محجوب حسين
March 9, 2014
من خلال تفاعلات الوضع السياسي السوداني اليومي ومنذ توقيع البشير/ المهدي صفقة ‘نداء الوطن’ في جيبوتي، قبل عقد ونيف، وقتها تساءلنا في مقال مطول نشرناه عن ماهية هذا النداء والجهة الموجهة إليها وحدود النداء ضمن خارطة الوطن وأطراف الصراع فيه أو حوله، وما هو المحتوى المسكوت عنه في النداء والإشكاليات البنيوية للوطن في مخيلة الزعيمين، وهل هو نداء لتحقيق الإجماع الوطني، أم صفقة ثنائية طويلة الأمد باسم مشروعية الوطن؟ الواضح ومنذ تلك الفترة وإلى يومنا هذا أن الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي هو أكثر الشخصيات السودانية، بثقله السياسي أو الديني/الطائفي أو الاجتماعي أو الفكري، مبادرة واجتهادا، أو حتى ‘مؤامرة’ في عيون ثانية ضمن سوق المبادرات السياسية للخروج من الأزمة الوطنية السودانية، باعتباره أحد أعمدة هذا المشهد، وأحد أركان أزمته وفق تقدير آخرين، إلا أنه وبالمقابل نرى أن جل مبادراته لم تلق التجاوب والتفاعل في عمومية المشهد بالقدر المطلوب، وقد يبرر سياسيا جراء تعنت نظام الحكم، إلا أن الرأي الغالب يحيل إلى فقد المهدي أركان المصداقية والثقة والشفافية، خصوصا بعدما عيّن احد ولديه في المؤسسة الأمنية بحجة حراسته الشخصية، والثاني في المؤسسة السياسية.
في سياق هذه المبادرات المهدوية وجه السيد الصادق في الخامس والعشرين من فبراير/شباط الماضي خطابا يعتبر مبادرة أو تقديرا لموقف معنون إلى الآلية التنفيذية العليا للاتحاد الأفريقي الخاصة بالسودان وجنوب السودان، إلى الرئيس السابق لجنوب أفريقيا ثابومبيكي، الذي جاء ردا على مسودة الاتفاق الإطاري، مكتوب المهدي في كليته يحاول وبحصافة وحذر شديدين تناول أنماط الأزمة السودانية شكليا، ما جعله يلتف حول القضايا الجوهرية المتعلقة بالتغيير الحقيقي، مع تعميم واضح للنماذج المختارة وبحرفية عالية تعزز فرضية الخطاب بدون الاقتراب من الإشكال البنيوي للأزمة السودانية.. هنا يمكن تلخيص المكتوب في ثلاثة عناوين كبيرة وواسعة، وتعرف مسبقا جدليات وصعوبات مفاهيمية/إصطلاحية هي أصلا محل اختلاف بين فرقاء الحقل السياسي السوداني، وبتحديد أكثر دقة بين مجموع التمركز في أثوابه المختلفة ومجموع المحيط في مكوناته، ففي العنوان الأول الذي يحمل صيغة الحل الشامل كمنهج كلي يتسم بالشمول لحل الأزمة السودانية، عوض منهج الجزيئيات الذي ما انفكت الحكومة السودانية تشتغل عليه مع القوى المعارضة منذ استيلائها على الحكم بعدما تبين لها بأنه منهج ناجح من جهة استمراريتها وإضفاء شرعية مجددة على وجودها، رغم كونها من أهم أسباب تضاعف الأزمة السودانية التي وصلت حدها.
يذكر أن الصادق المهدي قد يكون من العشرة الأوائل مرتبة في منهج الثنائيات مع الحكم، إبان توقيعه مع البشير ‘نداء الوطن’ لتخل بالتجمع الوطني الديمقراطي، أول هيئة سياسية عسكرية معارضة لنظام حكم البشير بزعامة صاحب شعار ‘سلم /تسلم’، ليستسلم استسلاما نهائيا، كما شمل المنهج الحركة الشعبية إلى أن وصلنا إلى بعض القوى الحركية، مثل تحرير السودان. أما منهج الحل الشامل، غير حزب الأمة، فهو منهج أصيل لعدد كبير من القوى السياسية السودانية المدنية والعسكرية على وجه الخصوص، لأن الأخيرة وفق تجاربها السياسية وكم الاتفاقات الجزيئية التي عقدتها مع منظومة الحكم أثبتت لها بما لا يدع مجالا للشك، أن خيار الحل الشامل للقضية هو المدخل السياسي والرئيس لأي بحث مرتقب للأزمة، لذا وفي زمن مبكر جدا التفتت الجبهة الثورية السودانية في مكوناتها لهذا التوجه، وطرحت هذه المنهجية ضمن برامجها، وفي إطار تفسيرها للأزمة قصد الخروج منها بشكل نهائي، بدون إعادة إنتاجها مجددا في لولبية معروفة خلال نصف القرن الماضي، وفي هذا نشير إلى أن حركة العدل والمساواة كانت سباقة وطرحتها رسميا إبان مفاوضات أبوجا مع الحكومة السودانية عام 2004، وقالت إن حل القضية السودانية يتم في إطار الحل الشامل، أما المفارقة في تبني آلية الحل الشامل، اختلاف التفسير والتعليل والغرض لكل كتلة، فكما ترى الجبهة الثورية أن الحل الشامل ليس لأجل المشاركة أو الوصول إلى سلطة البشير، وإنما عبر مخاطبة الإشكالية البنيوية للأزمة السودانية ليس في حاضرها فحسب، بل في ماضيها لأن راهن اليوم ما هو إلا امتداد لانحراف الماضي، وأهم قضاياها، بنية السلطة في السودان، وانعكاساتها التي تأكدت سلبيتها على جميع الصعد، فضلا عن أن صيغة الحل الشامل، ليس للحصول على ما سماه المهدي باتفاق يحظى بالملكية القومية أو الضمانة القومية، لا لاعتبار مفهوم ‘القومية’ السودانية غير ذي أثر ومعنى، تكفي علله وخلله وإنما لغرض تفكيك أو حل نظام الحكم سلميا، والتأسيس لمرحلة انتقالية تؤسس لمرحلة الدولة السودانية الجديدة، القائمة على معايير الحداثة السياسية، وليس لفائدة اتفاق سياسي جديد، حتى لو كان بين كتلتين سياسيتين تشكل فيها القوى السياسية المدنية مع القوى الحاكمة ما أطلق عليه ‘المجلس القومي للسلام’، لمقابلة الجبهة الثورية، وأمام هذه الحالة ما الذي يمنع قوى المحيط السوداني الكبير من أن تشكل مجلسها وتطلق عليه ‘مجلس المحيط التاريخي السوداني’ لمقابلة المجلس القومي للسلام، علما أن صيغة الحل الشامل التي تطرحها الجبهة الثورية بهذه الطريقة ترفضها الحكومة رفضا قاطعا، وترى فيه انقلابا كامل الأركان، لنصل إلى إنسداد عمودي وأفقي، وحتى لا تكون صيغة الحل الشامل محلا لالتفاف سياسي قصد إفراغ مضمونه وغاياته وتعويمه بالضرورة ضبطه، لأن هناك من يسعى عبر هذه الصيغة إلى ترميم وإصلاح الشكل القبيح للتمركز عبر فن الاستيعاب، بدون الاستجابة لشروط الحراك التاريخي في المحيط السوداني.
وبالعودة إلى المكتوب وفي العنوانين الأخيرين، وهما عنوانا الاعتراف والشرعية وشروطهما، فضلا عما أطلق عليه ‘الجماعات الدارفورية’ وكلاهما موجه إلى الجبهة الثورية ومكوناتها، نجد العنوانين مرتبطين، بالنظر إلى عقلية التمركز المهيمنة في السودان تاريخيا، وفي نظرتها للآخر ومنتجاته السياسية الخارجة، جغرافيا وفكريا، عن دائرة سلطة وصايا التمركز في ثوبيه الديني الطائفي والإسلاموي وحلفائهما، وبعيدا عن الجدل المفاهيمي حول الشرعيات ومصادرها كانت شرعية تقليدية أو قانونية/تعاقدية أو انتخابية أو شخصية/ كاريزيمية أو دينية أو ثورية فيها السيد الإمام الصادق المهدي يتحدث عن شرعية ممنوحة باشتراطاتها، يمكن أن تمنح للجبهة الثورية من تابو التمركز، هذا المنح التمركزي يدخل في السياق النمطي لقاموس التمركز الثقافي/ السياسي عند تعاطيه مع الآخر في الداخل السوداني، ليس بموجب الحق والقانون والمؤسسات والمواطنة وشرعية الفعل والوجود المرتبط بمرجعيات مختلفة خارج نسق المهيمن التاريخي، بل النظر إليه كتمرد على بيداغوجية المدرسة السياسية المنتجة والقائمة على المنح والإغداق والعطايا والكرامات.
المؤكد في هذا الجانب ان شرعية الآخر السوداني ليست بحاجة إلى منح أو اعتراف، لأنها شرعية مكتسبة من حاضنة اجتماعية واسعة تم تأطيرها بفعل ثوري ليعبرعن الماهية الجماعية الرامية إلى إلغاء استمرارية السستيم المهيمن ليس في شخوصه بل في سيستمه الذي خلق فجوات ألحقت آثارا، منها انفراط العقد الاجتماعي والدستوري السوداني، الذي بموجبه تتحدد كل الأشياء، وفي انعدامه، تتوقف كل الأشياء. وليس من إطار سياسي ولا قانوني بموجبه يستند إليه أي أحد في أن يحدد شرعية الآخر باعتباره هو الذي يملك ‘الآنا’، وهذا معناه واقعيا أن شروط الاعتراف بالآخر هو إلغاء له، والجنوب هنا يمثل نموذجا حيا لعقلية الفشل، لا أقول السودانية وإنما المهيمنة، ينبغي أن نشير هنا إلي أنه ليس مطلوبا من أحد أن يتحكم في قناعات أحد من أجل أن يقبله الطرف الآخر، في ظل انعدام ثوابت وطنية متفق عليها، لأنها هي الحالة الوحيدة إن حصلت قد ترتب آثارا قانونية فردية أو جماعية تقضي المساءلة، وبما أن الحالة السودانية ما زالت مشروعا لدولة في طور التشكل لبلوغ الدولة، تبقى فرضية الأحكام ومصادرة حق الآخرين في ان يكونوا آخرين دعوة صريحة لتعميق الأزمة لطابعها الاستفزازي.
وفي ذات السياق وبما أن المهدي زعيم وشخصية فكرية واسعة ويمتلك أدوات لفحص الواقع وقراءة مؤشراته، كان واعيا باستعماله عبارة ‘الجماعات الجماعات’ في توصيف معياري مخل. إن توصيف المهدي لهذا الحراك التاريخي الثقافي النهضوي القادم من كل المحيط السوداني، خاصة في غربه الكبير، في إطار مفهوم ‘الجماعة’ المحدودة التي تكون مذهبية أو إثنية أوجهوية أو حتى اقتصادية او… لم ترتق الى مفهوم ‘الحركة’ أو إلى مفهوم ‘الحزب’، بالمفهوم السياسي. إنها إدارة واعية في محيط غير واع ويخضع للتلاعب والتدوير هذا بدون أن ننسى أن هناك تصادما في المجال السياسي للمهدي مع الحركات الثورية السياسية في تضاريس هذه الجغرافيا، التي انتجت مجتمعا جديد، بل مغايرا هو مجتمع الإبادة والمخيمات واللفظ التاريخي، لم يعدا مجتمع الوقود السياسي، وحتما الأمر كبير له تداعياته المباشرة بين شعب أكثر من ثلثيه من الفئة الناشطة، هذا التصادم نتيجة امتدادات ثورة المهدي الأكبر في تلك الجغرافيا، وهنا لا نريد أن ندخل في مقاربات بين قومية الثورة المهدية وطائفية المشروع الذي نتج عنه، لأن الأول لا هو إرادة وطنية جماعية، وبالتالي هو تراث نضالي، ملك لكل الشعب السوداني في رمزية تاريخية مهمة، يمثلها المهدي الأكبر ومشروعة التحرري عبر الديني الذي رفض قوم الشمال في جزيرة ‘لبب’ وبعدها قبوله ليقبله الغرب والشرق الذين كانوا بلغة اليوم قوات الميدان الأساسين في التحرير الذين صنعوا الاستقلال وسلموه.
ويفسر المفكر أبوالقاسم حاج حمد في كتابه ‘ السودان المأزق التاريخي، تعالي الشمال الإثني العرقي على المهدي كان سببا لرفض دعوة المهدي’، فالشرعية الوطنية للمهدي الأكبر هو ما دفع جدي الأمير الفارس ‘راكب’ أخ السلطان عبدالفقراء بن أقروبن السلطان نيي بن ..الخ ، سلطان قبيلة ‘الزغاوة/ كوبي’ في مرحلة من التاريخ أن يترك الخلافات حول سلطة السلطنة بعد وفاة أخيه ويغادر من أقصى الحدود الغربية للسودان، ويشارك في هم وطني أكبر من شؤون السلطنة، وهو الثورة القومية للوطن بزعامة المهدي الأكبر، ويستشهد في معركة ‘أم دبيكرات’ باعتباره فارسا من فرسان المهدية ليساهم في منح احفاد المهدي هذه المشروعية التاريخية التي يتكئ عليها الإمام الصادق المهدي فلا يصح أن نقول، على وزن ‘الجماعات الدارفورية’ جماعة المهدي النيلية ـ جناح الصادق!
‘ ‘كاتب سوداني مقيم في لندن