عيسى ابراهيم*
حافظ السودانيون في ثورتهم المشهودة – التي اذهلت مراقبيها ومتابعيها – على سلميتهم امام الالة العسكرية الانقاذية الاسلاموية غير المنضبطة، حتى وصلت الى مبتغاها النسبي في الحرية والسلام والعدالة بعد ان تم توقيع الاتفاق السياسي واعقبه التوافق على الاتفاق الدستوري..
ولاستمرار السلمية كمنهاج حيوي استراتيجي يصل ما تحقق بما هو مرجو، نتناول في ما يلي مقترحا لابعاد السلمية في مثلث له قاعدة ووسط وقمة راجين ان يتوافى اليه الثوار كترياق يصل ماضيهم العظيم بمستقبلهم المنظور تأمينا وتدعيما لسيرهم الحثيث نحو وطن معافى يعلم الاخرين كيفية السير القاصد نحو معايشة امنة مستقرة بناءة خاصة وان ما حولنا من تطاحنات وتعاركات وانقسامات أذاقت الشعوب من حولنا الويلات والنكبات وسفك الدماء الغاليات ومن عاش هرب الى الملاجئ الامنة نسبيا بحثا عن حياة تكتنفها الصعوبات وتحتوشها الماسي، ونعني في ذلك عالمنا الاوسط في صرة العالم في سوريا والعراق واليمن وليبيا وسط المحاور المتربصة بالبقية الباقية من الهدوء النسبي، ونعني محوري المهادنة (السعودية، الامارات، مصر، البحرين)، والمقاومة (قطر، ايران، سوريا، تركيا، الاتحاد السوفيتي)، وهي مواقع تعبث بها ايدي مخابرات أجنبية طامعة تسعى للسيطرة والتقسيم نحو تغييرات لا محدودة سكانا وجغرافية..
المثلث الذي نعنيه بحديثنا هذا له قاعدة في السلمية تعتمد على المحاسبة ورد المظالم وجلب الحقوق وفق القانون، وله مرتبة وسطى تستهدف العفو عند المقدرة ما أمكن ذلك، ويشابه ذلك ما حدث في العدالة الانتقالية التي طبقت في جنوب افريقيا بعد انتهاء حقبة الفصل العنصري وفي رواندا بعد حرب الابادة بين التوتسي والهوتو، أما قمة هرم مثلث السلمية فتتمثل (بعد اعلان العفو عن المسيئين عقب اعترافهم بخطئهم وتعويض وجبر ضرر المتضررين) في عمل الاصلاح، اصلاح المسيئين واعادة دمجهم في مجتمعاتهم باللطف والعطف والمحبة والمرحمة..
*ثالوث التوراة والانجيل والقران:*
جاءت اليهودية “الموسوية” في الطرف الغليظ من التشريع (الافراط في المادية)، حيث اقرت العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص، وجاءت المسيحية “العيسوية” في طرف التسامح (الافراط في الروحانية)، حيث قال السيد المسيح: “سمعتم أنه قيل عين بعين، اما انا فاقول لكم: لا تقاوموا الشر، من ضربك على خدك الايمن فأدر له الأيسر كذلك”، وقال ايضا: “أحبو أعداءكم، باركوا لاعنيكم، صلوا من أجل الذين يسيؤون اليكم ويطردونكم”، وجاء القران (الاسلام) وسطا بين اليهودية والمسيحية (بين التوراة والانجيل)، فقال: “وجزاء سيئة سيئة مثلها”، سماها سيئة ليرغب عن ايتائها، في مقابل قول التوراة “العين بالعين” ، ثم قال: “فمن عفا”، وهذا يقابل قول المسيح: “لا تقاوموا الشر، احبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم”، وجاء تفوق الاسلام في قوله: “وأصلح”، وهنا تظهر ميزة الاسلام (في اصوله لا في فروعه) التي لا تجارى، يقول الاستاذ محمود محمد طه في قوله تعالى “وأصلح”: ” ان تعامل المسيئ بالعطف واللطف والمحبة والمرحمة..
*قاعدة الثالوث:*
وهي الانتصاف من المخطئ باخذ الحق منه وفق القانون، ومن هنا ياتي دور رد المال العام والخاص المنهوب، وتقديم سافكي الدماء المحرمة الى العدالة ليأخذوا جزاءهم العادل المكافئ لجرمهم وفق القانون..
*وسط الثالوث:*
وهي مرحلة العفو عند المقدرة، بحيث يعترف المعتدي بجرمه، ويوضح مدى اعتدائه، ويعتذر مقلعا عنه، ويجبر كسر المتضرر، وهي ما تتم عادة في مرحلة العدالة الانتقالية، كما وضحناها سابقا..
*قمة الثالوث:*
هي العمل في اتجاه الاصلاح؛ اصلاح المسيئ، والعمل عل تغيير مفاهيم السوء لديه، والقيام بالجهد اللازم لادماجه مرة أخرى في مجتمعه ليكون عنصر ايجاب لا عنصر سلب،
*سقف السلمية:*
ذكر القران فئتين مع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فئة مثلها في التوراة، أوصافها: أشداء على الكفار (بالجهاد)، رحماء بينهم (في خصوصية محدودة)، تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا (يجودون العبادة)، سيماهم في وجوههم من اثر السجود (الثفنة – ذلك مثلهم في التوراة – الرسالة الاولى من الاسلام)، وفئة اخرى مثلها في الانجيل، أوصافها: كزرع أخرج شطأه (الشطء الفسيلة – انتج نتاجا)، فازره (نما وترعرع بجانب والده)، فاستغلظ (بلغ معه السعي)، فاستوى على سوقه (اشارة الى ترك التقليد والانتقال الى مرحلة الشرائع الفردية)، يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار (اشارة الى الارتفاع من جهاد الكفار بالسيف الى اقناع الكافرين بالنموذج الجاذب بلسان حاله قبل لسان مقاله)، وهذا هو مثلهم في الانجيل (الاسماح – السنة – عمل النبي في خاصة نفسه – الرسالة الثانية من الاسلام)، فسقف السلمية اذن في الرسالة الثانية من الاسلام..
*الاسلام بين رسالتين:*
نزل القران خلال ثلاثة عشر عاما في مكة بالاسماح ورفض العنف، “ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة. وجادلهم بالتي هي احسن ان ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين”، “لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي”، “وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر”، (معالم الرسالة الثانية من الاسلام)، ولما لم يستجب اهل مكة للاسماح والحرية واتجهوا ليتامروا على حياة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وامر بالهجرة الى المدينة نزل القران ليقرر “أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير”، حتى نزلت اية السيف “فاذا انسلخت الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم”، فنسخت اية السيف ايات الاسماح، وجاء تبعا لذلك حديث “امرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ألا اله الا الله ويقيموا الصلاة ويوتوا الزكاة ويصوموا الشهر ويحجوا البيت اذا استطاعوا اليه سبيلا فاذا فعلوا عصموا مني أموالهم ودماءهم الا بحقها وأمرهم الى الله”، (معالم الرسالة الاولى من الاسلام)، فنسخت بذلك الحرية في حقهم وجعل النبي (عليه أفضل الصلاة وأتم التسىليم) وصيا عليهم يدرجهم ويشاورهم في الامر حتى يتأهلوا للحرية التي فقدوها بتامرهم على حياة نبيهم..
*اصحاح وادماج:*
ورد في مهام وترتيبات الفترة الانتقالية:
الفقرة ٧ – (ج) حل وتسريح الدفاع الشعبي ومليشيات الدعم السريع وجميع المليشيات التي أنشأها النظام ونزع أسلحتها وإعادة دمجها مجتمعياً. ولا اخفي اعحابي بهذه الفقرة الانسانية حيث ورد فيها رد كرامة الظالمين والعمل على اعادة تأهيلهم ودمجهم مرة اخرى في مجتمعاتهم التي خرجوا عليها بافكار متطرفة منحرفة عن الجادة، وفيما يلي محاولة لاعادة تأهيل بعض الشعارات وتجريدها من العنف البادي في ظاهرها:
*”أي كوز ندوسو دوس”:*
لا تعني “الدوس” المادي بقدر ما تعني دوس افكاره المتطرفة وعداء الاخر بحواره عن طريق المكافئ الفكري الموضوعي عن طريق الاقناع والاقتناع، فكل فكرة سالبة تقابلها فكرة ايجابية تهذبها وتقومها وتضعها في خط الاستقامة..
*اقتلاعهم من جذورهم من ارض السودان:*
لا تعني قط القضاء عليهم اجسادا بقدر ما تعني فيما تعني اقتلاع أفكارهم المتطرفة المنحرفة عن جادة الفهم الموضوعي السلمي من عقولهم اقناعا واقتناعا..
*”سلميتنا” اصلها ثابت وفرعها في السماء:*
لعل اعظم تحد يواجهنا كثوار لفتوا انظار العالم خلال حراكهم النابه، والتي وصفها البعض بانها ثورة وعي، هو تصرفنا حيال الاخر المعتدي، من منسوبي النظام البائد من الاسلامويين، والمتعاونين معهم خلال الثلاثين عاما السوداء في تاريخنا السياسي، فاذا حملنا بين جوانحنا روح انتقام من المعتدي الاثيم نكون “كاننا يا بدر لا رحنا ولا جينا”، وقد اعلن ممثلونا في قوى الحرية والتغيير ان دولتنا المدنية المرتقبة هي دولة قانون وعدالة، وعلينا ان نتصالح مع سلميتنا التي ثبتت جدواها وظهرت ثمارها اليانعة، وعلينا اذن ان ننقد بموضوعية فكرة الابعاد الثلاثية لسلميتنا حذفا واضافة اثراء لها والتزاما بها لنكون كما وصفنا اضافة طيبة للانسانية لا خصما عليها، فالسلام (والله هو السلام)، هو غايتنا معيشة وسلوكا وحياة.