أضفت الحرائق المتكررة بمعسكرات النازحين في ولايات دارفور غموضا مشوبا بالحذر والريبة وسط النازحين الذين يعانون الامرين أصلا من تدهور الاوضاع الامنية والانسانية بسبب هجمات المليشيات الحكومية، وسيطرة الحكومة واذرعها على انسياب المساعدات الانسانية.
وتمضي الحكومة بالتزامن مع هذه الحرائق قدما في الخطة المتفق عليها تحت الرعاية والتمويل القطري في مشروع العودة الطوعية للنازحين الى مناطقهم الاصلية التي لا يتوفر فيها الأمن حتى الآن وفقا لمشاهدات وشهود عيان وتقارير دولية عديدة.
متضررون ونازحون اتهموا الحكومة صراحة بالتورط في تلك الحرائق بهدف إفراغ المعسكرات في ظل صمت دولي مريب بدأ في تشجيع البعثة المختلطة للأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي في دارفور (اليوناميد) على الانسحاب من الإقليم بحجة تحسن الأوضاع الامنية، فيما لم يتم حصر نهائي للخسائر الكبيرة التي وقعت في المعسكرات من قبل أي جهة محايدة حتى الآن.
إفراغ المعسكرات ….. لماذا؟
الخطة الحكومية لتفكيك وافراغ معسكرات النازحين – حسب عمال اغاثة طلبوا عدم الافصاح عن هوياتهم لـ(عاين) – خطة قديمة متجددة تتعلق بعدة عوامل استراتيجية بالنسبة للحكومة السودانية على رأسها اخفاء اكبر آثار جرائم النظام والمتمثلة في وجود النازحين أنفسهم. وثانيا ابطال الأسباب الداعية لوجود المنظمات الإنسانية التي تناصبها الحكومة العداء وتعدها سببا أساسيا في تطويل أمد الحرب في الاقليم المنكوب.
ويقول نازحون ان الحكومة تنظر بالأساس بريبة بل وبرغبة في الانتقام من المعسكرات وقاطنيها، اذ تري فيهم مجرد عملاء (طابور خامس) يعملون لصالح الحركات المسلحة. لكن الدافع الاساسي لتلك الكراهية هو ان وجودهم وصوتهم وشهاداتهم تعد السبب الأساسي الذي أدى لاصدار مذكرات الاعتقال بحق الرئيس البشير. ويؤكد النازحون الذين تعرضوا لصنوف مختلفة من الانتهاكات والتعذيب والتشريد وخلافه الى سماعهم لكلمات تجريح من قبل افراد المليشيات الحكومية أثناء الاعتداءات التي تتم على شاكلة (يا عملاء يا خوارج لو ما عاجبكم أمشوا اشتكوا الجنائية)، مما يشي بالدوافع الدفينة والرغبة في الانتقام من النازحين، ويكشف في ذات الوقت اكتمال أركان جريمة الرغبة في تفكيك المعسكرات واستئصال النازحين من اجل إخفاء أدلة الاتهام.
ويمضي النازحون للقول بان الخطة بدأت منذ العام 2009 وأدت لمواجهات دامية بين النازحين والسلطات قادت لمقتل مئات المدنيين والنازحين في أحداث مختلفة. أبرز هذه الأحداث هي تلك التي وقعت في سبتمبر من العام الماضي لدى محاولة الرئيس البشير دخول المعسكر ومخاطبة النازحين بالقوة رغم اعتراضات النازحين الأمر الذي أدى إلى مواجهات دامية بين النازحين وقوات الأمن المدعومة بالمليشيات ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن خمسة أشخاص.
ويمضي النازحون للتشكيك بان الحرائق لا تعدو كونها محاولة حكومية جديدة لإفراغ المعسكرات، الأمر الذي يعني انهاء الازمة بالقوة في ظل الخطة الدولية مع الحكومة لما سيمي ب (الخروج التدريجي للبعثة المختلطة من دارفور).
إدماج النازحين وضياع للحواكير
وتقترح الحكومة أيضا في خطة -يصفها بعض النازحون بالمكر- امكانية دمج النازحين في المخططات السكنية الجديدة بالمدن والتي تمولها دولة قطر ويشرف على إنشائها صندوق اعمار دارفور، الذي اشتهر بقضايا فساد عديدة قادت لعراك بالايدي بين بعض قياداته بسبب اتهامات متبادلة بالفساد بين مكوناته في فندق السلام روتانا العام 2016. ويقول النازحون أنه في ظل انعدام الأمن واستحالة العودة للقرى والمناطق الاصلية، ربما يوافق البعض على الادماج في المدن لإنهاء حالة النزوح في ظل الظروف الانسانية والنفسية السيئة التي يعيشها النازحون، الأمر الذي يعني قطع طريق العودة وإنهاء علاقتهم بمناطقهم الأصلية وتمكن المستوطنون الجدد من السيطرة بصورة كاملة ونهائية على الحواكير.
ويرى خبراء ان الاجيال الجديدة من النازحين (منذ العام 2003) ربما لا يكونوا بنفس حرص الاجيال القديمة في العودة لمناطقهم الاصلية نسبة لعدم معرفتهم بتلك المناطق، الخوف من المجهول بالاضافة للتأثر بالاحتياجات وطرق المعيشة الحضرية نسبيا بالقرب من المدن في دارفور حيث تقع تلك المعسكرات.
واحدة من أبرز تلك الأمثلة هي الخطة الجديدة التي أعلنتها حكومة ولاية جنوب دارفور لعام 2018، إنهاء وجود معسكرات النازحين في الولاية. وحددت حكومة الولاية خيارات للنازحين، اما العودة الى مناطقهم أو الاندماج في المخططات المدنية التي شيدتها الحكومة، والتزمت بتوفير كافة احتياجات الاستقرار والاندماج في المجتمع.
نماذج وخسائر
في شهر مارس الماضي ادى اشتعال حرائق متتالية في أحياء ومناطق وحدة (صليعة) الادارية التابعة لمحلية (ياسين) بولاية شرق دارفور وعلى مدى أربع مرات خلال الأسبوع الى إلحاق أضرار وخسائر كبيرة للأهالي. وقال أحد المواطنين في صليعة إن اسباب الحرائق مجهولة وناشد مفوضية العون الانساني بالولاية والمنظمات الانسانية الاسراع لإغاثة المتضررين.
وقد قضى حريق برئاسة محلية الضعين في شرق دارفور، بحي السكة حديد شمال، على أربع معسكرات للنازحين بالكامل، من دون أن تقع خسائر في الأرواح، مع الغياب التام عربات الإطفاء. وبينما سبب الحريق خسائر مادية تصل إلى (٤٠) مليار جنيه بحسب إفادات من قبل المتضررين، من بينها حرق عدد (٥١) دكاناً ومحلاً تجارياً بسوق (دبنقا) الذي حرق كاملاً. بينما قدر مشايخ المعسكرات الأربعة وهي (دبنقا، العريد، قرناية وأم سعونة)، ما لا يقل عن ألف أسرة تضررت من الحريق الذي لم تتوفر أي معلومة عن أسباب اندلاعه.
وشهدت معسكرات النازحين شمال السكة الحديد خروجاً جماعياً لأهلها بسبب اللهيب الحارق في منتصف النهار، خاصة أنَّ النيران لم تنطفئ بسبب دخان المواد الزراعية من قشر الفول والذرة والأواني المنزلية، فيما تجتهد لجان المعسكرات في حصر الخسائر.
في شهر مارس الماضي من هذا العام أعلن رئيس اللجنة العليا للعودة الطوعية بمناطق قانجو غربي وحدة دمة الادارية في محلية مرشنج بولاية جنوب دارفور، ابراهيم الطاهر ادم، عن عودة أعداد كبيرة من الأسر العائدة الى مناطق قانجو الى المعسكرات مرة أخرى بسبب التهديدات والمضايقات التي تعرضوا لها من مجموعات الرعاة المسلحين التي قدمت الى المنطقة من جهات اخرى.
بولاية جنوب دارفور شب حريق بمعسكر دريج للنازحين في 17 ابريل، وقضت علي 95 منزلا بالكامل، واحترقت الاثاثات والمحاصيل الزراعية والبذور.
أسباب مختلفة
وتراوحت آراء عدد من النازحين بشأن أسباب الحرائق المتكررة في المعسكرات، ففيما اتهم البعض جهات حكومية بالوقوف ورائها من أجل افراغ المعسكرات، يعزي آخرون الحرائق لانعدام ترتيبات السلامة في المعسكرات.
ادم عيسى اسحق من ولاية جنوب دارفور، يعتقد ان الحرائق التي ضربت معسكرات النزوح في اغلب ولايات دارفور، هي محاولة ثانية لإفراغ المعسكرات وإعادة توطين النازحين خارج حواكيرهم الاصلية، ما يريده النازحون العودة إلى مناطقهم التي هجروها بسبب الحرب، قال آدم ان المخططات السكنية التي قررت الحكومة اجبار النازحين على الاستقرار بها، هي محاولة لاسكات الاصوات التي تنادي باستعادة الحواكير من قبل المستوطنين الجدد. ويضيف آدم أن الخسائر كبيرة، لا يستطيع أن يضع لها أرقاما، مشيرا الى ان كميات الذرة والتقاوي التي حرقت، وموسم الزراعة على الأبواب.
فيما يستبعد آخرون وجود علاقة بين برامج العودة الطوعية والحرائق، مناشدين الدولة بالتدخل في التخطيط والحماية وتوفير معدات وسيارات الاطفاء.
وتعزي نوال عبدالله عيسي من معسكر النيم بولاية شرق دارفور سبب الحريق الاخير الذي ضرب المعسكر للعب الأطفال بالنار بالإضافة للبناء الهندسي العشوائي للمعسكرات الذي لا يهتم بجوانب الأمن والسلامة.
بينما يوضح عبدالله مختار محمود، من معسكر النيم ان اشتعال الحرائق يعود لاستخدام الحطب والأشجار في إشعال النيران بالاضافة لوضعية المطابخ غير الآمنة أثناء الاستخدام في المعسكرات.
.
عاين