حميدتي وطوفان الخطاب العنصري .. الي أين سيؤدي؟ (1-2)

بقلم د. سعاد مصطفي الحاج موسي
24/07/2019

أعقب مداهمة الثوار في ميدان الاعتصام في الثالث من يونيو 2019 وفضه بتلك الدموية التي أدمت الجوارح بالبكاء والقلوب بالأحزان، والتي لا تزال حيثيات اصدار قرارها رهن التقصي، أعقبها تحول الناس، خاصة السياسيين والكتاب، الذين باركوا في البدء مبادرة حميدتي برفضه الانصياع الي أوامر الرئيس بقتل الثوار ثم اعلانه انحيازه الي ثورة الشعب، واستبشروا خيرا من وجود قواته علي أرض العاصمة القومية، تحولوا الي هجوم كاسح علي قوات الدعم السريع التي اتهمت بارتكابها تلك المجزرة بالرغم مما بدا من الحادث بأنه مفاجأة لحميدتي نفسه الذي وقف صامتاً فاغراً فاه ولم يستطع الإدلاء بقول فصل لمدة قاربت الاسبوع وزاد. بينما تشير حيثيات فض الاعتصام الي تورط المجلس العسكري مما يعني بأن أعضائه جميعاً متهمين بالجرم المشهود الي أن تثبت براءتهم.

ولكن االغير مدهش في الأمر تلك الأصوات التي أخذت تعلو والأقلام التي شرعت تتباري كتابة علي أروقة ومنابر ومنصات الصحف والمجلات والدوائر الالكترونية والقنوات الفضائية وقد طغي علي اسلوب اصحابها الاستياء والغضب لو نبسوا بعشره مثلا عندما كانت طائرات الأنتنوف الانقاذية التي يقودها طيارون من الوسط النيلي يقذفون مواطني دارفور العزل بالقنابل يحرقون نسلهم وزرعهم وضرعهم ويقهرون انسانيتهم وكرامتهم دونما رأفة تأخذهم بالأطفال واالنساء والعجزة، ويردمون آبارهم وهم يقولون، كما جاءت بالتسجيلات التي رصدتها وبثتها الفضائيات الأجنبية عام 2004: “أردم أي نقطة موية ما تخلي شجرة واقفة ولا اي شئ متحرك!”، لو كانو أطلقوا بنت شفةٍ من مثل تلك الصرخة التي يطلقونها الآن، لكانت قد نفعت في إيقاف تلك الحرب وحصادها اللا انساني، أو قل لعلها كانت ستنفع في انقاذ 118 طفلا من الموت حرقاً من جملة المائتي ألف بريئاً الذين حصدتهم نيران الانقاذ والنخبة النيلية في وقت لم يكن لحميدتي أثر يذكر أو وجود في خارطة حرب الابادة الانقاذية في دارفور. ما حدث بدارفور هي جريمة ليست بفعل الانقاذ قادةً ومؤسسات فقط، وانما يُدان فيها كل كاتب يعلو صوته الآن ويكتب ويتحدث عن الخرطوم وأمن الخرطوم فقط بينما اتخذ مقعده في مقاعد المتفرجين غير آبه بما ظلت الانقاذ ترتكبه من جرمٍ لما يقارب العقدين زماناً وكأنما أهل الهامش في نظرهم مجرد أعلاف لحصان البشير لا حزن عليهم ولا هم يذكرون!

عندما بارك الناس مبادرة حميدتي وسكتوا عن وجوده لوهلةٍ بل وفرحوا به جَزْلاً، كان في خلدهم أن هذا الأجير القروي المسلوب الإرادة سهل الانقياد سيكون امتداداً لاخوته في التاريخ الذين جُلِبوا عُنْوَةً لخدمة أهل الوسط. وأنه مثل أي مزارع أجبرته وقهرته امبريالية بني وطنه الذين والوا المستعمر وتلوه سيطرةً علي مقاليد الحكم منذ جلاء غبارهم، علي الهجرة للعمل بالمشاريع الزراعية المقامة والمنتشرة علي امتداد الشريط النيلي لقاء أجرٍ زهيد اتباعا لسُنّة المستعمر خاصة ابان انشاء مشروع الجزيرة في 1924 ذلك المشروع الذي من خلاله مورست أشد أنواع التعسف والاضطهاد والاستبعاد بقيادة أسرة المهدي وحزب الامة، ولأنه سُقْيَ بدموع وعرق المساكين كان لابد له أن ينهار علي رؤوس أسياده!

اولئك هم من رعوا بذرة العنصرية التي زرعها المستعمر الذي جمع ممالك وسلطنات متنافرة ومتناحرة تاريخياً في دولة سميت بالسودان، ورضعوا من أثداء ملكه منذ تداعي دولة المهدية في 1898 ليتسلموا راية حكمه بكل ألوانها القاتمة وليؤسسوا لما عرف بفصيل النخبة الحاكمة اقتصاديا وسياسياً واجتماعياً. ومن أجل مصالحهم تباروا وشيدوا مؤسسات لرعاية التخلف التنموي في عموم غرب السودان بعد أن صادروا عجلات تنميتها واحتجزوها بمخازن أبناء المهدي والميرغني ومن والاهم من المقربين، وذهبوا فرحين وقد أعجبهم ما حصدوا من عروش ثمارها وظنوا انها لن تبيد أبدا ولم يستدركوا بأن الغد لناظره قريب وأن الأيام لابد ستريهم بأنهم قد ظلموا أنفسهم وحق عليهم ما يحق علي الظلمة والجبابرة الطغاة.

واتباعا للفكرة نفسها كان المطلوب من ذلك الأجير حميدتي، لترضي عنه الملة النيلية، أن يحافظ علي سلامة الثوار من كتائب الظل التي لم يدر حميدتي نفسه أن خطة الانقاذيين تقضي بضرورة اختراق قواته والتغلغل داخل مكونها القيادي وانها قد تمكنت بالفعل من نشر ظلالها علي تلك القوات كما جاء علي لسان قائدها مؤخراً. وعندما حدثت تلك البشاعة ونزف الناس دماءهم وأرواحهم الغالية، حُمِّلت المسئولية لحميدتي نائب رئيس المجلس! بينما كانت البديهة تدعو الي توجيه التهمة أولاً وأخيراً الي المجلس العسكري برمته وقبله رئيسه المتورط في الاتجار بالأسلحة والبشر في دارفور وترحيلهم قسراً الي اليمن. فلماذا لا يلوم الناس رئيس المجلس مثلما كانوا يسبون البشير في أُخريات أيامه في الحكم ولم يقتربوا قيد أنملة من وزير دفاعه أو المقربين من رهطه الاسلاميين المشرفين الفعليين علي عمليات الابادة الجماعية والانتهاكات في دارفور؟ كيف يصر الناس علي الامساك بتلابيب حميدتي ويتركون الروؤس السبعة للحية الرقطاء المتخفية منها والظاهرة، أي ينظرون للفيل ويطعنون ضله بكل غلٍ وغلواء؟

وما يدعو للعجب هو تلك الاساءات التي تشابه تلك التي تأففت وتعففت منها آذاننا ردحاً من الزمن وهي تذاع في بواكير الصباح يبثها ذلك الانقاذي يونس وهو ينشر الشتائم والسباب لتؤكد لنا غزارة ما نختزنه من أمثال يونس، وأن ساقط القول الذي بصقه الرئيس المخلوع بشير في حق نساء دارفور انما هي ثقافة متأصلة وليست مجرد فلتة لسان أو نزوة تردي أخلاقي. ومن جملة ما نشر: حميدتي جاهل وغير متعلم، حميدتي ينطق القاف غين، حميدتي ما سوداني تشادي، حميدتي زول خلا وتاجر ابل لن يحكمنا، حميدتي ما بعرف سياسة، حميدتي لم يتخرج من الكلية الحربية، حميدتي وقواته يجب طردهم خارج الخرطومالي دارفور! حميدتي، حميدتي، حميدتي ووووالخ. إنها مرحلة السفور وكشف كم الرفض الذي ظل محجوباً لحين وما يعشعش في العقول والصدور حول الهامش، خاصة دارفور، وقضاياه أرضاً وانسانا!

واذا انتبهنا الي أحاديث المتحدثين فكم من أهل العاصمة القومية لا ينطق القاف غين؟ ومن من فصيل النخبة النيلية ملم بتفاصيل العلاقات الاسرية والقبلية وقبائل التماس بين دارفور وجاراتها تشاد وافريقيا الوسطي وحتي جنوب السودان؟ ومنذ متي كانوا يكترثون لمكونات دارفور العرقية والاثنية ولمن يجوع أو يمرض أو يموت، أو يحيا نازحاً أو لاجئاً!؟ ودوننا من الأمثلة اذا أطلت برأسها فلا غرو انها ستسد أُفق الكلام والكلمة مشارقاً ومغاربا!

ولنرجع القهقري قليلاً ونختلس النظر الي الماضي القريب ونتساءل: لماذا لم يكترث الذين يتحدثون الآن بكل تلك الشراسة والبغض عن حميدتي، لماذا لم يكترثوا لما جري في دارفور منذ 2004 وقت أن هتف الأرزقية رجالا ونساءاً ب “سير سير يا بشير”؟ أم أن ذلك بسبب أن من قام بتلك الابادة الجماعية والانتهاكات اللا انسانية وجرائم الحرب هو من الوسط النيلي اثنيا وعرقياً يحق له مسح من يثور في وجهه من وجه الأرض؟

نعم حميدتي تاجر إبِلْ، اذا كنتم تريدونه مهندساً أو طبيباً أو معلماً أو حرفياً، لماذا لم تساهموا في توجيه الدولة لانقاذ ما يمكن انقاذه من الموارد البشرية ليلة ظهور الكتاب الأسود عام 2000 طارحاً بالأرقام والحسابات معضلة توزيع الثروة والسلطة في السودان، فكان تعليق أحد الكُتّاب أن “الفتنة نائمة، لعن الله من أيقظها!” لماذا لم تثوروا وتطالبوا بضرورة دعم عملية التعليم والتنمية في القري النائية حتي يستطيع حميدتي وأمثاله التعلم والتخرج من الجامعة فيساهموا بوعي في تنمية الوطن ويمارسوا اختيارت كريمة في حق أنفسهم وأهاليهم ويرفضوا الاستغلال وحمل السلاح؟ أما السياسة فتقليدياً تكتسب معرفتها بالتجربة والممارسة وليست فقط بقاعات الدراسة الجامعية وإلاّ فمن أُولئك الجربندية الذين حكموا السودان كم منهم كان متخرجاً من علوم سياسية أو علوم اجتماع أو فلسفة أو اعلام، أو درس القانون والعلاقات الدولية، خاصة العسكريين الذين حكموا السودان قرابة الخمسين عاما من مجموع عمره الذي زاد عن الستين وهو حراً مستقلا!؟

أما الكلية الحربية فالحديث عنها باطلا زهوقاً والكل يعلم عن مواصفات من يقبل في تلك الكلية العنصرية الصبغة والتوجه – مواصفات الإثنية والقبلية والجهوية واللون والشكل والشعر والاسرية. وبديهي أن يكون حميدتي بقرويته وإبِلِهِ وغنمه وأصله مثله مثل الآخرين من أبناء دارفور الذين لا يملكون مواصفات هامان وربه تؤهلهم للقبول بها. فهي كلية تُخَرج من يوالي الرئيس والنخبة الحاكمة اثنياً وقبلياً واسرياً وليس من يكون ولاؤه للدستور والوطن ولذا كل من ثار وجاسر بنزع نيشان ذلك الولاء الاستعبادي كان حظه تصفية زٌؤام، ودوننا مزبحة ابريل 1990 التي أُعدم فيها ثمانية وعشرون ضابطاً بتهمة محاولة قلب النظام بالرغم من أن النظام لم ينقلب وقتها، ولا يعرف ذويهم الي اللحظة أين دُفنت جثامينهم أو في أي جزء من نهر النيل أُلقيت، وما علمنا الآن عن استياء وحزن ضباط من القوات المسلحة وقد جُرِدوا من أسلحتهم خوفاً من أن يقودهم ولاؤهم للوطن لتوجيه أسلحتهم الي صدور قادتهم الذين خانوا الأمانة وحنثوا بالوعد. ولا يفوت علي الكثيرين أيضاً أن رتبتي “لواء” و”فريق” عادة لا تمنحان لمنسوبي غرب السودان الذي يعتبره بني فرعون وملته خارج حدود الخرطة الوطنية مثلما كانوا يفعلون مع الجنوب الذي راح واستراح!

والحال هكذا فليس من العدل والاعتدال في ادارة الخصومة والعداء رمي الجريرة واللوم والتقريع علي حميدتي بسبب تدني مستواه التعليمي وضعف تدريبه وأصله وفصله وجنسيته، خاصة وأن السودان دولة لا يملك فيها أحد حقاً حصرياً لمنح الجنسية لمن يحب وحرمان من يبغض بالرغم من أن هذا هو واقع الحال حتي صار من السوريين، الذين أحببناهم أكثر من بني الوطن للون بشرتهم ونعومة شعرهم وعروبة اصلهم، من يُشَبِه الجنسية السودانية، التي منحت لهم مجاناً، بالمرحاض، تأففاً واستبشاعاً لها!

[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *