تَدْجِين جُمْهُوْرِيَّة الِانْقَاذ الْثَّانِيَة

تَدْجِين جُمْهُوْرِيَّة الِانْقَاذ الْثَّانِيَة
 خالد عثمان*
مثِّلِ  إنتهاء حُقب الحكم الشمولي في الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية ، وتجاوز فترة الحرب الباردة مرحلة جديدة في تاريخ الانسانية ، كان قد بشر بها فرانسيس فوكويوما الذي أحتفى بنهاية” العقيدة” (
Ideology ) في تحفته”نهاية التأريخ” والذي تنبأ فيه بإعتناق العالم لأنظمة الديمقراطية اللبرالية والاقتصاد الحُر. وبينما العام يتجه نحو الانفراج ، أتت الانقاذ لتحكم السودان شمولياً (Totalitarian)، لتحول كل طبقات الشعب الي جماهير ( Masses ) تخدم توجهات الحزب الحاكم ، و سعت لتوطين وتمكين حكم دكتاتوري مستبد واستعانت ببعض أدوات النازية في غسل أدمغة الشعب السوداني عبر الاناشيد الجهادية والبرامج الحماسية  ، واستعانت ايضا  ببعض أساليب الانظمة الشيوعية في خلق الزعيم المفرد، الذي أصبح في نهايات المشروع الاسلاموي يمثل اللحمة الوحيدة التي تضمن إستمرار حكومة الانقاذ، واصبح ورطتها أيضاً. 

عندما انقلب العميد عمر حسن أحمد البشير على الحكم الديمقراطي  استعان  ببعض العسكر المغامرين ليحظي بالاعتراف الاقليمي ، فوجود الزبير محمد صالح وسليمان محمد سليمان مثلا طمأن المخابرات المصرية التي سارعت بالتأيد وروّجت للعهد الجديد، وكانت الانقاذ قد بنت منظومة الجبهة الاسلامية القومية بعد سقوط مايو ، وجمعت حولها التنظيمات السلفية والطرق الصوفية في مسعاها لاحداث إختراق عبر صناديق الاقتراع ولكن فشلت في الحصول على المقاعد البرلمانية عبر الدوائر الجغرافية ، بينما تسللت وحصلت على نيف وخمسون مقعدا من دوائر الخريجيين في الجمعية التأسيسية.

هذه  المنظومة ( System ) التي أغتصبت الحكم  تكونت من مركز تحيط به عدة دوائر كانت تكبر الي الخارج  ( Subsystems )، وكانت هذه المنظومة تدور حول المركز (core ) الذي يديره فكر ومزاج الدكتوروالمرجع الديني حسن الترابي ، وكان يحيط به مجموعة الافراد شديدي البطش مثل الرائد  براهيم شمس الدين، كان ذلك المركز المهووس مستعداً لفعل أي شئ ، وفي سبيل ذلك الهدف الرسالي كما يعتقدون، كانوا يزهقون أرواح المسلمين ، فقضي على ايديهم راسخ وفضل ومجدي وجرجس القبطي ، وكانت الانقاذ مستعدة لقتل أي شخص يفكر في تحدي سلطتها فأعدمت 28 ضابطاً سودانياً بدم بارد، حينها كانت الانقاذ أيضاً تخطط وتعقد المؤتمرات وتحاول بناء السودان معتمدة فقط على الاسلاميين مع عزل واستعباد كل اصحاب الكفاءآت من غير المنضوين  تحت تلك المنظومة الامنية.

مع ذهاب الدكتور الترابي في رمضان2000 ، حلّ  البشير ونافع محله في ذلك المركز المتشدد ، وانشطرت الحركة الاسلامية فذهب مع الترابي من ذهب ، وبقى اصحاب المصالح مع طه والبشير وهنالك أغلبية صامته الي حين، وحتي يتم الحفاظ على الدوائر التي تحيط بالمنظومة تم الاستعاضة عن الخطاب الاسلامي الجهادي بالهبات المالية والترضيات الوظيفية، وجاءت مأساة دارفور كأكبر معضلة تهدد وجود تلك المنظومة لانها ضيقت الخناق على البشير مركز التطرف  والتشدد الآن ، ومع ذهاب الجنوب تفقد الانقاذ الدعم الامريكي الذي ارتبط بالمصالح الاستراتيجية لتلك الدولة العظمى ، وتم التصالح مع جبهة الشرق التي لازالت تغلي حتى الأن، وسيضطرب الشرق عما قليل بسبب النزاع الارتري المصري مع اثيوبيا بسبب سد الالفية.
اذن تواصل الحركة الاسلامية النزيف  وتفقد عضويتها وابنائها ، وتفقد الدوائر والحلقات التي من حولها ، ليبقى فقط المركز المتشدد والمنتفعين ، وستفشل تلك المجموعات  المهووسة التي أنقلبت على شيخها ومفكرها في البقاء كنظام متماسك بسبب تضارب المصالح الذاتية والشهوات، وتظل اغلبية افراد الحركة الاسلامية وعضويتها التي تم  تجنيدها في المدارس والجامعات في انتظار قيادات جديدة بعيدة عن تلك الزمر الفاسدة، لتعصف شعبياً أو عسكريا بالمركز المتشدد.

بالرغم من ان التغييرات الاقليمية  تسير في صالح الحركات الاسلامية  ومع ضعف المعارضة الشمالية ، لن تتمكن الانقاذ من تنفيذ مخطط جمهوريتها الثانية  لفقدانها للسند الشعبي ولانسحاب عدد كبير من الناشطين الذين تم استباعدهم أو حشرهم في مكان ما، ولكن السؤال المهم ما ذا سيفعل المنهزمين في الصراع الاسلامي الاسلامي، بالتأكيد لن يرضخ هؤلاء وسيرجعون الي القاعدة للحصول على الشرعية ، فمثلا قوش و اللواء حسب الله ومن معهم سيواصلون استقطاب الاسلاميين المستنيرين من أجل ضخ حركة فكرية تشجع الحوار وتمهد لثورات على غرار الهبّات  المصرية والتونسية. ولاننسى ان للمنسحبين والمبعدين، متعاطفين معهم في دوائر صنع القرار وفي الاجهزة الامنية والجيش .

اذن التغيير و الخطر على النظام لن يأتي من قبل المعارضة والاحزاب التقليدية فقد أتضح جلياً أنها عاجزة عن حشد الشارع، مع ضعف التنظيمات النقابية وأدلجة الجيش. سيأتي التغيير من داخل الحركة الاسلامية نفسها بنسخة متصالحة مع قواعدها ومع محيطها الاقليمي، سيأتي من الحركة الاسلامية التي أثبتت برغم سلبياتها الكثيرة انها الوحيدة القادرة على إحداث المفاجآءت، وانها الوحيدة القادرة على تقديم القيادات الجديدة ،  وستكون هنالك جمهورية اسلامية ثانية  تحتشد حولها حلقات  أخرى، فما حدث مع الشيخ حسن الترابي يمكن ان يحدث مع البشير ونافع، وقد يكون تسليم البشير للمحكمة الجنائية الجنائية  أو التخلص منه هو المفتاح لإعادة تشكيل تنظيم ومستقبل الحركة الاسلامية السودانية والتي ستستمر في حكم السودان الشمالي الي حين.

• رئيس تحرير صحيفة المهاجر السودانية الاسترالية
• بكالريوس الاقتصاد ، جامعة الخرطوم 1984
• مدير مركز تدريب المهارات الفنية – كوبرق- فكتوريا أستراليا
 [email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *