ترجمة التحقيق الأول لمجلة “فورين بولسي”: جنود اليوناميد في دارفور وقفوا متفرجين فحسب
تقرير خاص لمجلة (Foreign Policy):
الجزء الأول: وقفوا متفرجين فحسب
الجزء الثاني: الآن سوف نقتلكم
الجزء الثالث: البعثة التي أسست لكي تفشل
بعد الإبادة التي حدثت في دارفور أرسلت الأمم المتحدة عشرين ألفا من جنود حفظ السلام من أجل مهمة واحدة، وهي حماية مدنيي دارفور. تحقيق (فورين بوليسي) يعالج أسباب فشل البعثة، وما تعرفه الأمم المتحدة حول هذا الفشل.
الجزء الأول:
وقفوا متفرجين فحسب
بقلم كولم لينش
ترجمة:صلاح شعيب
في الساعة السادسة والعشرين دقيقة من يوم 24 مارس 2013 أوقفت مجموعة من الرجال يرتدون الزي الرسمي، ويمتطون عربة لاندكروزر، قافلة لقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، والاتحاد الأفريقي. كانت تلك القافلة ترافقها ثلاث حافلات تضم بعض نازحي دارفور الذين كانوا في طريقهم لحضور مؤتمر للسلام.
قائد القافلة الملازم باولينوس ايفياني ننادي ظن مخطئا أن الرجال المدججين بالسلاح جنود تابعين للحكومة، فترجل من سيارته المدرعة للتحدث معهم للسماح لمركبات القافلة لمواصلة مسارها. وبينما كان ننادي يتوجه نحو السيارات المتعددة الاستخدام أحاطت بالجمع خمس شاحنات محملة بالمسلحين المقاتلين.
قسم الدم: داخل ورطة الأمم المتحدة في دارفور
صعد المتمردون إلى الحافلة، وأمروا السائقين بمتابعتهم بعيدا عن الطريق الرئيسي. وهكذا اقتيد الأسرى إلى معقل المتمردين المعارضين لمؤتمر السلام، ثم سرقوا هواتفهم المحمولة، وحقائبهم، وملابسهم، وساعاتهم، ونقودهم. ثم تم تقسيمهم إلى مجموعات من الرجال والنساء. ووضعوا في زنزانات صغيرة، وتعرضوا، وفقا لإفادات عدد من الضحايا، إلى الضرب. وبعد ستة أيام أطلق المتمردون سراح الأسرى الذين تسلمتهم اللجنة الدولية للصليب الأحمر.
روى ننادي قائد قوات حفظ السلام في وقت لاحق لمحققي الأمم المتحدة أن قواته حاولت منع الخاطفين من أسر المدنيين. رغم ذلك قال الضحايا وسائقو الحافلات إنه تم تسليمهم للمتمردين دون قتال. وقال بعضهم إنهم رأوا حتى جنود الأمم المتحدة يرفعون أيديهم في إشارة للخاطفين للرضى بما فعلوا حينما كانت الحافلات على وشك متابعة القوة المتمردة. أحد سائقي الحافلات قال إن جنود قوات حفظ السلام التابعين للامم المتحدة “لم يفعلوا شيئا” لحمايتهم.
وأشار تقرير عن تقييم لهذه الحادثة من طرف مسؤولين آخرين تابعين للأمم المتحدة في وقت لاحق “إن قوات حفظ السلام لم تبذل أي جهد مرئي لمنع خطف النازحين المشاركين في المؤتمر أثناء مرافقة قافلة يوناميد لهم”. وأضاف في هذا التقرير الذي لم يتم نشره “لقد وقفوا يتفرجون فقط بينما قاد المسلحون الحافلات التي تقل النازحين بعيدا نحو معقلهم”.
إن تفاصيل الخطف الجماعي الذي تم يوم 24 مارس، والتي لم يتم الإفصاح عنها علنا من قبل الأمم المتحدة، مثل نكسة مهينة للقوات المختلطة المكونة من الاتحاد الإفريقي، والأمم المتحدة في دارفور (يوناميد )، فالقوة المحاصرة التي تمولها الأمم المتحدة كانت مؤسسة لحماية المواطنين في دارفور من تجدد الإبادة الجماعية التي احتدمت في المنطقة في السنوات السابقة. ولقد أدت إلى مقتل أكثر من 200،000 قتيلا.
هذه القوات المكلفة بحفظ السلام، على الرغم من هذه الحقيقة، تم تخويفها من قبل قوات الأمن الحكومية والمتمردين معا، وبسبب الإهمال الأمريكي والغربي تُركت من دون أسلحة ضرورية للقتال في منطقة قُتل فيها أكثر عدد من قوات حفظ السلام من أي بعثة حفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في العالم. العنف الذي استهلك دارفور، وفي الوقت نفسه، عاد بضيم، نتج عنه سقوط ضحايا من المدنيين، ونزوح واسع النطاق للرجال، والنساء، والأطفال المذعورين.
مجلة (Foreign Policy) معتمدة على مجموعة هائلة وقيمة من الوثائق السرية للغاية الخاصة يوناميد – بما في ذلك آلاف الصفحات من رسائل البريد الإلكتروني، وتقارير الشرطة، والتحقيقات الداخلية، والبرقيات الدبلوماسية، تنشر على مدى الأيام الثلاثة المقبلة سلسلة من المقالات التي تسلط الضوء حول كيف أن مقاتلي دارفور، وخصوصا الحكومة السودانية، قد حيدوا فاعلية مهمة بعثة حفظ السلام، وقوضوا قدرتها على القيام بواجبها الأساسي لحماية ما يقرب من 2 مليون مدني نزحوا إلى أرجاء السودان بسبب الإبادة الجماعية . فخلال السنة الماضية وحدها تدفق بالفعل أكثر من 500،000 من الرجال المذعورين والنساء والأطفال نحو معسكرات اللاجئين المكتظة في المنطقة.
عائشة البصري، المتحدثة السابقة باسم بعثة يوناميد، قدمت لـ(Foreign Policy) وثائق للفت الانتباه إلى ما تعده قصورا في اداء اليوناميد، وعدم رغبة البعثة في تحميل الخرطوم مسؤولية الاستهداف المتعمد للمدنيين في دارفور، وقوات حفظ السلام المختلطة في دارفور.
الوثائق – التي تغطي الفترة من عام 2012 حتى نهاية عام 2013 تشكل ربما أكبر تسريب في تاريخ الأمم المتحدة لوثائق داخلية تابعة لمهمة سارية تخص المنظمة الدولية. كتبت البصري التي تحمل الجنسيتين المغربية والأميركية في شهر مايو الماضي عند انتهاء مهمتها مع البعثة بعد أن استقالت منها احتجاجا على فشلها: “فمن الإنصاف أن نقول إن قوات حفظ السلام يوناميد فشلت في حماية المدنيين في دارفور إلى حد كبير، ولم يسهم وجودها في ردع، سواء الحكومة، أو المتمردين، دون مهاجمة المدنيين”. وأضافت “أنهم في بعض الأحيان يراقبون بلا حول، ولا قوة..بعض الهجمات والمضايقات التي يتعرض لها المدنيون حدثت بالقرب من مواقع فرق يوناميد”.
مسؤولو الأمم المتحدة صرحوا أن عملية دارفور معيبة للغاية. فإدارة البعثة، المكونة من قبل الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي، قد تعثرت منذ ولادتها بواسطة مجموعة من المعوقات: رؤى متضاربة لدورها بين عزم صانعي القرار في مقر الأمم المتحدة وعزم القادة الأفارقة، عدم تعاون الحكومة السودانية، القيادة الإدارية الفقيرة؛ والقوات التي تفتقر بشدة إلى المروحيات، والشاحنات، والمعدات العسكرية الأخرى اللازمة للقيام بدوريات في منطقة شاسعة بحجم فرنسا.
وفقا لـ(مراجعة الاستراتيجية) التي صدرت في شهر فبراير بواسطة إدارة عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة فإن “فعالية [يوناميد] مقيدة بشدة بسبب القيود المفروضة على مهمتها، خصوصا مكوناتها، والقيود على حركتها، والنقص في القدرات التشغيلية للعديد من وحدات جنودها وشرطتها”.
وفي تصريح لـ(Foreign Policy) قال أكبر مسؤول عن إدارة قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وهو دبلوماسي فرنسي سابق، يدعى هيرفي لادسوس إنه “ليس سرا أن العلاقة مع الحكومة تواجه تحديات على الدوام”.
وكتب يقول: “في كل مهمة هناك توتر بين ضرورة الحفاظ على الموافقة وحسن النية المطلوبة من الحكومة المضيفة للسماح لقوات حفظ السلام بالقيام بعملها، ليقرروا بدقة وصراحة بشأن جميع حوادث العنف”. “العلاقات السيئة مع أي حكومة مضيفة يمكن أن تجعل من المستحيل على بعثة التحرك عمليا في جميع أنحاء البلاد ، وتحرير اجهزتها من الجمارك، إلى نشر أفراد جدد”.
ويقول بعض المسؤولين إن إخفاقات البعثة غير قابلة للإصلاح، ولكن القيادة السياسية في العواصم الأفريقية ومجلس الأمن ترى أنه من غير المحتمل إنهاء عملها، في وقت يتصاعد العنف في دارفور”. وتبعا لذلك قال دبلوماسي في الأمم المتحدة:” ذلك الوضع يتطلب منهم أن يتخذوا قرارا حول البعثة”.
ويقول آخرون إن يوناميد – بالرغم من المثالب والقصور تمثل أمرا حيويا لصالح المدنيين في دارفور والذين هم الأكثر عرضة للخطر”. “حل مشاكل السودان لا يمكن إن يتم بواسطة بعثة حفظ السلام التابعة للامم المتحدة..” قال ذلك برينستون ليمان، المبعوث الخاص السابق للرئيس باراك أوباما إلى السودان في مقابلة. وأضاف:”ولكن أخاف على وضع الناس في معسكرات اللاجئين إذا سُحبت بعثة يوناميد..إنهم سوف يفتقدون مطلقا أي حماية. ولا يبقى من الواضح الكيفية التي بها يحصلون على طعامهم”.
” نحن في صدد الفشل في تفويضنا “
منذ عقد من الزمان كانت دارفور في قلب أحداث وصفت بأنها من أعنف حملات التطهير العرقي في العالم. فبين عامي 2003 و2005 نظم الرئيس السوداني عمر حسن البشير حملة وحشية ضد الجماعات المتمردة الرئيسية في المنطقة، والتي تضم جيش تحرير السودان، وحركة العدل والمساواة. الطيارون السودانيون قصفوا مواقع المتمردين من الجو، في حين أن مقاتلي الميليشيات العربية المعروفة باسم الجنجويد اقتحمت القرى المحلية على ظهور الخيل والإبل، وحرقت المنازل، وقتلت الرجال والنساء والأطفال. أما أفراد قبائل الفور والزغاوة في دارفور فقد تحملوا وطأة العنف بسبب الاشتباه في دعمهم المتمردين.
ولقد لفت انتباه المجتمع الدولي على نطاق واسع لتلك المذابح، ووظف نجوم السينما أمثال جورج كلوني، وميافارو، شهرتهم لرفع مستوى الوعي بالمنطقة الغامضة، والضغط على الحكومات لنشر قوات حفظ السلام في دارفور.
كان من المفترض أن تُنهي يوناميد القتال. ولكن لفترة من الوقت ادعى موظفو الأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي أن 20،000 من جنود قوات حفظ السلام يقومون بالضبط بتحقيق المهمة الأساسية ليوناميد. وقبل أن يغادر منصبه قال رودولف أدادا، وهو سياسي ودبلوماسي من الكونغو كان يدير البعثة في الفترة من مايو 2007 إلى أواخر عام 2009 إن أحلك سنوات القتل الجماعي في دارفور قد تم تجاوزها.
وأضاف “لا يمكننا الحديث عن صراع كبير في متن حرب جارية في دارفور” قال ذلك للأسوشيتد برس في سبتمبر 2009. وأضاف “اعتقد أن الجميع يفهم ذلك..بعد اليوم لا يمكن أن نتحدث حول هذا الموضوع، إنه قد انتهى…”
تفاؤل أدادا الشديد كان في غير محله. فالعنف الحالي لم يقترب من مستويات العنف الذي شهدته دارفور خلال الإبادة الجماعية، ولكن السلام لا يزال بعيد المنال. فالجنجويد – وهي ترمز إلى أحلك الأيام في دارفور – لم تختف. ببساطة منحت الحكومة الجنجويد البذلات العسكرية، وضمتها إلى القوات المساعدة التابعة للحكومة، بما في ذلك حرس الحدود، وقوات الاحتياطي المركزي، وقوات الدفاع الشعبي .
طبيعة الصراع، في هذا الحين، تطورت بشكل أكثر تعقيدا. والجماعات المتمردة المنقسمة في دارفور شكلت ائتلافا ضم المقاتلين من خارج دارفور وذلك للإطاحة بالحكومة. أما الحكومة السودانية التي تواجه قيودا مالية حادة صارت غير قادرة على تلبية الالتزامات المالية نحو الميليشيات العربية، مما دفعها إلى اختبار ولاء حلفائها بالوكالة وحدا بها لمحاربة القبائل الأخرى من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية المحدودة في دارفور، بما في ذلك الأراضي الزراعية وامتيازات تعدين الذهب. في العام الماضي وحده كان هناك تفش لقتال هائل على الموارد الطبيعية شمل ست مجموعات. وفي بعض الاحيان قاتلت الحكومة السودانية جنبا إلى جنب مع الميليشيات، وفي أحيان أخرى اقتتلت المليشيات بعضها بعضا.
ولكن لازال أكبر خطر يواجه المدنيين في دارفور كما كان الأمر من قبل عقد من الزمان تشكله هجمات القوات الحكومية، بدعم من الجنجويد، يستخدم فيها مزيج من القوة الجوية والهجمات الأرضية لإخلاء مساحات واسعة من دارفور ما أدى إلى تزايد النازحين في المنطقة من 1.2 مليون في أواخر العام الماضي، إلى نحو 1.7 مليون في عام 2014.
وبينما ساهمت يوناميد في توفير قدر من الدعم للنازحين إلا أنها لم تكن قادرة على توفير الحماية الكاملة لهم. وفي واحدة من مظاهر التعبير المؤثر عن الإحباط المحلي من جراء قوات حفظ السلام قام أهالي ضحايا مجزرة نوفمبر 2012 التي ارتكبتها الميليشيات المدعومة من الحكومة في بلدة سجلي – قاموا بتسليم جثث عشرة من المدنيين ملفوفة في قطع قماش بيضاء إلى مقر اليوناميد في بلدة قريبة من مدينة الفاشر، وذلك احتجاجا على فشلة البعثة في القيام بواجبها. وعندما زار فريق يوناميد بلدة سجلي في اليوم التالي تصدى له، وفقا لوثيقة داخلية لليوناميد، حشد غاضب من المواطنين، والذين عوقوا حركة الفريق بالإطارات المشتعلة ورشقوا سياراته بالحجارة.
محمد بن شمباس، وهو دبلوماسي غاني تولى مهمة البعثة في أوائل عام 2013 اعترف أن يوناميد تصارع من أجل حماية المدنيين. وقال في مقابلة إنه رغم ذلك فإن وجود قوات حفظ السلام المسلحة بالقرب من أكبر مخيمات دارفور للنازحين نجح في ردع الهجمات. قال شمباس إنه عندما يواجه المدنيون العنف فإنهم يتجهون إلى يوناميد طلبا للحماية. وأضاف: “ماذا يفعل السكان الذين يعيشون في قرى خارج مخيمات النازحين داخليا عندما يحسون أنهم مهددون..؟ “إنهم يأتون إلى مواقع يوناميد” وقال:” كانت هناك مشاكل ولكن لا يمكن للمرء الحديث عن تدخلات منهجية [من قبل جماعات مسلحة] داخل معسكرات النازحين لايذاء وجودهم…في هذا الصدد نحن أنجزنا تفويضنا”.
الخضوع بواسطة التهديدات
القليل من المراقبين الخارجين يشاركون شمباس الثقة في البعثة، والوثائق توضح أن العديد من مسؤولي الأمم المتحدة في الميدان ينتقدون تماما قدرات اليوناميد . فشل قوات حفظ السلام في حماية المدنيين يمكن أن يعزى إلى عوامل متعددة. فوثائق يوناميد الداخلية تقول إن الدول المساهمة بالقوات زودت جنودها الحاملين للقبعات الزرق بالمركبات المعطلة والأسلحة غير الفاعلة، في حين أن اكبر القوى الأجنبية امتنعت عن تلبية نداء الأمم المتحدة المتكرر لمنح جنود حفظ السلام طائرات هليكوبتر مسلحة لتعزيز جنود كتائب المشاة والذين معظمهم من الافارقة. أما مقر الأمم المتحدة الرئيسي في نيويورك، وفقا للوثائق التي بين أيدينا- يرفض بشكل متكرر طلبات قادة يوناميد بإحلال وحدات حفظة السلام التي كان أداؤهم دون المستوى، أو تلك التي ترفض تنفيذ الأوامر المباشرة، وإرسالها إلى بلدانها واسبتدالها بقوات أخرى. في الوقت نفسه فإن قوات الحكومة السودانية والميليشيات تهاجم جنود البعثة، أصحاب القبعات الزرق .
في 25 سبتمبر 2012، على سبيل المثال، قصفت طائرة حربية سودانية سلسلة من أهداف للمتمردين في منطقة هشابة حيث كان الجيش هناك يقاتل متمردين من أجل السيطرة على مخيم لتعدين الذهب. القصف أدى إلى مقتل ما بين 70 إلى 100 من المدنيين، وفقا لتقديرات داخلية للأمم المتحدة. وبعد القصف الجوي شن مقاتلون من ميليشيا عربية موالية للحكومة هجوما أرضيا قتلوا خلاله عدة أشخاص مدنيين، وأدى الهجوم إلى اغتصاب جماعي، وفقا لتحقيق أولي في الحادث من قبل يوناميد.
بعد انتشار أنباء الهجوم على هشابه سمح أفراد المخابرات و الأمن السوداني لدورية من يوناميد بزيارة المنطقة يوم 3 اكتوبر. وأظهر قادة المتمردين خلال الزيارة لجنود حفظ السلام ثلاثة أجساد متحللة، ومقابر تحتوي 16 قبرا ( بقية القتلى سحبت ودفنت بواسطة أسرهم حسب قولهم)، “وحفرة واحدة قد تكون نتيجة غارة جوية”، وفقا لتقرير داخلي ليوناميد. ولكن كبار المسؤولين في يوناميد رأوا أنهم في حاجة الى إرسال فريق أكبر من أفراد الأمن والمدنيين المتخصصين لإجراء تقييم أكثر دقة لما حدث.
وجاء في التقرير أن “هناك عددا كبيرا من الشائعات والادعاءات المتعلقة بوقائع حادثة هشابة فضلا عن دوافع ألاطراف المتطرفة فيه”. وأضاف التقرير:”لا شك في أنه كان هناك اعتداء من قبل مجموعات عربية مسلحة على البلدة وحقول الذهب، مما أودى بحياة المدنيين. ومن المؤكد إلى حد ما أنه بينما قد تكون طائرات القوات المسلحة السودانية قد قامت ببعض القصف في 25 سبتمبر فإن القوات المسلحة السودانية لم تشارك في الهجوم الأرضي” .
في البداية حث المتمردون يوناميد على عدم إرسال فريق للتحقق، “محذرين البعثة بأنها ستكون مسؤولة عن أي عواقب غير مرغوب فيها في حال اصرارهم”. كما حذرت قوات الحكومة السودانية يوناميد أيضا من الذهاب إلى هشابة. وفي يوم 17 أكتوبر توجهت أخيرا قافلة من قوات حفظ السلام نحو المنطقة، لكنها لم تصل قط إلى عين المكان. خُدع جنود البعثة بما يبدو أنه كان كمينا “متعمدا” نصبه المقاتلون العرب المسلحين بقذائف الهاون وأسلحة أخرى.
نوعية الأسلحة قادت يوناميد في وقت لاحق للإفادة بأن القوات السودانية شاركت في الهجوم، وفقا لتقرير داخلي للأمم المتحدة. أودى هذا الكمين بحياة واحد من حفظة السلام الجنوب إفريقيين وجرح ثلاثة آخرين بجروح خطيرة. عادت القافلة إلى كتم. و ضغط مسؤولون رفيعو المستوى في الأمم المتحدة على حفظة السلام الجنوب افريقييين لتكرار المحاولة مرة أخرى، لكن القائد المحلي رفض العودة إلى هشابة.
كتب قائد جنوب أفريقيا العقيد ثمبينكوسي مشلابا مذكرة إلى القادة العسكريين لليوناميد جاء فيها “بناء على الوضع الأمني ومصادر المعلومات أجد أنه من غير اللائق وغير المبرر للغاية تجاهل معلومات من مصادر موثوق بها، والإصرار على وجوب إرسال مهمة تقييم أخرى. هشابة ليست آمنة لزيارة أي مكون من مكونات يوناميد في الوقت الحاضر”،
وفي رسالة عبر البريد الإلكتروني امتنع مشلابا عن التعليق قائلا “من المؤسف أنني حقا لا يمكنني مناقشة هذه المسائل معك عن طريق رسائل البريد الإلكتروني لأنه من السهل تحريف المعلومات” ولكن وثائق داخلية أشارت إلى أن قادة اليوناميد المدنيين والعسكريين وصفوا سلوك مشلابا آنذاك بأنه يشكل ” عدم انضباط جسيم” وأوصوا بأن يتم على الفور تجريده من قيادته وإعادته إلى وطنه. لا يوجد أي دليل على أن هذه الخطوات اتخذت في أي وقت مضى .
لا يمكننا أن نقول كا ما نراه في دارفور .”
طوال فترة الصراع في دارفور جمعت يوناميد أدلة كثيرة تربط السلطات السودانية بجرائم خطيرة، والجدير بالذكر استخدامها للقوة الجوية والعرب المقاتلين بالوكالة في الهجمات على مجتمعات محلية يشتبه في دعمها للمتمردين. ولكن الكثير من تلك الأدلة تم حجبها عن التقارير المتاحة للرأي العام. وقال ليمان، مبعوث أوباما الخاص للسودان وجنوب السودان في الفترة من مارس 2011 إلى مارس 2013 إن رفض يوناميد الإقرار بصراحة بالعلاقة بين تلك الهجمات والخرطوم منذ فترة طويلة شكل مصدرا للإحباط بالنسبة لواضعي السياسات الأميركية. وقال ليمان: “نحن اشتكينا شيئا ما عن هذا والتقرير عن حقوق الإنسان لم يكن قويا وعلنيا كما يفترض أن يكون”.
لقد حظر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة حملة القصف الجوي السوداني، والتي شُجبت على نطاق واسع خلال السنوات الأولى من الصراع في دارفور، إذ اعتمد في مارس 2005 قرارا يهدد السودان بالعقوبات إذا لم “يوقف فورا” كل الحملات الجوية العسكرية الهجومية في دارفور.
ولكن مجلس الأمن لم يفرض قط هذا الحظر، وتصاعدت حملة القصف الجوي على مدى العامين الماضيين. ووفقا لدراسة أجراها خبراء مستقلون تم تعيينهم من قبل مجلس الأمن نفذت الطائرات الحربية السودانية ما لا يقل عن 106 قصف جوي في عام 2012 و85 في عام 2013، مما شكل ارتفاعا من 64 قصف في عام 2006. وفي عام 2012، على سبيل المثال، حدث أكبر ارتفاع في عدد القتلى بين شهري يونيو وسبتمبر، إذ قتل 134 مدني خلال الغارات الجوية السودانية، وفقا لتقديرات يوناميد الخاصة.
لكن سلطات الخرطوم منعت قوات حفظ السلام التابعة ليوناميد بشكل متكرر من التحقيق عن تقارير عن سقوط ضحايا مدنيين سودانيين جراء حملات القصف السودانية. ونتيجة لهذا لم ُيبلغ مجلس الأمن بعدد من عمليات القصف هذه.
في الوقت نفسه كانت يوناميد مترددة في إلقاء اللوم على الحكومة السودانية – وهي الكيان الوحيد في دارفور الذي يملك القوة الجوية في غياب دلائل مباشرة تم تجميعها من طرف موظفي البعثة ولا يمكن دحضها، الشيء الذي جعل هذا الشرط لاثبات يوناميد لحقيقة القصف أمرا مستحيلا. ونتيجة لذلك، فإن تقارير يوناميد المتاحة للعموم قللت في كثير من الأحيان من انتهاكات السودان، او حجبت أدلة ظرفية قوية على مسؤولية الخرطوم، أو تورطها في هجمات في التقارير التي ترفعها البعثة لمجلس الأمن .
وفي شهر مارس عام 2013 قصفت طائرة حربية سودانية من طراز أنتينوف بئرا بالقرب من قرية أم اجاجا في شمال دارفور ما أسفر عن مقتل ثلاثة رجال وامرأة، وطفل، وفقا لتقرير يوناميد. وأكد أحد شيوخ المنطقة لاحقا في مقابلة مع شرطة يوناميد هذا الهجوم الذي أسفر أيضا عن مقتل 280 من الماشية. ولكن شهادة المراقبين المحليين عدت بأنها لا تستوفي معايير الإثبات لدى يوناميد. ونتيجة لذلك، فإن الحادث الذي يشكل انتهاكا لحظر الأمم المتحدة الغارات الجوية الهجومية لم يتم أبدا رفع تقرير عنه إلى مجلس الأمن.
وقد أخفى، أيضا، السيد لادسوس، رئيس عمليات حفظ السلام الرسمية للأمم المتحدة، معلومات أساسية تم تجميعها من قبل قوات حفظ السلام التابعة ليوناميد حول دور مشتبه للحكومة في عملية التطهير العرقي من قبل رجال القبائل العربية في جبل عامر، مركز تعدين الذهب في شمال دارفور في أواخر عام 2012. أدى القتال الى فرار أكثر من 30،000 من المدنيين، معظمهم من أفراد قبليين يديرون مناجم الذهب.
“لقد سجلت يوناميد أن تقارير وسائل الاعلام تفيد بأن بعض الجهات في الحكومة دعمت ميليشيا (عربية) أثناء الأعمال العدائية، ولكن البعثة لا تتوفر على معلومات تمكنها من إثبات مثل هذا الادعاء، ” قال لادسوس لمجلس الأمن في 18 مارس عام 2013، وفقا لبرقية 20 مارس.
ولكن تقارير يوناميد الداخلية التي صدرت قبل إحاطة مجلس الأمن كانت قد أشارت إلى مكونين من القوات المساعدة التابعة للحكومة السودانية، وهنا وفر حرس الحدود وشرطة الاحتياطي المركزي الأمن للميليشيا العربية التي استولت على مناجم الذهب. إذ شن المقاتلون العرب هجومهم باستخدام الأسلحة الثقيلة التي من المحتمل أن يكونوا قد حصلوا عليها من الجيش السوداني. ويفيد تقرير يوناميد الداخلي بأن القوات السودانية وقوات حرس الحدود شاركوا في الهجوم. ووفقا لتقرير داخلي ليوناميد دعت المليشيا العربية ” مؤيديها إلى المساعدة، وشرعت في الهجوم بالمدافع الثقيلة والقذائف الصاروخية ( آر بي جي ). عدد ضخم من المسلحين يستقلون أكثر من 200 مركبة عسكرية ( حرس الحدود ، القوات المسلحة السودانية) حضروا إلى منطقة جبل عامر وشنوا هجوما” على القبيلة التي تدير مناجم الذهب،. و”خلال الهجوم أطلقت المليشيات النار على المدنيين عشوائيا ، وحرقوا المنازل، و نهبوا الممتلكات الخاصة في القرى” حسبما ذكر التقرير.
ومن غير الواضح ما إذا كان لادسوس على بينة من التقارير الانفة الذكر، أم أن هذه التقارير لم يتم رفعها من خلال جهات تابعة للأمم المتحدة لأنه لم تكن هناك أدلة كافية لإثبات تورط الحكومة. لم تستجب الأمم المتحدة لطلب التعليق على هذا التناقض.
ولكن مسؤولي الولايات المتحدة والامم المتحدة أعربوا في كثير من الأحيان عن قلقهم من كون بيروقراطيي يوناميد، خوفا من غضب سلطات الخرطوم، قد حجبوا معلومات أساسية بشكل روتيني من صناع القرار في مقر الأمم المتحدة الرئيسي في نيويورك.
ولقد باحت السيدة عايشتو مينداودو، أكبر مسؤول مدني في يوناميد آنذاك، في تبادل الرسائل الالكترونية مع عائشة البصري، أنه يتم التلاعب بالمعلومات التي تصف الهجمات على المدنيين من قبل اثنين أو أكثر من موظفي الامم المتحدة لم تسمهم والذين قد “اختطفوا” عملية رفع التقارير في يوناميد.
“هناك الكثير من التلاعب، ولدى عدد من الأشخاص اجندات لاتتماشى دائما مع ولاية البعثة ومع مصلحة أهل دارفور” وفقا لمراسلة إلكترونية بتاريخ 28 ديسمبر بين السيدة عايشتو مينداودو والمتحدثة السابقة ليوناميد عائشة البصري، والتي سربت الوثائق لـ(Foreign Policy). ولم تستجب مينداودو لطلب التعليق عبر البريد الالكتروني.
في مقابلة مع عائشة البصري قالت إنها واجهت قصورا كبيرا في رغبة يوناميد لرفع تقارير عن انتهاكات حقوق الإنسان بعد وقت قصير من وصولها إلى دارفور.
ففي أغسطس 2012 توجهت قافلة تتكون من 150 إلى 180 شاحنة عسكرية تقل جنودا سودانيين، فضلا عن ميليشيات مسلحة – توجهت نحو معقل جيش تحرير السودان، وداهم عدد منهم ثلاث قرى في منطقة طويلة. هناك أحرقوا المنازل وسرقوا الممتلكات، واغتصبوا النساء، وفر أكثر من 5،000 من منازلهم مذعورين، وفقا لتقرير داخلي خاص بيوناميد .
لكن شرطة يوناميد المنتشرة في المنطقة لم ترفع أي تقرير. ثم أرسلت يوناميد في وقت لاحق فريقا لتقصي الحقائق إلى المنطقة. وأشار تقرير الفريق إلى أن الهجوم كانت انتقاما لإسقاط طائرة هليكوبتر تابعة للحكومة السودانية من قبل المتمردين. “لقد أطلقوا النار في الهواء وشرعوا في نهب المساكن والأمتعة الشخصية والأثات، والمال، والهواتف الخلوية، والوثائق المهمة، الخ. الأشخاص الذين لم يكن لديهم أي شيء يستولى عليه المهاجمون تعرضوا للضرب بالعصي، أو بأعقاب البنادق، وطلب منهم ذكر القبائل التي ينتمون إليها”، وفقا للتقرير.
تقول البصري إنها عبرت عن قلقها إزاء رفض يوناميد الاعتراف بدور الحكومة في هذا الهجوم لأحد قيادات قوات حفظ السلام الجنرال وينجونس ماثيو كيسامبا. وقالت إن إجابته لا تزال تهزها. إذ قال لها كيسامبا إنه يمسد الحقيقة أحيانا: “كما تعلمين، في بعض الأحيان علينا أن نتصرف مثل الدبلوماسيين.” وأضاف قائلا: ” لا نستطيع أن نقول كل ما نراه في دارفور.”