حول ادخال الدين، ولكن ايضا القومية والماركسيه، في السياسه
عبد العزيز حسين الصاوي [email protected]
في ساحة السجالات السياسيه والفكريه بين التيارات المختلفة وقف التيار الاسلامي متهما دوما بكونه يقيد مجال الصراع والنقاش والتنافس الديموقراطي بزج عنصر التقديس والمقدس فيه. فمهما كان استعداد قيادات التيارات الاسلاميه الذاتي ونواياها للالتزام بمقتضيات حرية التفكير والممارسه بقي ويبقي صحيحا دائما القول بأن الجوانب الدينية من ايديولوجيتها محاطة بقدر من الهيبة والمسلمات المتغلغله في الذهن العام بحيث يتعذر التعاطي النقدي المفتوح ازاءها من قبل التيارات العلمانيه الي درجة الاضطرار للقبول، الظاهري علي الاقل، ببعض المنطلقات الدينيه. بناء علي ذلك ينتشر الادعاء بوجود خاصية نزوع إقصائي توتاليتاري في صلب التيارات السياسية التي تستوحي الرابطة الدينيه. علي ان الفكرة التي يدور حولها هذا المقال هي إن اي تيار يستوحي رابطة طبيعيه بمعني انها موروثه في مجتمع معين، تجتذب وتستحق نفس هذا النوع من النقد حتي لو طرح نفسه علمانياً.
خذ مثلا تيارالعروبة السياسيه اي التوجهات الفكريه التي تقوم علي تفسير للانتماء القومي العربي يشكل ايدولوجية محددة السمات. المعروف ان هذا التيار نشأ في منطقة الشام ضمن ملابسات تاريخية معينه اهمها مجابهة سياسة التتريك خلال الفترة الاخيرة من العهد العثماني الذي استطال قرونا في تلك المناطق ومتأثرا بالمفاهيم والنظريات الغربية في تكوين القوميات، مما ركز التوجه العلماني فيها كما يظهر من مراجعة كتابات الاباء المؤسسين للتيار القومي العربي : ساطع الحصري وقسطنطين زريق ثم عفلق ومنيف الرزاز وغيرهما حيث تنحصر مقومات القومية في التاريخ واللغه والمصالح دون الدين. ان الانتماء القومي اكثر طبيعية من الانتماء الديني بمعني انه من الناحية الزمنية التاريخيه اعمق جذورا في البيئة التي يولد فيها الفرد إذ بقي العرب عربا مثلا وهم يتحولون من المسيحية الي الاسلام ولكنه بالطبع إنتماء اقل قداسة من الانتماء الديني وفي الان نفسه اكثر قداسة من الانتماء الماركسي.
الاخير يبدأ حياته في ساحة السباق السياسي مع التيارات الاخري من نقطة شروع متأخره اكثر منها بالنظر الي انعدام مقبوليته الكلي في المجتمع بينما يبدأ التيار العروبي السياسي حياته من نقطة شروع متقدمة نسبيا بالنظر لتوافق منطلقاته الاوليه مع البيئة القومية المحيطة به، يضاف اليها مايرشح عليه من رذاذ القداسه الدينيه بسبب العلاقة بين القومية العربية والاسلام الذي يضفي القداسة الكامله علي التيارات التي ترتبط به. علي هذا الاساس يصح القول بأن تيارات العروبه السياسيه تولد بجينات وخصائص وراثيه إقصائيه وتوتاليتاريه اكثر من الماركسيه ولكنها اقل من التيارات السياسية الدينيه. بيد ان التيارات الماركسية لها ايضا مسحتها التقديسيه. الفرق بينها وبين قدسية التيارات الدينيه والعروبيه انها قدسية مكتسبه اذا صح التعبير وليست موروثة عبر سلسلة طويلة من الاباء والاجداد. ان أي ايديولوجيه ذات مرجعية واحدة ووحيده حصريا خاصة اذا كانت تخلع علي نفسها صفة العلميه مثل الماركسيه، تكتسب بمرور الزمن وسخونة الصراع مع التيارات الاخري لاسيما في المجتمعات المتخلفه، طابع العقيدة الدينيه او شبه الدينيه لدي معتنقيها كما تصبح قريبة جدا من تكوين الرابطة القومية الطبيعيه مما يرشحها للتصنيف ضمن نفس تصنيف تياري المرجعية الدينية والقوميه من حيث القابلية للانغلاق علي الذات وضد الاخر.
في الحالات الثلاث، حالة المرجعيه الواحده حصريا في الماركسيه والقدسية النسبيه الموروثه للعروبه والكامله للاسلام، يدلنا سير التاريخ السياسي الحديث علي ان ظهور هذا الاقتران بين العقيدة اوالرابطة المستوحاه وقابلية الانغلاق ليس امرا مطلقا وحتميا نابعا منهما اوتوماتيكيا بل هو من صنع الانسان الي حد كبير. في هذا يمكن القول كقاعدة عامه بأن المجتمعات المتخلفه حضاريا أوتحديثيا التي لاتترامي فيها مجالات التداول الفكري والفلسفي متسعة علي اخرها او لاتوجد فيها اصلا، هي التربة الصالحة لظهور الاقتران المشار اليه. تخلفُ الايدولوجيات اسلامية كانت او قومية عربية او مار كسيه هو من تخلف عقلية الانسان الذي ينتجها كصياغات فكريه ويطبقها كسياسات. وفي المعادلة التي ماأنفك الفكر الانساني يحاول ضبطها بين الظروف التي تصنع مستوي وعي الانسان أو العكس يبقي من المرجح صحة المقولة التي تجعل الانسان سيد ظروفه وصانعها علي المدي البعيد طالما انه وحده من بين مخلوقات الكون القادر علي الملاحظة والتجريب والاستنتاج المنطقي. وتأكيدا لهذا الزعم سنلاحظ ان المجتمعات التي نزعت عن هذه النوعيات الثلاث من مصادر استيحاء الفكر والعمل السياسي خواصها الاقصائية تجاه الاخر والانغلاقية علي الذات وذللتها لخدمة التقدم والرفاهية، هي المجتمعات التي استلم فيها العقل زمام القياده. فالمراجعات التجديدية للماركسية أُبتُدرت في اقطار مثل ايطاليا وفرنسا وليس في روسيا المتخلفة نسبيا، وفيها ايضا تراجعت القومية الشوفينية العدوانيه لتفسح مكانا للتآخي ينسج وحدة متينة بين اقطارها عبر حروب داميه بينما تحددت الصلة بين الدين والحياة العامه فيها بشكل بناء وايجابي. كذلك يؤكد سير التطورات في المجتمعات التي لاتزال تكابد معضلة تسييد العقل الزعم المذكور. لقد ارتفعت رايات الفكر الماركسي الشيوعي والديني الاسلامي والقومي العربي في اكثر من بلد عربي مكتسحة الساحة السياسيه ومشاغل النخب القيادية في فترات زمنية مختلفة ولكنها جميعا إذ اغترفت من مستودعات الركود المجتمعي والحضاري حملت سماته وامراضه فتفاعلت مع عوائقها الذاتيه لتصل بها في كل التجارب عاجلا او اجلا وبلا استثناء الي نقطة تشّبع تنفرط بعدها وتشتتت ولايبقي صالحا منها للحياه الا بؤر صغيره تحاول إعادة بناء التجارب المعنيه بادئة بالتخلي عن كل ماله صلة فيها بادعاءات وايحاءات القداسة. في هذا تُنبئنا التجربة الشيوعية السودانيه بأن قمة امجادها التصاعديه تجلت في ثورة اكتوبر 64 ولكن شح الرصيد الديموقراطي في ايديولوجيتها بحكم مقتضيات حصرية المرجع الماركسي وفي الواقع السوداني نفسه قذف بها الي أتون ازمة تفجرت علنا بعد ذلك ببضع سنوات لتضع الحزب علي منزلق التراجع. بعد عقدين من الزمان حلت التجربة الاسلامية محل التجربة الشيوعيه في مستوي النفوذ السياسي وهي تعاني من نفس العيب الخِلقي منتهية الي نفس المصير مموها بسلطة رسمية تعتاش علي ادوات الدوله في المناوره والقمع الناعم والخشن بينما يتساقط التنظيم الاصل من حولها. وفي فراغ محدود بين التجربتين الشيوعية والاسلاميه عاشت التجربة القومية العربية البعثية تجربتها المحدودة محدودية حجمها بنفس السمات والنتائج.
( جريدة الحياه/ لندن 3 نوفمبر 2010 )