جنوب السودان: مشاركة واسعة في الاستفتاء … وتأييد ساحق للانفصال
جوبا (جنوب السودان) – محمد هاني
احتشد آلاف من مواطني جنوب السودان أمام مراكز الاقتراع منذ الساعات الأولى من فجر أمس في حماسة لافتة، للمشاركة في استفتاء تقرير مصير إقليمهم الذي بات انفصاله مسألة وقت. ولم يعكر صفو الأجواء الاحتفالية سوى اشتباكات في ولاية الوحدة ومنطقة أبيي المتنازع عليها بين الشمال والجنوب.
وعلى رغم أن الاقتراع يستمر سبعة أيام تفتح خلالها المراكز أبوابها حتى الخامسة مساء، إلا أن كثيرين من 3.9 مليون جنوبي مسجلين في كشوف المصوتين، لم يطيقوا الانتظار للإدلاء بأصواتهم وتثبيت خيار الانفصال الذي بدا مهيمناً على الرأي العام في الجنوب. وخرج بعضهم قبل بدء التصويت بسبع ساعات متحملاً الشمس الحارقة.
وقبل انطلاق الاقتراع، راح موظفو مفوضية الاستفتاء يجهزون الصناديق أمام نحو عشرين مراقباً دولياً ومحلياً في لجنة انتخابية نُصبت في ساحة ضريح مؤسس «الحركة الشعبية لتحرير السودان» جون قرنق في جوبا، عاصمة الإقليم.
وأدى الإقبال الكبير إلى فوضى محدودة في عدد من المراكز، بسبب عدم انضباط الصفوف التي امتد بعضها أكثر من كيلومتر، ما أربك موظفي المفوضية الذين راحوا يحاولون تهدئة بعض الغاضبين من طول ساعات الانتظار.
وأطلق النائب الأول للرئيس السوداني رئيس حكومة الجنوب سلفاكير ميارديت عملية التصويت أمام ضريح قرنق، بحضور ديبلوماسيين ومراقبين أجانب، بينهم رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي جون كيري.
وقال مخاطباً مواطنيه الذين احتشدوا في الساحة وخارج أسوارها للإدلاء بأصواتهم فيما كانت فرق قبلية تعزف موسيقى وتؤدي رقصات تقليدية: «هذا يوم تاريخي انتظره الجنوبيون طويلاً. وإذا لم يستطع أحدكم أن يدلي بصوته اليوم، فأمامكم أيام أخرى لفعل ذلك… تحلوا بالصبر». واعتبر أن «الدكتور جون (قرنق) وقتلانا معنا الآن، وموتهم لم يذهب سدى».
ودعا الأجهزة الأمنية إلى «حماية موظفي المفوضية والمواطنين والأجانب، وتسهيل الاستفتاء وتأمينه». وتعهد حماية الشماليين في الجنوب، مطالباً قوات الأمن في الشمال بحماية الجنوبيين هناك.
وتوقع الناطق باسم حكومة الجنوب وزير الإعلام برنابا مريال بنجامين استفتاء سلمياً. ولفت إلى أن «الناس تنتظر هذا منذ أكثر من خمسين عاماً. هذا حقنا، ولا بد من أن يفرح لنا كل من يحترم حقوق الإنسان». وأكد لـ «الحياة» أن «لا تهديدات أمنية للعملية. ما جرى في ولاية الوحدة كان حادثاً احتواه الجيش الشعبي، وسنناقشه مع حكومة الخرطوم». وقال رداً على سؤال عن توقعاته لنسبة المشاركة، قال إنه يعتقد أن 95 في المئة سيصوتون للانفصال.
اشتباكات مع متمردين
وأعلن مسؤول مفوضية الاستفتاء في الجنوب القاضي شان ريك مادوت خلال مؤتمر صحافي عقده قبل ساعتين من إغلاق مراكز الاقتراع أن «الإقبال كان كبيراً وغير معهود. إنه أمر عاطفي جداً. لم نر مثل هذا في حياتنا قط».
لكنه كشف وقوع «اشتباكات في ولاية الوحدة مع ميليشيا تابعة لمتمرد على كشوف رواتب جهة أخرى»، في إشارة إلى أن هذا المتمرد مدعوم من حكومة الخرطوم. وأضاف: «أكدت الحكومة وسلطات الولاية احتواء الموقف. ولا شك لدي في قدرتهما على ذلك. وإذا كان هناك بلطجية يريدون عرقلة الاستفتاء، فالجنوبيون وحكومتهم هنا لمواجهتهم».
ودعا الجنوبيين إلى «عدم إعطاء الفرصة للبلطجة لتثبيط عزيمتكم». وناشدهم «احتواء المشاعر والحفاظ على الهدوء»، معتبراً أن «الاحتفال الحقيقي سيأتي في نهاية اللعبة». وأكد أن المفوضية «لن تسمح لأحد بالتبشير بالوحدة أو الانفصال. الحملات انتهت، ولا بد من أن يُحترم هذا». وأشار إلى أن لا نية لدى المفوضية لتمديد الاقتراع، على رغم أنها تملك هذه الصلاحية.
ولفت إلى أن «النتائج لن تعلن فوراً بعد انتهاء التصويت… نجد صعوبة كبيرة في جمع المعلومات من الولايات البعيدة، ويستغرق ذلك وقتاً للوصول إلى جوبا. على الناس الصبر، لكننا سنفعل ما في وسعنا للحصول عليها مبكراً، وبمجرد جمع المعلومات وتأكيدها، سنعلن النتائج الأولية».
ووضعت المفوضية جدولاً زمنياً أعلنته أمس لإعلان النتائج يبدأ على مستوى مراكز الاقتراع في آخر أيام الاستفتاء السبت المقبل، مروراً بإعلان النتائج في المناطق ثم الولايات ثم في الجنوب كله نهاية الشهر الجاري، وصولاً إلى إعلان النتائج الأولية من الخرطوم مطلع الشهر المقبل وتثبيتها في السادس منه.
ولم يتمكن مئات الجنوبيين العائدين إلى مناطقهم من الخرطوم خلال الأسبوعين الماضيين من التصويت بسبب تسجيلهم في الشمال. وقال مادوت إن هؤلاء لن تحل مشكلتهم، «لكنهم قد يعلمون غيرهم، باعتبارهم عاشوا في الشمال، ما إذا كان العيش ضمن سودان موحد ممكناً». وأشار إلى أن «الإقبال في كل ولايات الجنوب العشر كان متساوياً معه هنا».
غير أن مسؤولاً عن بعثة مراقبة دولية أكد لـ «الحياة» أن «الإقبال في الولايات الأخرى أقل من هنا (جوبا)، وإن كان لا يزال مُعتبراً» بالنظر إلى صعوبة التنقل في هذه الولايات. وأضاف طالباً عدم ذكر اسمه: «هناك بعض التجاوزات البسيطة في بعض الولايات، لكنها لا تؤثر على مجمل العملية».
ويتابع الاقتراع نحو 20 ألف مراقب محلي ودولي. وأصدرت بعثات خمس منظمات دولية تراقب الاستفتاء بياناً مشتركاً أمس حضت فيه على «العمل من أجل استفتاء سلمي شامل يحترم حق المواطنين في التصويت بحرية من دون أي خوف أو ترهيب أو قسر أو عنف». ودعت بعثات الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي ومنظمة «ايغاد» و «مركز كارتر لمراقبة الانتخابات»، المفوضية بفرعيها إلى «العمل بشفافية خلال فترة الاقتراع وبعدها… والحفاظ على بيئة سلمية».
صلوات ومسيرات
وعلى رغم انتهاء مهلة الحملات، جابت مسيرات مؤيدة للانفصال شوارع جوبا اتخذ معظمها طابعاً دينياً. ودعا نحو مئتي قس يتبعون «الكنيسة الكوشية» الجنوبيين إلى الانفصال «لتحقيق نبوءة الرب والتحرر من العبودية للعرب والمسلمين».
وشارك رئيس حكومة الجنوب في قداس حاشد أقيم لمناسبة الاستفتاء في «كنيسة القديسة بخيتة» الكاثوليكية في جوبا، حضره كيري ومبعوث البيت الأبيض إلى السودان الجنرال سكوت غرايشن ووفد من كبار أساقفة مجلس الكنائس العالمي وجنوب أفريقيا ونيجيريا وموزمبيق.
واعتبر سلفاكير أن «السنوات الست الماضية (منذ توقيع اتفاق السلام) مرت كأنها ستين سنة بسبب المشاكل الصعبة التي كان علينا حلها طوال الوقت… تم استفزازنا كثيراً للعودة إلى الحرب، لكننا رفضنا الاستفزاز. الآن جاء اليوم الذي انتظرناه، وأعداء السلام يتحرقون لتخريبه».
وأوضح أن قبيلة «المسيرية بدأت قبل يومين مهاجمة الناس في أبيي، لكن تم صدها، وحدثت مشاكل أيضاً في ولاية الوحدة… المعتدون قالوا دائماً إننا سنصبح دولة فاشلة. دعونا نثبت أنهم مخطئون».
و شدد كيري على «الالتزام الأميركي غير المحدود بدعمكم في بناء دولتكم الجديدة». وقال في كلمة اقتبس فيها من الكتاب المقدس لدى المسيحيين بضع مرات: «الإيمان هو الذي جمع الجنوبيين كأمة، وسيستمر هذا. هذه نهاية كفاح وبداية آخر لبناء أمة تعكس القيم المسيحية، وإصلاح أخطاء الماضي».
وبعدما نوّه بـ «الحماس الذي لا يصدق» للجنوبيين في إقبالهم على التصويت، شدد على ضرورة التركيز في «بداية العهد الجديد» على «حل القضايا العالقة مع الشمال، وتسوية القضية الإنسانية في دارفور».
وصدر أمس بيان مشترك عن وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، ووزير الخارجية النروجي جوناس ستور، ووزير خارجية المملكة المتحدة وليام هيغ أعلن فيه الثلاثة ترحيبهم ببدء الاقتراع في استفتاء جنوب السودان. وقال الثلاثة في البيان الذي أُرسل إلى «الحياة» في لندن، إن الاستفتاء «يمثّل خطوة تاريخية نحو إتمام اتفاق السلام الشامل في السودان. ونحن نقدّر التقدم المهم الذي تم إحرازه في الأسابيع الأخيرة نحو التحضير للاستفتاء، بما في ذلك الإتمام الناجح لتسجيل الناخبين وغيره من الترتيبات التقنية. ونرحب بالتقارير الأولية من لجنة الأمين العام للأمم المتحدة الخاصة بالاستفتاء في السودان ومن مركز كارتر والاتحاد الأوروبي ومن بعثات المراقبة الدولية والمحلية الأخرى التي أفادت بأنه قد تم الآن وضع الترتيبات في محلها مما يوفر أساساً راسخاً لإجراء استفتاء موثوق به».
وتابع البيان: «إننا ندعو لبذل كافة الجهود لضمان خاتمة سلمية موثوق بها لعملية الاستفتاء وبأسلوب يعبّر عن إرادة شعب جنوب السودان. وقد بذلت لجنة استفتاء جنوب السودان ومكتب استفتاء جنوب السودان جهوداً هائلة وتحت ضغوط شديدة فاستحقا الثناء والإشادة بعملهما. ونرحب بالقيادة التي أظهرها الطرفان السودانيان. فقد أوضح الرئيس البشير أن حكومته ستحترم نتيجة الاستفتاء. ونحن نرحب بهذا الالتزام».
وتابعوا: «يبقى الوضع في أبيي مبعث قلق عميق. وإننا نشيد بأهالي أبيي لما أبدوا من صبر وأناة في الشهور الأخيرة. والقضايا العالقة يجب أن تحل بأسلوب هادئ ومتزن، ونحن نؤكد للطرفين مرة أخرى مسؤوليتهما في التوصل إلى حل عاجل للمعضلة. والتواصل الصريح حيوي أيضاً لطمأنة الأهالي على أرض الواقع إلى أن هواجسهم ستعالج والتأكيد على أن الأطراف المعنية ستجري مفاوضات في أبكر موعد ممكن. كما أن من الأهمية بمكان أن تجري المشاورات في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان بسرعة وشمول».