لأن تسّلم زمام مؤسسة اعلامية لأناس غير مختصين، كأن تعهد بالشفرة النووية لقائد متهور، وعلى جميع من يقع تحت مرمى رسالتها الاعلامية أن يضع الايدي على القلوب تحسبا لحدوث خطأ غير مقصود في اية لحظة قد يكون مدمرا، في الوقت الراهن ليس عسيرا ملاحظة أن الفوضى هي عنوان الحالة الاعلامية، ومعظم العاملين في القنوات والمؤسسات الاعلامية في الساحة الان من المبتدئين الذين يفتقدون المهنية والكفاءة
قبل أيام نشر راديو دبنقا على حسابه بالفيس بوك، صورة لرجل في اسمال متسخة مستلقي على ظهره واضعا رجل على رجل، وبجانبه إناء ممتلئ بمشروب اغبش، على الأرجح انه خمرة بلدية “مريسة” يطفو فوقها كاس من القرع، الصورة تظهر الرجل حاسراً جلبابه إلى صدره، ويبدو في حالة استرخاء تام واستكانة للآخر. معطيات الصورة تحدد هوية الرجل بوضوح انه من الهامش
ما يمكن قراءته من الصورة المعنية، وبما ان وسيلة
اعلامية واعدة كراديو دبنقا، تنشر صورة بتلك الكيفية، دون تعلق منه، قد يفهم منه ان المريسة لا باس بها، وهي ترويج في اصرخ تجلياته للخمرة، وتوحي أن المريسة هو المشروب الامثل لمن يبحثون عن الاسترخاء والاستكانة، ثم ان صورة الرجل في اسمال متسخة وحوله جردل ممتلئ بالمريسة فيها تشهير بمجتمع الهامش إذا انها تعكس الجانب السالب منه، في حين ان المرتجى من راديو دبنقا اسمى واجل من ذلك.
من منطلق المسئولية الأخلاقية، على وسائل الاعلام الجادة والمسئولة أن تتجنب نشر كافة ما تندرج تحت قائمة الرذيلة حسب المعايير المجتمعية الخاصة، ذلك أن هذا المسلك يعبر عن مشكلة أخلاقية بالدرجة الاولي، وليس هنالك ثمة جدال في حُرمة الخمر مطلقا، ما عدا للمضطر المستثنى من كافة الشرائع. وان نشر مثل هذه المواد سيهدم المجتمع ويفسد الأخلاق ويشجع على الانحطاط الخلقي، وتفشي سلوكيات ضارة بين الناس. والاخطر من ذلك، ان تسليط الضوء الإعلامي على السلوكيات والأخلاق السيئة والنماذج الفاشلة سوف يجعل الناس ميالون الى تقليد ذلك مما ينشر الفساد والانحلال.
مخطئ من يظن ان ممارسات عصابة الانقاذ الاجرامية باسم الدين، يعتبر مصوغ لخلط معايير الفضيلة لدى المجتمع السوداني المسلم والمتدين بالفطرة، ومبرر للاتفاف حول القيم الاسلامية الحنيفة، وإن ظن البعض دعاة السوادان الجديد، ان البديل الامثل للأصولية الاخوانية، هي اللبرالية الصارخة، فهم بلا شك مخطئون، وليعلم الجميع أن غالبية اهل السودان لا هذا ولا ذلك، هم وسطيون، لا يحرمون المباح، ولا يبيحون المحرم.
وصلت الدراسات المجتمعية، الى ان الأجهزة الإعلامية يجب ان تلتزم بالأسس الذاتية للرقابة، وان تعتمد على المنطلقات الأخلاقية، ولا يمكن أن يتم ذلك دون رسم الخطوط الحمراء والواضحة لقيم ومُثل المجتمعات المستهدفة برسالتها الإعلامية، ومن الخطورة بمكان على أية وسيلة اعلامية جادة، مجاراة وسائل التواصل الاجتماعي لإرضاء جمهورها، ومن المخيب للآمال، أن يعتبر راديو دبنقا أن كثافة التفاعل مع الصورة المعنية والتي تم تداولها مراراً عبر حسابات الافراد “والقروبات”، ان يعتبر ذلك معيار لصلاحيتها للنشر عبر حسابه، ذلك ان المؤسسات الإعلامية الجادة كجهات اعتبارية، تحكمها ضوابط مهنية واخلاقية، خلافاً للأفراد والمجموعات الذين ينقادون للمزاج والميول الشخصية، وأن القاعدة الذهبية في هذا الشأن هو ان المهنية والاخلاق، قبل المقبولية وقبل كل شيء، وعلى مستوى القائم بالاتصال، فمن كان ابنا شرعيا لمدرسة اعلامية مرموقة، لا يقبل وسائل التواصل الاجتماعي ملهماً لمادته الاعلامية.
أن الاعلامي غير الملتزم بأخلاقيات وقيم الضمير المهني والإنساني يتم استخدامه لتدمير المجتمعات بعلمه أو بدونه، حيث أن خطورة وسائل الإعلام تكمن في تشكيل الوعي المجتمعي، ونشر نمط سلوكي وثقافي واجتماعي ينتهجه الفرد أو المجتمع، لذلك تعتبر التزام القائم بالاتصال بالمعايير المهنية والاخلاقية بعيداً عن الأهواء الشخصية امر غاية في الأهمية.
نظرياَ، فكرة أن وسائل الاعلام دائما ما تكون ايجابية فيما تقدمها من مواد ليست صحيحة في المطلق، فقد أكد علماء الاعلام والاتصال، أن عدد كبير من الجهات والمنظمات الايدلوجية تسعى للهيمنة على وسائل الاعلام ليبث من خلالها أفكار واتجاهات بغرض التأثير على الجمهور لصالح ما تؤمن بها ، وقود تكون هذه الأفكار مشوهة بغرض ايجاد حالة من الانقسام بين المواطنين تجاه قضايا معينة. مثل هذا المسلك يجعلنا نرتاب من نوايا رسالة رادو دبنقا، إذ أن هذه الصورة تشئ بمقبولية تناول المريسة كخمرة بلدية، وحتى لو افترضنا أن الشخص المعني، ليس مسلماً، ففي الصورة افساد للذوق العام للغالبية من المجتمع السوداني الفاضل، ويستوجب حذفه والاعتذار عنه. سيما وان هذه المرة الثانية التي تنشر فيها راديو دبنقا خلال العامين الماضيين صورة تحتوى تناول شرب المريسة.
وجهة نظرنا المستقبلية، فيما تخص الضوابط التشريعية للمؤسسات الصحفية والاعلامية، نعتقد أن الرهان على الرقابة الذاتية لهذه الجهات هي الأجدى، بحيث تركز الجهات المختصة على كفاءة رؤساء التحرير ومديري المراكز والمؤسسات الإعلامية، وان تسمح فقط للمهنين الملمين بأخلاقيات الرسالة الإعلامية، والذين يتمتعون بصفات رجالات الدولة بتولي زمام الأجهزة الإعلامية والمؤسسات الصحفية، هؤلاء فقط يمكن ائتمانهم على الامن القومي للأمة، والاطمئنان على المجتمعات من خطر اسلحتهم الفتاكة، وبإمكان هؤلاء أن يغنوا الأجهزة العدلية والأمنية من رهق الملاحقات و”الجرجرة” العدلية، وما يراها هؤلاء المهنيون الراشدون صالحة للنشر او البث، لا ينبغي ان يكون محل مزايدة من احد. هكذا تفعل الامم المتحضرة.
[email protected]
للإطلاع على المقالات السابقة:
http://suitminelhamish.blogspot.co.uk