قِيل، إذا كنت مع الناس في مجلس، سيطر على لسانك، وإن كنت مع نفسك، فسيطر على عقلك. يبدو لنا أنّ الدكتور عبدالله حمدك، رئيس وزراء الحكومية الانتقالية، خلال محنته الأخيرة، التي اختلى فيها بنفسه قسراً، فقد السيطرة على عقله، وأتبع هواه، فأورده الخيبة.
صاغ في تبريراته فيما صاغ، المحافظة على المكتسبات الاقتصادية التي أنجزها خلال العامين الماضيين، وحقن الدم السوداني. الدكتور عبدالله حمدوك، الذي توجه الشارع الثوري رئيسا لوزراء الفترة الانتقالية، يعلم علم اليقين، انّ ثوار ديسمبر الأشاوس، استبسلوا واستشهدوا من أجل إسقاط نظام الإنقاذ الشمولي الاستبدادي، توقاً للحرية، وعشقاً للحكم المدني، واختصرت شعارات الثورة في الحرية والسلام والعدالة، ولم يخرج من أجل الرفاه المعيشية، لذا لا نظن أن الدكتور المبّجل، يحتاج لمن يفهمه أن إنجازاته الدولية والاقتصادية هي محل تقدير، لكنها ثانوية، ولا يمكن مقايضتها بعشر معشار إحدى مرتكزات الثورة.
وطالما هو “حنيّن” على حال البلد إلى هذا الحد، ومشفق على الأوضاع المعيشية للمواطن السوداني إلي هذه الدرجة، لماذا رفض عرض النظام البائد، الذي ترجاه وتوّسل إليه لتولي حقيبة المالية قبيل سنوات معدودة من اندلاع ثورة ديسمبر المجيدة؟ طمعاً في فك الحصار الدولي المطّبق على البلد بسبب أفعالهم، لماذا رفض عرض السفاح البشير، وقبل عرض شركاء الدم بزعامة القاتل البرهان في 21 نوفمبر؟
الدكتور حمدوك، على دراية أنّ الشعب السوداني مقت حكم العسكر، وكره الكيزان كراهية العمى، وهو باتفاقه المنقلب على الوثيقة الدستورية، يعني أنه أعطى الضوء الأخضر، للإبقاء على بئرهم في مفاصل الدولة، والتمهيد لعودة المبعدين منهم إلى الحكم. ومن أجل الإيهام بالمحافظة على المكتسبات الاقتصادية، يمد المدية الصدئة للقتلة لنحر العدالة، وقتل الحريات العامة؟ وهذه حسابات خاطئة بكل المعايير.
ليس هنالك كبير عناء لكشف أنّ مصوغات حمدوك لتبرير اتفاقه مع شركاء الدم، لا يعدو أن تكون نزوة شخصية، وإتباع هوى النفس الأمّارة بالسوء، أذ أنه سيد العارفين، أنّ العسكر شركاء الدم، ليس لهم إلّاّ ولا ذمة، ولا يمكن الركون إليهم أو الوثوق بهم، وحتى هذه المكاسب الاقتصادية التي يتحدث عنها، ويمُن بها على الشعب السوداني، والخوف عليها كأنها إنجازات تخصه وحده، قد تجد العراقيل الدولية في إنعاشها والمحافظة عليها، إذ قال أكثر من جهة دولية نافذة منها “ماما أمرييكا” أنّ الاتفاق الأخير ليس كافياً، والسيد حمدوك يعلم باقي المطلوبات من سجانيه وشركائه القتلة والغدارين.
المجتمع الدولي يراقب الإتفاق، ويراقب الشارع الثوري كذلك، إما حمدوك فقد أدار ظهره لمن هتفوا باسمه وجعلوه رمزاً لمدنيتهم، ولو لا صمود شباب الثورة الأشاوس، وزلزال مليونياتهم المتكررة، لا ظن أن العسكر والمجتمع الدولي، سيأبهون به وهو في محبسه، وللبس في سجنه بضع سنين، ولو لا الصوت العالي والمدوي للثوار في شوارع وأحياء مدن السودان، لنجح البرهان في تجاوز السيد حمدوك، وبارك المجتمع الدولي حكومته الانقلابية كأمر واقع، ولكن حسابات حمدوك الخاطئة، زيّنه له غير ذلك، وظن أنه الأعقل، والأدرى بمصالح الشعب السوداني، والأحرص على مستقبل البلاد من الشارع الثوري، وكافة الكيانات السياسية، عدى شركاء الدم، وهذا يعنى أن السيد حمدوك، سفّه الشارع الثوري، والقوى السياسية كذلك!
أما حكاية حماية الدم السوداني؛ فمن الواضح أنه يعنى دم الثوار الأحرار في شوارع المدن، الذين اعتزم شركاؤه على إبادتهم مهما بلغ حشودهم من أجل الفرار من العدالة التي تنتظرهم، وحتى السذج يعلمون، أنّ هذا المصوغ، لن يصمد لأسبوع واحد، ويعلمون ان السيد حمدوك، سيلوذ بالصمت، متصنعاً الحكمة، ومدعياً رباطة الجأش؛ وقد كان، فالدماء التي اريقت في مروج جبل مون، كادت أن تغرق أهالي غرب دارفور أجمعين، ولم نطلع حتى على بيان من السيد رئيس الوزراء!
إذا غيّبت العاطفة، معنى الحرية وثمنها عن عقل السيد حمدوك في محبسه، فليعلمها من صاحب البلبل الغريّد حيث قال:
قد كان عندي طائر في قفص من ذهب
ولم أكن امنعه من مأكل أو مشرب
ففر عني ومضى بدون أدنى سبب
وقال لي: حريتي لا تشترى بالذهب