جنوب السودان: مستحقات الوحدة وداعي الانفصال
كتبنا في هذا السياق من قبل وقلنا, أن الشعوب التي فشلت العيش سوية, وأخفقت أن تتقدم وتزدهر معاً لا تستطيع أن تفعل ذلك ولو انقسمت أو انفصلت عن بعضها, وأن النخب والقيادات الفاشلة سوف تواصل فشلها في المنظومة الجديدة ما لم تتغير النخب والقادة في المنظومة الجديدة ذلك أن تغيير المفاهيم والتفكير بشكل مختلف ليس بأمر السهل, ولو أدعى بعضهم التغير,” من اجل أن تتغير الأشياء يجب علينا أن نتغير من اجل أن تتحسن الأشياء علينا أن نتحسن,إذا كنت تفعل ما تفعله كل يوم فسوف تحصل غالباً على النتيجة نفسها .
متطلبات العصر تحتم علينا الامتثال لمنطق: ” العسكر إلى ثكناتهم والناس إلى خيارهم أمساك بالمعروف أو انفصال بالإحسان ” لا أحد يستطيع فرض الوحدة بالقوة أو المحافظة عليها بالمراء والخداعة خاصة في دولة القوميات المتباينة التي عانت الحروب والنزاعات , .
السودان بلد إفريقي ومستعرب, متعدد عرقياً, متنوع ثقافياً, مختلف دينياً, متفاوت تاريخياً, متباين اثنياً, متداخل جغرافيا. ذو تاريخ سياسي مؤسف ومرعب, لم يكتب أو يؤرخ كما يجب , أتسم تاريخه بغزو واضطهاد , ومن سوء حظ ممالك أرض السودان آنذاك اعتراها شيء من الضعف والتأخر في عصر الإمبريالية المتوحشة فأصبح لقمة سائغة للقوى الغاصبة ,من شرقية فاسدة قاسية خسيسة, وغربية ماكرة مزدرية حياله ,. تكونت نواة الدولة السودانية في هذا العصر الامبريالي الاستغلالي , الذي لا يعرف حقاً للشعوب المقهورة المستعمرة , كان مفهوم الدولة الذي غرزه المستعمر في أذهان السودانيين أن يكون الحاكم قاسياً ومستبدًا ومنفرداً برأيه وعلى المواطن الالتزام بكل اللوائح والقوانين التي يصدرها الحاكم دون تردد, وإجباريا من دون أي مقابل أو شرط يلتزم به الحاكم ,أنها ضروريات فلسفة السلطة والإدارة في حقبة الامبريالية الدكتاتورية المتوحشة .
ورثت الأنظمة الوطنية التي أعقبت المستعمر كل هذه المفاهيم وأعتبرها البعض مرجعية لتنظيم السلطة وإعادة الترتيب النظام السياسي السوداني دون المراجعة والتمحيص الخلفيات التاريخية والظروف السياسية التي صاحبت تلك المفاهيم , . اتخذت الأنظمة السودانية منطق القوة والاستبداد في حل مشاكلها الداخلية كما المستعمر تماماً , لا تختلف في ذلك الطرق التي اتخذها المستعمر في حل مشكلات داخلية في عصره, فمثلاًً الطريقة التي اتبعها النظام السوداني في قمع مشكلة التمرد في جبال النوبة ودارفور.. لا تختلف كثيراً عن تلك التي اتبعها المستعمر في قمع تمرد الفكي علي الميراوي في الجبال على حكومة الاستعمار, أو تمرد عبد القادر ود حبوبة في الجزيرة , واستخدمت الأنظمة السودانية العسكرية والمدنية على السواء منطق القوة والانتقام في إخماد التمرد في الجنوب وأضافت سبة أخرى على مرارات التاريخ بين الشمال والجنوب وزادت المشكلة تعقيدا .
دعني ارجع إلى عنوان المقال ” مستحقات الوحدة ودواعي الانفصال, ”
هل ينفصل جنوب السودان ؟ سؤال يطرح نفسه على كل سوداني..
ما هي مستحقات الوحدة الجاذبة ؟ سؤال آخر يطرح نفسه !
ما هي الأشياء والمفاهيم والتصرفات التي تجذب الجنوب نحو الوحدة ؟
الإجابة على هذه الأسئلة يتطلب العودة إلى الماضي.., الماضي هو من نحن, فالخطوة الأولى نحو الحصول على مستقبل أفضل هي ببساطة معرفة ماضينا, لا يستطيع احد منا أن يهرب من ماضيه, علينا أن نفهم أن جملة تجاربنا أثرت فينا وأوصلنا ما نحن عليه الآن.
في الحقيقية بدأ تقسيم السودان في نيفاشا , اتفاقية نيفاشا ما هي إلا مشروع لنظامين مختلفين متصلين, إلا أن المفاوضين أرجئوا إعلان الانفصال إلى ما بعد الانتخابات لكي يقرر شعب الجنوب مصيره بنفسه في جو من الديمقراطية وإجماع شعبي وبعد ترسيم الحدود برضا الطرفين تجنباً للحروب والنزاعات مستقبلاً, كما تنبه المفاوضون إلى خطورة إعلان الانفصال في غياب إجماع قومي للقوي السياسية السودانية لأنهما أي طرفي التفاوض لا يمثلان كل الفعاليات السودانية , حزب المؤتمر الوطني الحاكم يمثل الحكومة , والجنوب بقيادة الحركة الشعبية , فلذا كان لابد من أرجاء إعلان دولة الجنوب إلى وقت لاحق حتى تكتمل شرعية النظام في البلاد ’. على أي أساس وبأي حق قسم المفاوضون السودان في نيفاشا ؟ من فوضهم في الأصل بتقسيم الدولة في دهاليز نيفاشا؟
الإجابة:الماضي والتاريخ.., الحرب في الجنوب بعد مجيء ألإنقاذ أخذت طابعاً يختلف تماماً عما كانت عليها في الماضي , كانت المعركة بين الجيش والتمرد , يتم التحريض على القتال باسم الوطن والجندي الشجاع حامي حمى الوطن , ضد التمرد الخارج عن القانون والإجماع الوطني , أما بعد الإنقاذ تحول منطق الصراع إلى هم.. ونحن!, أهلنا.. وأهلهم!, انطلقت الكتائب والمتحركات والمجاهدون والمجاهدات من كل مدن الشمال ورموا ” قدام ” صوب الجنوب , يبحثون عن “مجدنا الآفلة “دارت معارك شرسة ومات مئات الآلاف في أحراش الجنوب , صاحب هذه المتحركات أعلاماً مدمراً, قطع ما تبقى من خيوط التواصل بين الشمال والجنوب ,” هاك من دار جعل..” الليلة يا قرنق..والخ , ” ربنا اغفر لنا خطايانا , ونحن سنغفر لأولئك الذين أخطؤوا في حقنا ”
جاء الحديث عن الوحدة الجاذبة متأخراً وفي ظروف سياسية سيئة للغاية, يتحدث الناس عن الوحدة الجاذبة والبلاد يتمزق ! اندلعت الحرب في دارفور , وبدأت حمى استقطاب القبلي والعرقي والجهوي ,على مستوى الدولة والمجموعات المسلحة التي تقاتل النظام , والمجموعات التي وقعت الاتفاقيات مع النظام الحاكم في السودان ,تبدل الحال إلى الأسوأ , مازال سودان القديم الذي قام بمنطق القوة واضطهاد المواطن ماثلاً وحاضراَ , جزء من المشكلة هو أن المواقف الصعبة أو ألأشياء التي آذت مشاعرنا والاضطهاد الذي عكر صفو ماضينا, كل هذه الأشياء معاً تركت في عقلنا الواعي انطباعاً عميقاً أكثر من التجارب الجيدة , ليست كل تجاربنا فاشلة , ولكن أكثرها غير ناضجة , فلذا لم تحدث اختراقاً أو تغيراً في حياتنا , في مثل هذه الظروف , من يجذب من؟..! أعط الوطن أفضل ما لديك ويمكن إلا يكفي هذا, أعط أفضل ما لديك على أي حال.
مازلنا نتحدث عن الوحدة الجاذبة, ما الفوائد التي يجنيها الجنوبيون من الوحدة في الوقت الراهن؟
ما الأضرار التي يترتب على الجنوب إذا ما قرر مصيره ؟.
ما كان الجنوبيون راضين عن وضعهم في دولة السودان تحت حكم الشمال طيلة نصف القرن الماضي, ليست لأسباب ثقافية أو دينية صرفة كما يعتقد البعض , ولكن السبب الرئيسي هو فشل الأنظمة السياسة والنخبة السودانية في علاج التفاوت التاريخي بين الشمال والجنوب وبعض المناطق في الشمال , كان يمكن علاج هذا الفارق بضوابط وقوانين يحمي المواطن البسيط من الاستغفال والاستغلال من قبل أصحاب التجارب , .مهما أختلف الناس في مرامي ومقاصد قانون المناطق المقفولة الذي أحدثه المستعمر الإنجليزي بداية القرن الماضي في السودان , أيا كان القصد , لحماية المواطن البسيط أو عزله من المحيط واستغلاله كما ظن البعض, فكان سببه التفاوت التاريخي الذي نحن بصدده ,لولا التفاوت التاريخي لما وجد في مجتمعنا عامل الليل ( أبو ريش) ” عذراً القارئ الكريم “.
ماذا نعني بالتفاوت التاريخي ؟ تنمو المجتمعات بتراكم تجارب الأسلاف وتطويرها في مواجهة التحديات التي تستلزم التحريك والتغيير والتجديد والتجويد, فيأخذ سير المجتمع في التقدم نحو شكل من أشكال الحياة المستنيرة التي تمكن أفرادها من تسخير محيطها لتيسير الحياة , وهذا ما نطلق عليه اسم الحضارة أو أفراد المجتمع الحضاري , في المقابل هناك جماعات لم تمكنها التجارب من السير نحو التغير والتقدم ,بسبب ضعف التحدي الماثل أمامهم عبر الحقب كما يقول المؤرخ الإنجليزي الكبير ( جون توينبي), أو بسبب غياب مبدأ التعارض الذي يتكون من قضية ونقيضها في تفسير ( هيجل ) .ما يهمنا هنا التفاوت التاريخي الناتج من التقاء مثل هذين الجماعتين في منظومة واحدة , حتماً يختلف فعالية كل فرد من أفراد المجتمع أمام مشكلات الحياة , ولكن التباين بين المجموعتين يكون أكثر وضوحاَ, أمام هذا التباين يحدث الاستغلال والاستغفال بطريقة أو أخرى , في هذا المضمار استبدل إفريقيون الأوائل الذهب بالخرز في تجارتهم مع أوربيين!! .
أنا لا أقول أن الشماليين استغلوا هذا التفاوت بصورة مطلقة أو بطريقة منهجية بشعة , ولكن سباق الحياة في السودان كان مسموحاً للجميع ومفتوحاً أمام الذين يعلمون والذين لا يعلمون , وبدون أدني اعتبار للتفاوت التاريخي لمكونات هذا البلد المتعدد المتنوع , وفي هذا تكمن سر صراع بين المركز والهامش في السودان , والذي أكره البعض على البحث عن كيان مستقل يعطي اعتباراً لهذا التفاوت والتنوع .
حامد جربو /السعودية
لمزيد من المقالات في موقعنا
Jarbo.110mb.com