ترف الاحتفال بذكري 1956 المسمي بالاستقلال في السودان، ما مغزاه وجدواه؟

ترف الاحتفال بذكري 1956 المسمي بالاستقلال في السودان، ما مغزاه وجدواه؟
تاج الدين عبدالله
في الخامس عشر من شهر اغسطس سنة 2008 وجهة رئيس الوزاء الهندي مانموهان سينغ خطابا لشعبه بمناسبة مرور 61 عاما منذ خروج الانجليز من بلاده الذي يصادف نفس التاريخ من العام 1947، وذكر فيه عبارات مقتضبة اصابت الجميع بالذهول ولكنها كانت دقيقة ومعبرة نال بها اعجاب شعبه واحترام العالم له، اذ قال: “ليس هناك ما يجعلنا  نفرح ونحتفل به في هذا اليوم  بل يجب علينا ان نحزن لان عشرات الملايين من المواطنيين الهنود ما زالوا يعانون من الفقر والمرض والحرمان من التعليم بعد 61 عاما من اخلاء الجنود البريطانيين للهند، هذا فشل وليس مدعاة للفخر”

هكذا يقول رئيس وزراء الهند البالغ عدد سكانها مليار و200 مليون نسمة، المنتخب ديمقراطيا من شعبه (توصف ديمقراطية الهند بانها الاوسع والاشهر في العالم ) ويحتل اقتصاد بلاده المرتبة العاشرة حسب تصنيف صندوق النقد الدولي، اذ يعتبر احد اسرع الاقتصاديات نموا في العالم برأسمال يبلغ 4.469 تريليون دولار، هذا فضلا عن التقدم الهائل في مجال التكنولوجيا والانتاج والتنمية البشرية، وتتطلع الهند لان تكون اول بلد نامي تقدم التأمين الصحي لكافة مواطنييها بغض النظر عن دخولهم بعد عشر سنوات من الان، ويشمل ذلك تغطية الدولة لنفقات العلاج الباهظة كزراعة الاعضاء واجراء عمليات القلب والمخ، وغيرها  وتسعي لنقل هذه التجربة  بعدها الي افريقيا (تحقيق التنمية البشرية من خلال توفير التأمين والدعم الصحي للفقراء). والهند من الناحية السياسية مرشحة بقوة للحصول علي مقعد دائم في مجلس الامن بجانب البرازيل،وهي الدولة التي هرول اليها الرئيس اوباما في اول زيارة له لآسيا بعد انتخابه بفترة قصيرة.
لكن بعد كل هذه الانجازات والريادة التي حققتها الهند،  يقول رئيس وزرائها بانه حزين وان ساعة الفرح والاحتفال لم يحن بعد!! اما في السودان  فاننا نعيش وهم الابتهاج  بذكري تسمي باطلا  (بالاستقلال) والاحتفال به من خلال مهرجانات الافراح والتباهي الفارغ دون ادني وقفة مع النفس لتدبر مغزي هذا الفعل الجماعي الذي يعتبر مسبة  واهانة في حق الملايين من البشر الذين تعرضوا  للموت والتشرد وهضم الحقوق بسبب هذا (الاستقلال) منذ تلك اللحظة التي تم فيها تبديل علم الامبراطورية البريطانية  المعروف باليونين جاك بقطعة قماش اخري تم رفعها فوق قصر الحاكم البريطاني بشارع النيل بالخرطوم. الواقع المعاش يقول ان استقلال السودان  بالشكل الذي تم به، والطريقة التي مورس بها الحكم  علي اساسه من خلال التحكم في مصير السودان تحت غطاء شرعيته المزعومة، لم يكن ليؤدي بنا الا الي الكوارث التي نعيشها اليوم من تفتيت للبلد، وسفك لدماء اهله واستغلال الدولة وامكانياتها حصريا من قبل احفاد من سموا بالرعيل الاول من الجلابة الذين تؤاطوا مع الانجليز في حكم السودان ومن ثم عقدوا صفقة استلام السلطة منهم تحت مسمي الاستقلال وباسم السودانيين زورا وكذبا. هذه  الصفقة خدعت الساسة الجنوبيون وقتها ووقعوا في شراكها حينما وعودوهم بالفدرالية  ونكسوا عنها ليدخل الجنوبيون بعدها في سلسلة من حروبات التحرر والانعتاق  اهلكت حرثهم ونسلهم منذ 1955 حتي 2005 ليحتفلوا باستقلالهم الحقيقي بعد 55 سنة من الاستعمار الداخلي.  اما غالبية السودانيين من اهل المناطق الاخري في الوطن العريض فقد خرجوا من المولد بلا حمص، وتم استثناءهم  من اي ترتيب سياسي يخص مستقبل السودان. ان اهل الشرق و الغرب ودارفور بشكل خاص قد دفعوا ثمنا غاليا  بسبب نصرتهم المهدي وقتالهم الانجليز بالاضافة لتأييد السلطان علي دينار لتركيا ابان الحرب العالمية الاولي علي حساب بريطانيا.
لو اتفقنا ان  الاستقلال في جوهره يعني فقط تحرير الانسان من القهر و الظلم والاضطهاد بمحاربة كافة اشكال التمييز والاعتراف بانسانيته  وكينونته من حيث هو انسان بغض النظر عن الاصل اوالعرق والدين، ومن ثم تحقيق العدالة والمساواة بين الناس علي هذه الاسس، فان السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو: هل تم ارساء هذه القيم في السودان او انجاز شيء منها؟ كلا، لان مؤشرات الواقع الماثل امامنا كلها تقول عكس ذلك. بل ان المستعمر البريطاني الذي يحتفل(بضم الياء) بخروجه باقامة مهرجانات الرقص والغناء كان اكثر حكمة وانصافا من ورثته من ناس “جدودنا زمان وصونا علي الوطن”  وينطبق علي سنوات حكمه المثل السائد (عدو عاقل خير من صديق جاهل) فهذا العدو العاقل هو من بني المدارس والمستوصفات في قري الريف النائية، وانشأ محطات المياه (دوانكي المياه التي تقف حتي اليوم شاهدة بمناطق كردفان ودارفور) وحافظ علي نظم الادارة الاهلية التي وجدها قائمة في مناطق السودان المختلفة،  قبل ان ينقلب عليها نميري بهبالة ويلغيها(دون ان ياتي بالبديل) ويجهز عليها نظام البشير برعونته المعروفة. يضاف الي حسنات هذا العدو العاقل بناء السكك الحديدية وربط اطراف السودان المترامية ببعضها البعض، وارساء نظام عتيد للخدمة المدنية وقضاء مستقل واقامة مؤسسات تعليمية بمناهج متطورة اتاحت الفرص للشرائح الضعيفة وانسان الريف لنيل حظهم من العلم والمعرفة.
الواقع المرير الذي افرزه سودان ما بعد الاستقلال وما صاحبه من فشل زريع في كافة مستويات الحياة جعل حتي الانقاذ تدعي بان الاستقلال الحقيقي للسودان بدأ بمجيئها هي الي السلطة.. وكما يقال “الشينة منكورة” فالذي حدث بعد الاول من يناير 1956 ليس استقلالا باي حال من الاحوال. فقد تم رهن مصير السودان لارضاء اهواء ايديلوجيا شاذة ومتطرفة، غريبة عليه ، وتقطيع اوصاله وبيعه بالجملة والقطاعي للنظام العربي الرسمي وتوجهاته الامبريالية. ان اذلال شعوب السودان، والتنكر لثقافاتها ومعتقداتها  واحتقارها في ذاتها  حد الابادة الجماعية ونهب ثرواتها، كلها جرائم تتحملها هذه الايدلوجيا المتطرفة  ودولتها غير الشرعية التي تحاول تسويقها للناس باسم هذا الاستقلال الذي هو بمثابة سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء. يجب ان تكون هذه المناسبة (ذكري 1956 ) احياء ذكري بمعني (كوموموريشن بدلا من سليبريشن)  من اجل الوقوف علي الكوراث والمآسي التي خلفتها بنفس  الطريقة التي يتذكر بها  الاروبيون مآسي حروبهم ويتضامنون مع ضحاياها ويتعهدون بعدم تكرارها ، وكما يفعل الروانديون في تذكر ضحايا المذابح من التوتسي والكوسوفيون مع موتاهم  الذين حصدتهم آله العنصرية الصربية والامريكان مع ضحايا الحادي عشر من سبتمبر واليهود مع قتلاهم في الهولوكست. فتاريخ السودان ليس فيه ما يدعو للتفاخر والاحتفال به، فهو البلد الوحيد الذي يمجد تواريخ من مارسوا ابشع المهن علي سطح الارض وهو الاتجار بالبشر، كالنخاسي الزبير باشا علي سبيل المثال. اليس من المخزي حقا  ان يتم حرق مئات البشر من المواطنيين الجنوبيين احياء بعد شحنهم في عربات القطار وقتلهم بدم بارد في هلوكوست العصر الحديث في السودان سنة 1987 في الضعين تحت سمع وبصر السلطات ولا يتذكرهم احد الي اليوم؟ هذا في الوقت الذي يتغني فيه احفاد الزبير باشا (بامجاد ) جدهم؟ في مذبحة الضعين مواطنون سودانيون اصلاء نضجت جلودهم  بالنار في افران من حديد وحرقوا كما تحرق النفايات مع انهم بشر. اولئك البشر من النساء والاطفال وكبار السن لم يجدوا  من يقف معهم ويتضامن مع انسانيتهم حتي بمجرد ذكري توقد فيها شمعة او تهدي لهم فيها دقيقة صمت! لنغض الطرف عن ماساة  دارفور  وجنوب كردفان والنيل الازرق وما جري في الجنوب من قبل ونتمعن في هذا، الم يعتبر هذا تجسيد كامل لغايب الانسانية والضمير في السودان. بل اننا في السودان بالكاد نعرف مغزي او حتي مجرد معرفة عبارة احياء ذكري بهدف التضامن، لا في ادبيات اهل الصحافة او الساسة وحتي الاكاديميين، فهذه الكلمة لا توجد في قواميسنا:
Commemoration
التحية في هذه العجالة وكل الاحترام  في هذا المقام للدكتور سليمان بلدو ابن كردفان الاشم الذي فقد منصبه بجامعة الخرطوم عندما فصل مع زميله عشاري بسبب توثيقهما لهذه الجريمة في  كتابهما “مجزرة الضعين وانتهاك حقوق الانسان في السودان”  والدكتور بلدو هو الان مدير مركز العدالة الانتقالية بواشنطن، وكل دعواتنا له بالتوفيق.
ان اكثر ما يجعل مناسبة 1956 ذكري عقيمة  وفارغة لا قيمة لها، بل مزيج من التراجيكوميديا هو ما ظلت تفعله حكومات الخرطوم من عروض عسكرية واظهار قوة السلاح الذي ظل دائما مصوبا علي صدور الشعوب السودانية، ونذكر فقط هنا بان  الجيش في السودان لم يطلق رصاصة واحدة ضد عدو خارجي منذ (خروج المستعمر) ولكنه قتل وشرد الملايين من المواطنيين السودانيين وما زال، وتلك هي مفارقة المفارقات. اما المؤتمر الوطني زاد علي ذلك هذا العام وحول المناسبة كلها  الي حفل احتفال وابتهاج  باغتيال الدكتور خليل ابراهيم، عليه رحمة الله. ونظم مهرجانات الفرح من الخرطوم الي بريطانيا مستخدما ذكري (الاستقلال) قناعا زائفا. في مدينة بيرمنجهام ثاني اكبر المدن البريطانية بعد لندن، اجتمع حشد من عناصر  وانصار النظام من الذين تسللوا في غفلة من الزمان الي المملكة المتحدة بدعوي اضطهادهم من قبل نفس النظام الذي يناصرونه الان، بهدف التشفي والشماتة في مقتل انسان. لكن الاشاوس  من الشباب كانوا لهم بالمرصاد عندما باغاتوهم في عقر دارهم وفضوا جمعهم في لمح بصر وبقية القصة معروفة.  هرجلة (الاستقلال) هذه لم يدعها وزير دفاع النظام التي تطارده تهم المحكمة الجنائية بارتكاب جرائم حرب في ان تمر مرور الكرام، اذ  اكد بان للجيش ترسانة محلية من الاسلحة تغنيها عن الاستيراد، وما كذب الوزير الهمام، حيث قامت طائراته الحربية بقصف مخيم للاجئين قرب الحدود الفاصل مع الجنوب يوم الاثنين 23 يناير مما تسبب في اصابة فتي وفقد 14 شخص حسب مفوضية الامم المتحدة لشؤون الللاجئين.
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *