ويتردد أن السودان سلم السيسي أحد الشبان المطلوبين، فهل يكون الثمن لهذا هو القطيعة مع «الصادق المهدي» رأسا؟!
السيسي مكلف بالملف السوداني، من ولي الأمر في أبو ظبي، والبشير يعطي بقدر، ولا يندفع إلى علاقة حميمية، في وقت جفاف العواطف، وموت «عواطف» نفسها!
وفي هذه الأجواء، كان القرار بأن يكون المؤتمر الصحافي بعد «المباحثات»، «على الضيق»، والاقتصار على الإعلام المحلي، وكأن الضيف المصري هو «والي الخرطوم» وقد جاء لافتتاح محل عصير قصب في أحد الضواحي، وعلى ذكر القصب وعصيره، فلا أدري سبباً لانشغال الناس بمنع زراعة الأرز في مصر، وعدم الانتباه إلى أن قرار المنع شمل القصب أيضاً، هل لأن الأرز هو طعام سكان الوجه البحري، في حين أن زراعة القصب شأن خاص بأهل الصعيد، الذين لا يقبلون كثيراً على أكل الأرز، كما «البحاروة»؟!
برأيي المتواضع أن القرار بأن يكون المؤتمر الصحافي «على الضيق» هو بهدف تجاوز الحرج من حضور «مايك» قناة الجزيرة، فكان القرار بعدم دعوة عموم الإعلام الدولي، ولا يدري «البشير» أنه بهذا حرم الإعلام «البطلمي» من اقامة الأفراح والليالي الملاح، بانتقال صفة أسد المايك من وزير الخارجية إلى عبد الفتاح السيسي نفسه، عندما يبعد «المايك»، وقد سهرنا ليالي طوالا على وقع أنغام العزف الجماعي ترحيبا بأسد المايك ووحش الشاشة سامح شكري، الذي أزاح «ميكروفون الجزيرة» بيده، فكانت «الليلة عيد»، وعلى نحو أنسانا أصل الموضوع وهو مباحثات «أسد الصحراء» مع الجانب الاثيوبي، في ما يختص بمباحثات سد النهضة، وقد ثبت أنها فاشلة، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!
لقد أراد البشير رفع الحرج عن البطلمي عبد الفتاح السيسي، ولا يدري أنه منع إقامة الأفراح والليالي الملاح في القاهرة ابتهاجاً بالانتصار على «ميكروفون الجزيرة» في موقعة «عين جالوت»!
محظوظ سامح فهمي فلا يزال حتى ساعته، وتاريخه، هو «أسد المايك»، بلا منازع!
القدس العربي