بسم الله الرحمن الرحيم
دارفور من مشاكل جهوية موروثة إلى محنة التمزق فالتدويل
والآن إلى حالة التفلت المستعصي على السيطرة
فما العمل؟
كلمة الإمام الصادق المهدي
23 أكتوبر 2013م
مقدمة:
منذ استقلاله يعاني السودان من مشاكل متعلقة ببناء الانتماء القومي، وبناء الدولة الحديثة، والتنمية، والتأرجح بين ديمقراطية دون توافر شروطها بالقدر الكافي، ودكتاتورية تحاول القفز على المراحل فتفشل.
انقلاب يونيو 1989م أحدث تطويراً نوعياً في مشاكل البلاد لأنه تبنى أيديولوجية إسلاموية عروبية بلورها في المؤتمر الشعبي العربي والإسلامي وحاول فرضها على مجتمع متنوع دينياً وإثنياً فأحدث ردود فعل مضادة عززتها عوامل أخرى اقتصادية وخدمية لتعطي أطروحات د. جون قرنق الوافدة من شرق أفريقيا صدقية قوية.
الحرب الأهلية بقيادة الحركة الشعبية انطلقت في مايو عام 1983م ولكنها قبل انقلاب 1989م كانت محدودة السند داخلياً وخارجياً. ولكن نظام 1989م بأطروحاته الإقصائية للآخر الديني والثقافي وفر للحركة الشعبية دعماً داخلياً وخارجياً كبيراً ما أدى لمزحة قرنق الساخرة أن عليه أن يقيم لقادة نظام الإنقاذ تماثيل في جوبا.
لم تجمع كافة الأحزاب الجنوبية قبل عام 1989م على مطلب تقرير المصير ولكنها في عام 1993م أجمعت على ذلك المطلب، والصلة بين سياسات نظام الإنقاذ وانفصال الجنوب في عام 2011م صلة وثيقة.
كذلك سوف أبين هنا الصلة المباشرة بين سياسات انقلاب 1989م وحريق دارفور:
1. إن لدارفور خصوصية ضمن الكيان الوطني السوداني مقوماتها هي أنه:
• الإقليم الوحيد الذي حافظ على تراث سلطاني من الداجو للتنجر للفور.
• الإقليم الوحيد المسمى باسم إثنية معينة: الفور.
• الإقليم الذي حافظ على كيان سلطاني مستقل لمدة عقدين من الزمان بعد أن أخضع السودان للحكم الثنائي.
• الإقليم الذي كان إدماجه في بوتقة سياسة قومية عبر الدعوة المهدية وما تلاها من ذرية سياسية.
• ومع أن النظام الذي أقامه انقلاب 1989م مارس التمكين لنفسه في كل السودان فإن سياسات استمالة دارفور للولاء له كانت أكثر تركيزاً لإعدام نسيجه الاجتماعي والسياسي الموروث واستمالته للنظام الجديد.
2. أهم الوسائل التي استخدمها النظام الجديد للتمكين لنفسه في دارفور ولخرق النسيج الاجتماعي والسياسي في دارفور هي:
• تكثيف الوحدات الإدارية المدنية بتقسيم الإقليم إلى ثلاث ولايات وزيادة كبيرة في المعتمديات والمحليات وتعيين كوادرهم الحزبية في تلك الوظائف، وتجنيد أبناء القبائل المعنية فيها.
• القضاء على أوتونومية (autonomy) الإدارة الأهلية وجعلها ذراعاً للحزب الحاكم، فأودى بمكانتها التقليدية وجعلها في الغالب بوقاً له.
• تنشيط قانون تبعية الأراضي غير المسجلة للدولة ما مكنهم من التدخل في إدارة الحواكير وإعطاء حقوق بداخلها لقبائل أخرى على حساب صلاحيات القبيلة صاحبة الحاكورة تقليدياً.
هذه السياسات في غرب ووسط دارفور مكنت النظام من إعطاء امتيازات لقبائل عربية رعوية على حساب أصحاب الحواكير العاملين بالفلاحة. هذا عامل من عوامل إحساس أصحاب الحواكير من فور ومساليت أن السلطة المركزية منحازة للقبائل العربية المعنية.
• كوادر الحزب الحاكم أفلحت في إضعاف الولاءات السياسية والاجتماعية الموروثة ولكن لم تفلح في جذب الولاءات لحزبها إلا اسمياً.
الولاءات التي تمددت في الفراغ هي ولاءات إثنية ما عمق تصنيف زرقة وعرب، والولاءات للقبائل المختلفة أي أن النتيجة لتلك السياسات هي تعميق الإثنية والقبلية.
هذا المناخ كان ملائماً لاستقبال أطروحات الحركة الشعبية لتحرير السودان لأنها قالت إن التناقض في السودان ليس بين شمال وجنوب ولكن بين عروبة وزنوجة.
هذا هو الرحم الذي ولدت فيها حركة تحرير السودان في عام 2002م. وأدى انقسام المؤتمر الوطني لمؤتمرين، وتبني كوادر من المؤتمر الشعبي لرؤية الكتاب الأسود. وكان هذا هو الرحم الذي ولدت فيه حركة العدل والمساواة بعد ذلك بقليل.
3. الحكومة المركزية بقيادة المؤتمر الوطني واجهت حركة المقاومة الدارفورية بدرجة عالية من الصلف، وتصورت أن هيبة النظام المتأثرة سلباً بالتنازلات في إطار اتفاقية سلام نيفاشا المزمعة توجب أكبر درجة من التشدد في مواجهة العمل المسلح المضاد في دارفور، وتصوروا أن مسلكهم في مفاوضات سلام نيفاشا سوف يجعل الأسرة الدولية راضية عنهم بل ومستعدة لقبول تشددهم في دارفور. هذا الانطباع صحيح لبعض الوقت ولكن عوامل كثيرة غيرت موقف الأسرة الدولية، وتجاوزات حقوق الإنسان وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية في دارفور في مرحلة ما ركزت الاهتمام الدولي بقضية دارفور لدرجة فاقت الاهتمام بقضية الجنوب لسببين:
الأول: أن قضية الجنوب صنعت لوبيات كثيرة مضادة للنظام السوداني. لوبيات نقلت اهتمامها إلى قضية دارفور.
والثاني: هو أن ثورة الاتصالات والمعلومات والفضائيات ووجود لاجئين سودانيين في كل أنحاء العالم أعطت مسألة دارفور بروزاً لم تحظ به قضية الجنوب في الماضي.
4. ارتكب النظام في مواجهة العمل المسلح المضاد في دارفور أخطاء فادحة. أهم تلك الأخطاء: تسليح قبائل الانتماء الإثني المخالف لانتماء غالبية المنخرطين في المقاومة المسلحة واتخذ من هذه القوى القبلية أداة للتصدي القتالي لقوى المقاومة المسلحة. هذه السياسة كانت لها نتيجتان مهمتان:
الأولى: القوى غير النظامية بالتحالف مع القوى النظامية ارتكبوا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية على نطاق واسع ما أدى لنزوح داخلي ولجوء خارجي كبير من قرى القبائل المستهدفة.
والثانية: انتشار السلاح بصورة لا تخضع لضوابط تنظيمية على نطاق واسع ما جعل أصحابه يستخدمونه في نزاعاتهم القبلية والأفراد يستخدمونه لأغراضهم الخاصة.
فوضى السلاح في دارفور زاد منها أن للإقليم حدوداً طويلة تبلغ 1300 كليو متراً، وكان للقيادة الليبية قبل الثورة دور في تسليح واستغلال عدد من الفصائل في دارفور، أما بعد الثورة في ليبيا فإن تسيب السلاح كان كبيراً فانتشر في كل المناطق المجاورة.
5. مشروعات التنمية القائمة في دارفور تعطلت، والصرف التنموي على ولايات دارفور بنسبة السكان ضعيف، والنتيجة ضعف الخدمات الصحية والتعليمية، وحجم الفاقد التربوي الكبير وسط الشباب، وحجم عطالة الشباب، وتأثر هؤلاء بالنزوح الداخلي واللجوء الخارجي، ما دفع أعداداً كبيرة من الشباب نحو المقاومة المسلحة أو التكسب بالسلاح.
انتشرت ثقافة العنف بصورة وبائية وانتشر الاقتتال بمحتوى سياسي، أو قبلي، أو فردي وانتشر الاختطاف مقابل فدية والنهب حتى داخل المدن والاغتيالات الفردية. وانتشر انطباع في كثير من مناطق دارفور الكبرى أن الدولة غائبة و أن التفلت الموجود فوق طاقة قدراتها الإدارية والأمنية، وقد زاد هذا التفلت حدة أن كثيراً من العناصر التي كانت توفر سنداً مسلحاً غير نظامي للحكومة لم تعد تأتمر بأمرها، وعلى حد تعبير أحد كبار دارفور: “الدواس خرب كل شيء!!” يعترف حتى إعلام مؤيدي النظام أن النسيج الاجتماعي في دارفور كان متماسكاً ونموذجياً فتمزق على حد تعبير أحدهم، صلاح على الغالي.
6. في مارس من عام 2006م زارني كبير مفاوضي الحكومة المرحوم مجذوب الخليفة، وقال إنه بصدد السفر لأبوجا للتفاوض مع حركة تحرير السودان وحركة العدل والمساواة بشأن السلام. قلت له: لو أنني أتعامل مع الموضوع كسياسي فإنني أتمنى أن يفشل في مهمته، ولكنني أتعامل مع الموضوع كوطني وكمشفق على مواطن دارفور، ولذلك سأقدم لك نصيحة مخلصة إذا اتبعتها فسوف يحصل على اتفاقية سلام بلا شك. قال: هات! قلت:
• فيما يتعلق بالمشاركة في رئاسة الدولة، وبالإقليم واحد أم ثلاثة، وبإدارة الحواكير، وبحدود دارفور مع بقية أقاليم السودان عودوا لما كان عليه الحال قبل حركتكم أي قبل يونيو 1989م.
• وفيما يتعلق بالنازحين واللاجئين يعوضوا فردياً وجماعياً ويرحلوا طوعياً لقراهم التي نزحوا منها آمنين.
• ويكون نصيب دارفور في السلطة والثروة بحجم سكان دارفور.
• وهذه الحقوق تضمن في الدستور.
رد قائلاً: لا نستطيع قبول هذا الرأي لأنه يتناقض مع ثوابت “الإنقاذ” ولأنه يتعارض مع سقوف اتفاقية سلام نيفاشا! قلت له: إذن لن تحققوا سلاماً في دارفور. وقد كان.
7. في مايو 2006م أبرمت مع فصيل واحد اتفاقية أبوجا بحضور وتطبيل دولي كبير. وفي 18 مارس 2010م في الدوحة أبرمت اتفاقية الدوحة. عيوب هذه الاتفاقيات أنها:
• فوقية بين الحكومة وقيادات كانت تحمل السلاح دون مشاركة القوى السياسية ولا حتى مشاورة الحكومة لقواعدها.
• بعد كل اتفاقية تكوّن الفصائل غير المشتركة عملاً مضاداً، أوسع فبعد أبوجا تكونت جبهة مقاومة دارفورية مشتركة، وبعد الدوحة تكونت الجبهة الثورية جامعة لكل الفصائل المسلحة.
• الاتفاقيات تخصص حقوقاً لأصحابها تحت سقف سياسات النظام ودستوره وقوانينه ما يجعل تلك الحقوق خالية من المحتوى القانوني والدستوري، وبالتالي جوفاء بحجم صلاحيات أقل من مساعد حلة على حد تعبير كبير المساعدين.
• حظيت الاتفاقيات بمباركة إقليمية ودولية وبتخصيص أموال تنموية، ولكن التنمية مع عدم توافر الأمن تتعثر، والاختلاف حول الصلاحيات بين أصحاب المناصب الدستورية وأصحاب مناصب الاتفاقيات تعرقل العمل.
• الاتفاقيات خالية من أية مساءلة عن جرائم ارتكبت مع أن هذه مضمنة في قرارات دولية ملزمة.
8. ودون أن يحسم الاقتتال بين المركز والفصائل المسلحة فقد تعددت جبهات الاحتراب القبلي بصورة غير مسبوقة وبسبب انتشار السلاح الحديث صارت أكثر دموية، احتراب قبلي لم يعد محلياً بل هنالك دلائل على أن مسؤولين ولائيين ومركزيين يدعمون مواقف قبائلهم في هذه المواجهات. كما أن الصراع على الموارد المعهود حول المزارع والمشاريع والمراعي قد دخل فيه عامل نزاع على موارد أخرى كالذهب والبترول وسيقت اتهامات للحكومة المركزية أنها تريد إخلاء مواقع هذه الموارد!
هذه المآخذ مرتبطة كذلك بممارسات النظام في دارفور.
النتيجة المهمة هي: سياسيات النظام هي التي صنعت أزمة دارفور في شكلها الحالي، وهي التي نقلت مشكلة دارفور من مشكلة جهوية عادية إلى أزمة قومية ودولية، ثم إلى حالة الاضطراب الراهنة التي استعصت على الحكومة بأجهزتها الولائية والمركزية وعلى يوناميد القوات الدولية.
وسياسات النظام هي التي تحول دون أي إجراء لإبرام سلام حقيقي وعام في دارفور لأنها أوجبت أن يكون أي اتفاق تحت سقف اتفاقية نيفاشا وتحت هيمنة قوانينها ودستورها.
التخلي عن سياسات النظام التي فرخت مشكلة دارفور بصورتها الحالية وهياكل النظام التي تقف عقبة في سبيل الحل، أي التخلي عن السياسات المذكورة، والهياكل، هما مفتاح السلام العادل الشامل في دارفور.
9. نكبة السودان في كافة الملفات: في مجال الفكر، والحكم، والاقتصاد، والأمن لا سيما جبهات الاحتراب، والعلاقات الدولية مرتبطة ارتباطاً عضوياً بسياسات النظام، ولا سبيل لحلها بالقطاعي، بل حلها ممكن في نطاق نظام جديد، يستحسن أن يكون بناؤه بموجب خريطة طريق قومية على نحو ما كان في جنوب أفريقيا في عام 1992م وهذا ممكن لا سيما والحزب الحاكم نفسه يتعرض لأصوات إصلاحية كما أن إخفاق سياساته لم يعد خفياً على أحد، ولكن إذا اخذت النظام العزة بالإثم وواصل العناد والانفراد فلا مفر من انتفاضة سلمية تحقق مطالب الشعب المشروعة.
إن الحديث عن أن نكبة دارفور مفتعلة أو أنها نتيجة تآمر خارجي حديث خرافة، فالأمر مرتبط كما أوضحنا بسياسات محددة هي صانعة الأزمة وهي مانعة الحل. وإذا استغلت جهات هذه الأزمة لتصفية حسابات مع نظام الحكم السوداني فهذا من طبيعة الأشياء.
مشكلة دارفور تدهورت من صورتها الموروثة قبل عام 1989م إلى صورة تمزق النسيج السياسي والاجتماعي التي صنعتها سياسة التمكين، إلى صورة المواجهة التي أعقبت عام 2002م وما نتج عنها من مآسٍ، إلى مرحلة فيها اتفاقيات سلام معلقة في الهواء موقعوها يشكون منها بينما انتشر التفلت في إقليم دارفور الكبرى، ورفعت فصائل دارفور المسلحة سقف أهدافها للإطاحة بالنظام في الخرطوم. هذا التدهور مقياس لفشل سياسات النظام ودافع قوي لإجراء استباقي لنظام جديد يحقق مطالب أهل السودان عامة وأهل دارفور خاصة المشروعة.
ما حدث في دارفور برهان إخفاق نظام “الإنقاذ”، واستحقاقات السلام العادل الشامل في دارفور مرافعة قوية لصالح النظام الجديد المنشود.
هذه هي الرؤية التي يتجه نحوها الاجماع الوطني وتتجه نحوها رؤى العناصر الدولية ذات المتابعة للشأن السوداني. العاقل من اتعظ بغيره. (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ)*.
—————————————————-
* سورة الأنعام الآية (36)