ثورة سبتمبر السودانية وشرعية حمل السلاح

سلمى التيجاني
 
 
طالبٌ بالمرحلة الثانوية بزيه المدرسي ملقيٌ على الأرض يسبح في بركة من دمائه وقد صعدت روحه لبارئها مسطرا اسمه في قائمة شهداء ثورة سبتمبر الأبرار، بهذا المشهد كانت الثورة تعلن عن نفسها في ذات الوقت الذي تكشف فيه حكومة المؤتمر عن وجهها الحقيقي الذي اجتهدت في تجميله لقاطني المناطق الآمنة التي لم تصل إليها الحروب بالسودان .
كان سبتمبر من العام الماضي فصلاً ناصعاً من كتاب الثورة السودانية على القهر والظلم والتجويع والإفقار والقتل والفساد، فقد كان رفع الدعم عن المحروقات والسلع الأستهلاكية الشرارة التي فجرت غضبً كامنٌ في الصدورلخمس وعشرين عاما . وبحلول الرابع والعشرين من الشهر كانت الثورة قد عمت أرجاء البلاد وبدأت أعداد الشهداء والجرحى والمعتقلين تتصاعد ويتصاعد معها سخط الشارع السوداني .
كان الوقت صباحاً عندما بدأت أعمدة الدخان وهتافات المتظاهرين تشق عنان السماء بأحد أحياء العاصمة الخرطوم، خرجتُ للطريق العام لأجد تجمعاً كبيرة لسيارات الشرطة على تقاطع شارع رئيسي مع آخر فرعي، كان هناك شباباً يمثلون كل سحنات أهل السودان يحرقون إطارات السيارات وبقايا النفايات، تحاول الشرطة تفريقهم بقذائف الغاز المسيل للدموع فيبادلونها بقذف الحجارة وعبارت غاضبة. وجدت نفسي في قلب التجمع نهتف ضد الغلاء والقتل وننادي بسقوط حكومة (الإنقاذ)، كان رجال الشرطة يستغلون سحب الدخان ليتسسلوا لمكان التجمع ويعتقلوا المتظاهرين، استمر الحال لقرابة الساعة لتفاجأنا الشرطة باقتحام التجمع بالسيارات فتبدأ لعبة الكر والفر، كانت البيوت تفتح أبوابها لاستقبال المتظاهرين وتقدم الماء البارد وقطع القماش المبلل بالماء لتخفيف حدة أثر الغاز المسيل للدموع .
في أماكن أخرى بالعاصمة التقيت شباباً وشابات ينتمون لحزبي الأمة القومي والمؤتمر الشعبي ولتنظيمات شبابية أخرى يقومون بأدوار كبيرة في حصر أعداد الشهداء ومتابعة علاج الجرحى ومعرفة أماكن المعتقلين، كانوا يبذلون جهداً كبيراً في ظروف صعبة ووضع أمني دقيق وبمبادرات ذاتية، وكان السؤال الذي يطرح نفسه أين تنظيماتهم والتنظيمات السياسية الأخرى التي اختارت المعارضة السلمية طريقاً لإسقاط النظام، وما الذي تنوي فعله وما هي خياراتها بعد ان تقدمها الشارع وقاد نفسه بنفسه لعدة أيام، فبعد استخدام الحكومة الذخيرة الحية لفض المتظاهرين كان الشارع يحتاج لمن يتقدمه ويعيد تنظيم صفوفه. كنا نسمع أثناء التظاهرات أن تنسيقاً تم بين تنظيمات سياسية شبابية سيُعلن عنه قريباً وأن خطة استمرار الثورة قد اكتملت وما على الشباب إلا الإستمرار في الخروج إلى الشارع .
الحكومة وفي سعيها للتعامل مع ثورة الشارع السوداني يبدو أنها قد بنت استراتيجيتها في التصدي للمتظاهرين على عدة تكتيكات: كان أولها الإعتماد على قواتها الخاصة بدلاً عن قوات الشرطة، ربما لأنها أكثر ثقةً في قواتها أو أن هذه القوات مدربة لمثل تلك الظروف، احياناً يأتون لتفريق المظاهرات بزي الشرطة وفي أحيان أخرى بزي القوات الخاصة (الصاعقة).
الثقة التي كانوا يطلقون بها الرصاص والإصابات القاتلة للمتظاهرين بالرأس والصدر تؤكد أنهم قد تلقوا أوامر بذلك، ورغم ارتفاع أعداد الشهداء الذي وصل في بعض الروايات لأكثر من مائتي شهيد وشهيدة وبرغم إدانة المجتمع الدولي لاستخدام القوة المفرطة لفض المتظاهرين إلا أن الحكومة كانت غير آبهة، فهي تعلم أن المجتمع الدولي بقواته المشتركة ومحكمته الجنائية لم يستطع وقف القتل اليومي بدارفور والنيل الأزرق وجبال النوبة، فكانت تمارس سياسة التصالح مع الذات، فإن تقتل نصف مليون لن تأبه بأن تضيف لها مائتي روح أخرى . يدفعها لذلك الهلع الذي أحست به من هبة الشعب السوداني وشجاعة وثبات المتظاهرين أمام الرصاص الحي .
التكتيك الثاني الذي اعتمدته لوقف هدير المتظاهرين هو سلاح الشائعة المغلفة بالعنصرية وإثارة الرعب من أهل الهامش ونواياهم تجاه مواطني بقية السودان، فبعد دخول حركة العدل والمساواة للخرطوم في أيار/مايو 2008 م أصبحت الحكومة وبعد أن أعملت آلتها الإعلامية لإلباس الحركة ثوب العنصرية واستهداف أهل الشمال أصبح الأمر كقميص عثمان ترفعه كلما أحست بالخطر . فكان أن بثت بين المواطنين إبان ثورة أيلول/سبتمبر أن هذا التحرك عنصري وأن وراءه حركة العدل والمساواة وغرضه خلق بلبلة بين المواطنين واستهداف أهل الشمال وأن الشهداء سقطوا برصاص أفراد تابعين للعدل والمساواة تسللوا وسط المتظاهرين.
المرة الأولى التي سمعت فيها هذا الحديث في متجر لبيع اللحوم في أحد أحياء العاصمة حيث دخلت سيدة وهي تخاطب الموجودين بألا يسمحوا لأبنائهم بالمشاركة في المظاهرات لأن (ناس خليل) وسط المتظاهرين وقد جاءوا لقتل المواطنين .
ثم تفننت الحكومة في استخدام سلاح العنصرية بطريقة تؤكد أن تطاول فترة حكمها قد مكنها من السيطرة على هواجس البسطاء من المواطنين، وذلك بإقناعهم بأن اللون هو أساس التمييز بين الناس وأن الأغمق منك لوناً (الأسود) هو حتماً عدوك الذي يتربص بك الدوائر ويبحث عن سانحة لإيذائك، ففي الخامس والعشرين من أيلول/سبتمبر الماضي ذهبت برفقة الصحافية فاطمة غزالي وبعض الشباب للمشاركة في تشييع شهيد بأحد مقابر أمدرمان، وجدنا موكب المشيعيين قد غادر فأستوقفنا رجل ليقول لنا أن شهداءأمدرمان كلهم من الشماليين (أولاد العرب) كما قال، لأن الحكومة أرسلت لهم عساكر من أبناء الغرب فلم يترددوا في قتلهم، كانت رائحة العنصرية أقوى من احتمال المجموعة التي أتيت برفقتها، فهم ينشدون التغيير لشعب لا زال بعض أفراده يردد ما تقوله الحكومة وتنطلي عليه ألاعيبها، وإن كان الأمر لا يخلو من شبهة خبث وقصد، فالذي دفع الرجل لقول ما قال هو أن الحكومة قد اختارت عساكرها على أساس عنصري لتؤكد للناس أن من قتلكم هو الآخر ونحن أبرياء .
في يوم الجمعة السادس والعشرين من سبتمبر الماضي كنا قد التقينا بمجموعة من الشباب لقاءً عفويا قررنا فيه الخروج من أحد المساجد الكبرى بعد صلاة الجمعة، اتفقنا على خط سير التظاهرة ونقاط تجمع المتظاهرين، حاولنا تجميع المصلين دون جدوى إلى أن انبرى أحدهم ليقف في منتصف شارع الأسفلت ويبدأ بالهتاف (لا لا للغلاء) وانطلقت التظاهرة وبدأت أعدادها في التزايد.
وفجأة انفتح بابٌ من جهنم فقد حاصرتنا سيارات لاندركوزر قادمة من جانبي الطريق بسرعة جنونية عليها رجال يرتدون زي الصاعقة يحملون بنادق ومسدسات ويطلقون الرصاص في الهواء، مشهدٌ لم تشهده الخرطوم من قبل، أو على الأقل لم يشهده سكان الخرطوم في عهدها الحديث، ثم بدأوا في إطلاق رصاص مطاطي على المتظاهرين واختطاف من سقط على الأرض ليضعوه على سياارتهم . سادت الفوضى وبدأ الناس في الإحتماء بالطرق الجانبية الضيقة وتسوروا المنازل هربا من جحيم رجال الصاعقة.
٭كاتبة سودانية مقيمة في لندن
القدس العربي

 
 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *