تأملات في فراعنة السودان الجُدد

تأملات في فراعنة السودان الجُدد..!!.

خالد ابواحمد
[email protected]
منذ ثلاثة أسابيع غبت عن العالم الاسفيري ولم افتح المواقع الالكترونية التي تعودت أن أمارس فيها اتصالي بالوطن والأصحاب والأحباب، فضلاً عن الرياضة الذهنية والفكرية والتزود بالأخبار، جزى الله عني الشدائد خير الجزاء أن خلوت إلى نفسي متأملاً في سيرة هذه الحياة العجيبة التي يعيشها عموم الشعب السوداني، وقد قال لي أحد الاخوة معاتباً أراك تغلظ على اخوتك السابقين في كل مقالاتك، فطيلة أيام هذه الخلوة وانا أفكر متسائلاً.. هل بالفعل ظلمت أخوتي ..أم أخوتي قد ظلموا كل الشعب السوداني الذي تاه في البرية، وشردوا الكفاءات الوطنية المخلصة..؟.

تذكرت أياماً صعبة ولا زالت في الذاكرة أصوات المعارك واطلاق الراجمات والرد عليها، ورائحة الحرب والدماء والأشلاء المتناثرة..ترن في أذني، ووصايا الراحلين موسيقى أسمعها كل يوم في صباحي ومسائي، وتتراءى لي صور أسرهم وأبنائهم وزوجاتهم،وأيامهم الجميلة، ولا زالت أصداء هتافات وخطابات شيوخنا النارية تلهب مسامعي، يدعوننا إلى بذل النفس رخيصة، والفوز بالجنان والحًور والعين، وقد ذهبوا هم وامتلكوا العمارات السوامق في كافوري وقاردن سيتي، وفي دولة الامارات العربية المتحدة وماليزيا، بينما فقد السودان أغلى أبناءه وأخصلهم من الجانبين، والأُسر بالتالي فقدت فلذات أكبادها في حرب طاحنة لم يفز فيها أحد من المتقاتلين.

يذكر المُفكر الايراني [1] د. علي شريعتي أنه لما قصد زيارة مصر ليرى الأهرامات التي تعتبر من عجائب الدنيا السبع، قد سُر في نفسه كثيراً لوجوده هناك، وقد كان يسمع بكل جوارحه للشرح الذي قدمه الدليل عن تاريخ الاهرام وكيفية بنائها، وكشف له عن عمل (العبيد) في حمل الألواح الحجرية التي بلغت ثمانمائة مليون لوح نقلوها من أسوان إلى مكان الاهرام قرب القاهرة، ليشيدوا هناك تسعة أهرام، ستة منها صغيرة وثلاثة هي الأهرام الأكبر والأكثر صيتاً في العالم، وقد سار العبيد بهذه الحجارة الضخمة، عرف د. شريعتي أن المسافة تصل إلى أكثر من تسعمائة كيلومتر، ليبنى بها ذلك البناء الضخم الشاهق، حيث استقرت أجساد الفراعنة المحنطة، وبينما هو كذلك رأى على مقربة من الاهرام أكواماً من الحجارة، وقد وضعت من غير ترتيب، فسأل عنها، فأجابه الدليل انها قبور جماعية عميقة، حفرت ليدفن فيها من هلك من العبيد أثناء العمل الشاق في بناء الأهرام، مشيراً إلى أن العبيد وعددهم ثلاثون ألفاً نقلوا حجارة الأهرام في ثلاثين عاماً وكان مئات منهم يسقطون كل يوم من الإعياء ويلفظون أنفاسهم الأخيرة، فيأمر الفرعون بدفنهم في حفر تحيط بالاهرام، ليظلوا يحيطون به في موته، لتخدمه أرواحهم في الموت كما خدمته اجسادهم في الحياة..!!.

ويقول د. علي شريعتي:

“برغم إلحاح دليلي بأن تلك الحفر ليس لها أي قيمة أثرية تذكر، فقد تركته وجلست إلى جانبها، أحاول أن أتذكر آلاف البشر الذين ماتوا كي يصنعوا قبراً لفرعون من فراعنة التاريخ”.

وبروحه الشفافة ونفسه الزكية شعر د.علي شريعتي بعلاقة متينة ربطته وهؤلاء الذين اندثرت عظامهم في الحفر..!!.

بل شعر بأنه والعبيد المدفونيين في تلك الحفرة من أصل واحد، وكان يقول في نفسه “أنهم مني وأنا منهم رغم انني من بلاد غير بلادهم، ورغم أن مسافات وحدود وأزمان تفصل ما بيننا، ولكن الفواصل كلها مكروهة وظالمة، وقد فرضت على العالم لتفكك صلات البشر ببعضهم.

قال “شعرت برابطة حميمة مع هؤلاء وسرى في جسدي شيء من معاناتهم وآلامهم، ثم نظرت إلى الاهرام مرة أخرى فشعرت بالغربة عنها، بل شعرت بنوع من الحقد عليها فهي وكل الآثار والقصور الشاهقة التي بقيت من التاريخ، انما قامت على دماء وأشلاء أجدادي وأسلافي”.

كان يرى د.شريعتي منجزات الحضارات وكأنها تراكم للمظالم عبر آلاف السنين، طوت في ثناياها أجساد الأجداد.. لذلك بقي بين هذه القبور لحظات تأمل عميقة وهو يحس وكأنه جالس بين أخوة له، فكانت هذه الرحلة أعمق رحلة في حياته تركت أثرها الكبير على نفسه، وفي مكان آخر كتب شريعتي يسرد ويقول أن الرقيق كانوا موجودين باستمرار بأشكال وصور مختلفة على مر المراحل التي عاش فيها الانسان، وكان البسطاء دائما هم العبيد..!!.

فكتب علي شريعتي هذه الرسالة المفعمة بروح ونكران الذات لأحد أولئك الذين دفنوا بتلك الطريقة:

لقد رحلت عنا، ونحن لم نزل نبني الحضارات العريقة ونعد العُدة من أجل فتوحات ومآثر جديدة، كانوا يأتون إلى قُرانا وضياعنا فيجروننا وراءهم كالبهائم إلى حيث نصنع قبورهم، وعندما كنا ننتهي من بناء الصرح كان المجد لهم وحدهم، أما نحن.. فعندما كانت تخور قُوانا، بعد ذلك الجهد الجهيد كنا ندفن هناك بين صخور المقبرة، كانوا يسوقوننا أحياناً إلى الحرب، لحرب أناس لم نعرفهم ولم نكرههم من قبل، بل وربما لحرب أناس من مُواطنينا ورفاقنا وأقرب الناس إلينا، كنا نحن نُساق للحرب، بينما ينتظر آباؤنا وامهاتنا المسنون عودتنا بفارغ الصبر، انتظاراً من دون جدوى ولا نتيجة، هذه الحروب – على حد قول أحد المفكرين – كانت حرباً بين فريقين، لا يعرف أحدهما الآخر، لحساب فريقين يعرف أحدهما الآخر ولكنهما لا يتقاتلان بأنفسهما…!.

كنا نُبيد بعضنا بعضاً، إذ كنا مضطرين اما لنقتل ونقييم المذابح للآخرين، أو نواجه الهزيمة، وعند الهزائم كان الخراب والمُدن المُهدمة والمزارع المحروقة الجرداء تبقى لنا ولآبائنا وامهاتنا، أما عند النصر، فقد كان المجد والعز يسجلان لغيرنا، هكذا كنا نحن أدوات فقط.. مهزومين في النصر كما في الهزيمة، لكن يا أخي حدث بعدك تحول كبير فقد بدأ الفراعنة والقياصرة وطواغيت العالم يتغيرون في تفكيرهم، فتركوا عقائدهم عن الموت وبناء القبور كي تبقى الارواح فيها حية، وقد فرحنا لذلك التحول كثيراً، إذ لاحت لنا نهاية المسيرات المرهقة والمهلكة التي جلبنا بها ملايين الاحجار من مسافة ألف كيلومتر، ورصفناها على بعض كي نصنع قبراً خالداً.

لقد ذهبت أنت يا أخي ضحية بناء قبور الفراعنة، بينما جعلت أنا فداء لقصور الحكام وقلاعهم الشاهقة، ووجدت نفسي مُكبلاً بقيود خُلفاء فرعون وقارون الذين استرقونا وسخرونا لخدمتهم، لقد شكل هؤلاء الخلفاء طبقة رجال الدين الرسميين (الكهنة)، التي اصبحت طبقة فوقية متنفذة ومستكبرة، وقد كتب عليّ أن أخدم هؤلاء وأبني لهم القصور والمعابد الفخمة، في ايران وفلسطين ومصر والصين، وفي كل مكان يوجد فيه محروم مغلوب على امره ومستعبد، أن هؤلاء القيمين الرسميين على الدين الذين ادعوا تمثيل الله وخلافة أنبيائه نهبونا الزكاة وساقونا للقتال باسم الجهاد، بل أنهم أجبرونا على تقديم فلذات اكبادنا على مذبح الاصنام قربانا للآلهة، حتى أصبحت المعابد تُسقى باستمرار من دماء أبنائنا وبناتنا الأبرياء.

الاستغلال باسم الآلهة

لقد اصبحنا نعاني أسوء أنواع الاستغلال باسم الآلهة، وذلك على أيدي فرعون وقارون وخلفائهما والقيمين الرسميين على دينهما، لقد اغتصب مؤيدوا الاهواز (كهنة المجوس) ثلاثة أخماس أراضينا، وجعلونا أشباه عبيد، كذلك فعل كهنة المسيحية، حيث استولوا باسم الكنيسة على أموال وأراضي الناس.

في آلاف السنين، بنينا المعابد والقُصور في روما والتماثيل الضخمة في الصين، كنا نحن نهلك بصمت أما المجد فكان يبقى نصيب الكهنة والقساوسة والمقيمين والمتاجرين به، وارثي قارون وفرعون.

انا الذي عشت بعدك بالآلف السنين، وتتبعت ما جرى في هذه السنين، وصلت الى نتيجة هي أن الآلهة أيضاً تكره العبيد وأن هذه الأديان ما هي إلا قيود جديدة أرسلت إلينا وأن الكهنة والقائمين على أمر الدين انما استخدموا تلك القيود لاسترقاقنا ولتبرير سيطرة أصحاب القصور.

ثم عرف عالمنا فلاسفة وحُكماء، كان فهمهم عميقاً وعلمهم غزيراً، ولكن حتى هؤلاء لم يجدونا نفعاً، فأرسطو مثلاً، اعتقد بأن من الناس من ولد ليكون عبداً، ومنهم من ولد نبيلاً وسيداً، لذلك رأى من الطبيعي أن نبقى في الطبقة الدنيا من المجتمع نُسام العناء ونعامل بالسوط، فلذلك كان قدرنا حسب رأي اولئك الفلاسفة.

لكن العالم شهد مفاجأة جديدة، عندما ظهر نبي جديد، وقد نزل من الجبل متجهاً للناس، قائلاً لهم ” أني رسول الله اليكم جميعاً”، كتمت أنفاسي وأنا بين الدهشة والشك، فلعل في الأمر خدعة جديدة لكنه استمر في الكلام “أني بعثت من قبل الله القائل “ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم ائمة ونجعلهم الوارثين”، عجباً كيف يحدث الله العبيد والمستضعفين فيبشرهم بالنجاة ويجعلهم وارثي الأرض وسادة العالم، كدت لا أصدق، إذ اعتقدته كأنبياء آخرين، جاءونا من ايران والهند والصين، أو ربما كان أميرا ً ادعى النًبوة، كي يعبئ الناس ضد أمير آخر، فيبلغ مناله من خلال الدين.

قالوا:” لا.. انه يتيم، شاهده الناس جميعاً وهو يرعى الغنم في سفح الجبل فتعجبت أكثر: كيف يصطفي الله رسولاً بين الرعاة، فقالوا لي بل أنه آخر واحد من سلسلة الأنبياء -الرعاة -، وقد كان أجداده الأنبياء أيضاً هم من الرُعاة والفقراء، فارتجفت أوصالي، وشعرت برعشة امتزج فيها الارتباك والخوف والرجاء.. فهذا نبي يبعث منا وفينا، وزال ترددي عندما رأيت حولي أخواني من الفقراء والعبيد: بلال.. ذلك العبد الحبشي.. سلمان.. أسير حرب ايران ثم مستعبد، أبوذر.. أعرابي مُعدم من الصحراء.. سالم.. مولى زوجة أبي حُذيفة وآخرون غيرهم هم من العبيد والفقراء، التفوا حول النبي ثم اصبحوا سادة قومهم.

رسالة محفوفة بالمخاطر

آمنت بذلك النبي، لأن (قصره) كان بضع غرف من الطين بناها، بعد إلحاح الناس وقد ساهم هو في بنائها، و(بلاطه) كان خشبة ثبتت على سعف النخيل، هكذا كان كل متاعه في الدنيا.. وقد رحل عنها وهو لا يملك أكثر، فهربت من ايران، ناجياً بجلدي من ظلم المؤبدين (الكهنة المجوس) الذين استرقونا وساقونا إلى حروبهم التافهة، هربت إلى مدينة النبي واعتصمت بها إلى جانب رفاقي من العبيد والمظلومين والمستضعفين في الأرض، وبقيت إلى جانبه إلى أن وافاه الأجل وتركنا، ولازالت قضية رسالته محفوفة بالمخاطر والاحتمالات المختلفة.

يئست من جديد وشعرت أني مغلوب على أمري، فها هي سلطة جديدة تستتر برداء التوحيد، وهي تنشر الكذب في المساجد وتحارب الله باسم الله.. وعرفنا مرة أخرى وجوها فرعونية وقارونية تحكم بصوت الدين، وتستغلنا من أجل بناء المعابد والقصور وهكذا بدأنا ببناء الصروح الضخمة.

ولقد بني كل ذلك على أكتافنا، وأعطينا لها دماً وحياة.. فقد كان يُفرض علينا كل ذلك باسم الله وخلافة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكدت أعتقد بأن الخلاص مُستحيل وأن العبودية انما كتبت علينا، من كان ذلك النبي، هل جاءنا برسالة مزيفة، هل خدعنا ونظم صفوفنا لكي نسخر في ما بعد لخدمة فئة من الناس، هل أنه عِرف بأننا سنسبى ونضطهد باسمه..؟ كلا.. فقد كان هو مثلنا ضحية لما حدث بعده. والآن.. أين المفر، أي طريق أسلك للنجاة..؟.. هل أرجع إلى الجاهلية إلى كهنة مجوس، أم إلى معابد قامت على أساس الظلم والتزييف..؟ أم تراني ارجع إلى قادة شعبي الذين يعملون من أجل تحررها، أي إلى الذين خسروا سلطانهم في ثورة الاسلام فيحاولون العودة اليوم إلى تراثهم البالي وجاهليتهم الأولى بعد أن جاءتهم البينات، أم ألتجئ للمساجد.. ولكن ما الفرق بين المساجد الجديدة والمعابد القديمة..؟.. وقد رأيت المتلبسين لباس الخلافة والمُدعين السير على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيوفاً كتب على حدها (الجهاد)، ومآذن ارتفعت باسم التوحيد.. رأيت ذلك كله يستخدم مرة أخرى لاستغلالي وجري إلى ساحات الحروب والدمار والتكفير.

د. علي شريعتي.. أفصّحت..!!.

وعندما رجعت بنفسي لقصص المدفونين في السودان لصالح بناء قصور قادة (الإنقاذ) رحت أشتم  عبق سيرتهم العطرة متذكراً مناقبهم السامية وأرواحهم النقية الصافية، سلسلة من الأنقياء اليوم تذكرتهم برغم أنني لم أنساهم أبداً، وكأني أعيش بينهم..ماجد كامل، وأخي الحبيب الذي فقدته معاوية أبوتراب، ابوالقاسم عيدالروس،بدرالدين البادرابي، حسين دبشك، ميسرة عثمان، وشيخي أحمد شيخ الأمين ومعاوية عبدالمالك ومحمد شيبة، وأخي العزيز وبن حلتي عبود علي الأمين ياسين، وعلي عبدالفتاح، وبن خالي العزيز عبدالخالق حيدر،مرتضى عبدالسلام، ويوسف سيد، وعبدالله بابكر، وعبدالله جابر، ومن قادتنا الذين أحببناهم في الله تعالى شهداء لمسيرة السلام في السودان- أحمد الرضي جابر، عبدالسلام سليمان، فضل السيد أبوقصيصة- واستاذي أحمد عثمان مكي، ومحمد عثمان محجوب، و أخي الحبيب معتصم الفادني..عليهم رحمة الله جميعاً..يا لهم من شباب تركوا هذه الدنيا لينعم بها الذين لم ترق منهم نقطة عرق في سبيل استقرار ورفعة السودان دعك من رفعة الإسلام، لكنهم أراقوا الدماء الطاهرة من أجل ذاتهم الدنيئة، فكلما نقلت القنوات الفضائية صور السودانيين البسطاء من الجنوب ودارفور والشمال وشرق البلاد أحاول تقبيل وجوههم النيرة، وأن أصافح أياديهم الطاهرة التي لم تتلوث بدماء الأبرياء ولم تآكل أموال الفقراء والمساكين لتبني لها مساكن فارهة في مدن الأحلام في دبي وماليزيا وغيرها.

هؤلاء الذين تسيدوا زمام الحكم في السودان تماماً مثل فراعنة مصر الذين حكى عنهم د. علي شريعتي تلذذوا بعذابات الناس وبنوا قصورهم الفارهة على جثث وأشلاء أبناء بلادي، ولم تدمع عيونهم بل لم يرف لهم جفن بسقوط العدد الكبير من ضحايا الحروب التي افتعلوها.

وهل اعتبر القوم..؟.

 للأسف لا زال القوم في ضلالهم القديم..فهذا نافع علي نافع يؤكد على ذات النهج الذي أراق الدماء في البلاد ويقسم على رؤوس الأشهاد بأن (الانقاذ) “قدمت 40 ألفاً من الشهداء في جنوب السودان ومستعدون لتقديم 100 ألف آخرين”..يا سلام..يا سلام على التصميم والإرادة على القتال لا على إرساء السلام وحقن الدماء، وأين كانت هذه الخطبة العصماء في يوم 10 مايو الماضي عندما أسرع نافع للهروب من السودان ناجياً بجلده من هول المعارك التي أشعلها هو وأمثاله الذين تعودوا أن يشعللوها ويهربون ويدفع الثمن البسطاء من النساء والأطفال، وفي العاشر من مايو انكشف القناع الكبير وأصبح يوماً في تاريخ السودان لا تخطئه صفحات التوثيق.

وهذا الأخ هيثم بابكر الزميل السابق في إعداد برنامج (ساحات الفداء) التلفزيوني والضابط بهيئة التصنيع الحربي التابع لجهاز المخابرات الوطني في مداخلة له في إحدى الموضوعات بمنبر سودانيزأونلاين قبل أيام قليلة يقول:
“فوالله لم ولن يزحزحنا كل ذلك عن يقيننا أننا على حق وأن الذين يريدون زوال دعوة الله، ويريدون ليطفئوا نور الله على باطل … سرق من سرق، وقتل من قتل، وأبى من أبى، فكل أولئك أتيه يوم القيامة فرداً، ويبقى يقيننا ان يزيدنا الابتلاء تماسكاً ليميز الله الخبيث من الطيب، نسير على طريق الحق، نذكر بالله، ونخوف بالله، ونقاتل فى سبيله لا نخاف فى الله لومة لائم”.

وبالطبع لم أستغرب هذا الكلام فكل عضوية الحكومة وخاصة الذين يعملون في مؤسساتها الكبيرة الأمنية والإستراتيجية يقولون بقول واحد هو أنهم على حق وأن كل من وقف ضدهم على باطل، وأنهم يمثلون الاسلام والدفاع عن بيضته وكل الآخرين “يريدون أن يطفئوا نور الله بأيديهم”، وليس غريباً تواصل هذه اللغة وهذا الاسلوب لذا نجد أن الاقتتال لم يتوقف بعد التوقيع على اتفاق نيفاشا لأن النهج هو ذات النهج الذي تسير به الحكومة (فرع) المؤتمر الوطني فيما تركت الحركة الشعبية نهجها القتالي السابق بعد الاتفاقية بل قامت بتسليم أسرى الطرف الحكومي بينما الذين يدافعون عن الاسلام ويتمسكون بنهجه قتلوا الأسرى ولم يتركوا منهم أحداً..!!.

لا زالت صور ضحايا الجنوب في مخيلة الناس.

ولا زالت صور ضحايا دارفور منشورة على الشبكة العنكبوتية..

صور الأقمار الصناعية التي كشفت  للعالم قاطبة عن حرق القرى والإبادة الجماعية.

ويقول الأخ هيثم بابكر

“ويبقى يقيننا ان يزيدنا الابتلاء تماسكاً ليميز الله الخبيث من الطيب، نسير على طريق الحق”..!!.
يريدون أن يقيموا دولة (الحق) على جماجم البشر تماماً كما فعل ابو مسلم الخرساني الذي قتل لوحده 600 ألف انسان من اجل ان تقوم الدولة العباسية في العراق..!!.

..يا لها من مفارقة..!.

أشد كفراً ونفاقاً..!!

بالطبع أن ما يصدر من المسؤولين من تصريحات استفزازية للشارع السوداني يجعل المرء يتساءل أي منهج هذا الذي تتبعه قيادة النظام في تعاملها مع الأحداث وهذا الأمر شغلني كثيراً بالبحث المستمر، ولما كنت على قناعة بمفارقة  النظام للدين الاسلامي الحنيف أقبلت على قراءة كتاب المؤلف سعيد الشبلي[2] حول النفاق ويقول الكاتب مفسراً أية نفاق الأعراب التي وردت في سورة (التوبة) الآية (97)، في قوله تعالى “الأعراب أشد كُفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلمُوا حُدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم”،إن الأعراب قد أسلموا مع جملة من أسلم من عرب الجزيرة، إلا أن القرآن الكريم خصّهم بخطاب خاص ليبين لهم ما تشكوه أنفسهم دون سواهم من توحش وتمرد، وما ينطوي عليه سلوكهم من غلظة وجفاء وشدة آن لها جميعا أن تزول إذا أرادوا فعلا أن يرقوا بأنفسهم إلى مراتب الأنفس المطمئنة، وإذ لم ينفي القرآن الكريم عنهم وصف الإسلام إلا أن مرحلة الإيمان بما هي أساساً مرحلة إخبات وإنابة وخضوع وخشوع قلبي، احتاجت منهم هم بالذات إلى بذل جهد مضاعف إذا كانوا فعلا ممن يريدون بلوغها، ومن هنا كان تعبيره سبحانه بقوله “ولما يدخل الإيمان في قلوبكم” تعبيراً عما يلاقيه الإيمان من صعوبة في النفاذ إلى أنفس متوحشة متمردة متمردة على عدم الخضوع.

فرغم أن القرآن الكريم لم يستعمل إطلاقا لفظ العرب، ولم يصف بـ (العربي) سوى القرآن الكريم، إلا أنه تحدث في مواضع كثيرة عن الأعراب كنموذج لمن ترسخت فيهم مظاهر الكفر النفاقي، ولمن تعودوا على السلوك النفاقي وعلى تصرفات المنافقين.

معلوم أن الأعراب هم أولئك البدو الذين لم يتمدنوا والذين لم يعرفوا نظام الحياة الجماعية المستقرة بقدر ما تعودوا على الرحيل طلبا للماء والكلا … وفي خضم حياتهم البدوية تلك، لم يلزموا أنفسهم بأن تستقر هي أيضا وأن تلتزم أنظمة وشرائع وأن تخضع لحدود وقوانين، بل كانت حياتهم تقوم على كثير من التحرر والانطلاق وقليل من الالتزامات التي لم يكن منها مفر، فلما جاء الدين الجديد ليكون دستوراً لحياة الإنسان الفردية والاجتماعية، وليهدي الأمم إلى ما فيه صلاح العمران واستقراره ورقيه وازدهاره، وجاءت آياته تهدف إلى تأسيس بناء حضاري ووجودي متكامل، تطلب ذلك أن يكون أتباع هذا الدين ممن تهيأت أنفسهم للخضوع للأوامر الحقية، وممن ربوا أنفسهم على السمع والطاعة وعلى الالتزام الصارم بما في الشريعة من أحكام، فإذا التفتنا إلى النفس الأعرابية التي تربت على التحرر وتعودت على عدم الخضوع لأي شئ،  فإننا حينئذ سنرى الفاصل بين الإسلام بما هو دين ونظام وأحكام وشريعة متكاملة، وبين الأعراب الذين لا يحبون الخضوع ولا يعترفون بشئ اسمه الطاعة، وقد تعودت أنفسهم على الانطلاق ولم تألف الحدود ولا التنظيمات، وما نزول الآيات السالفة في سورة الحجرات التي جاءت آياتها ببيان قواعد السلوك الاجتماعي المتحضر والإرشاد إلى آداب الحياة الاجتماعية، إلا دليلاً على ما يعانيه النموذج الأعرابي أصلاً من عُسر على هذا المستوى هدد بأن يعرقل مسيرة إيمان هذه الطائفة من الناس.

فقد دخل عدد كبير من الأعراب في الإسلام وآمنوا بالله، إلا أنهم لم يسعوا أبدا إلى تغيير ما بأنفسهم ، بل ظنوا أنهم ليسوا مطالبين أصلا بهذا التغيير ومالوا بما تطبعوا عليه إلى إقرار أنفسهم على هواها الأعرابي، ولم تنفذ كلمات الإيمان ومصطلحات الخشوع والتسليم إلى حنايا أنفسهم، وقد هدد ذلك بأن يجعل منهم أسوأ المنافقين عن جدارة فأخذ الدين على أنه عقيدة جديدة بدون إخضاع الأنفس لتربية جديدة تبلغ بها مراتب التسليم والخضوع الكامل الواعي بين يدي الحق سبحانه وتعالى، الأمر الذي يبرز في استجابة حية لأوامر الشريعة المطهرة وليس في مجرد التطبيق الشكلي أو القيام بحركات شكلية لا صلة للقلب بها، مثل هذا المسلك في اعتراف اللسان وخضوع الجوارح بدون استجابة النفس، هو القاعدة التي ينبني عليها النفاق ويؤسس أركانه.

ويضيف الشبلي:

 لقد نزلت آيات أخرى تصرح بأن الأعراب أصبحوا في معظمهم، معدناً ممتازا لتصنيع النفاق، وخاصة لتوليد طوائفه وأجياله، إذ يقول تعالى “الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله والله عليم حكيم”، الآية الكريمة صريحة في أن الأعراب إذا سلكوا مسلك الكفر والنفاق، فهم الأشد ظهوراً فيه، وذلك بسبب تلك العداوة التي توشك أن تصبح طبيعية بينهم وبين (الحدود)، فالأعراب وبسبب ميلهم الطبيعي إلى عدم الخضوع والطاعة، سوف لن ينظروا في الحدود الجديدة التي نزلت من السماء بمنظار العلم والفهم والتدبر، بل سوف يتلقونها منذ البداية على أنها (حدود) أي (قيود) يراد لهم أن يتقيدوا بها  وضغوط.

فقد اعتبر الأعراب الدين الجديد مجرد حدود تقيدهم وتمنعهم مما مردوا عليه من عدم الائتمار بأية شريعة، وعدم الالتزام بأية طريقة،   ومنذئذ أصبح الفهم الأعرابي للدين وحدوده أحد أكبر المحاذير التي واجهها ويواجهها الإسلام إلى اليوم، فالنفس الأعرابية هي رمز  لكل نفس تربت على التفصي من القيود وعلى التجرد من الحدود ، وعلى رفض القوانين من أصلها بدون النظر في صلاحها أو فسادها. ومثل هذه النفس التي لم تخرج من دائرة التوحش ، لا يمكن إلا أن تكون نفساً أمارة بالسُوء، ولا يمكن لها أن تنخرط في مشروع وجودي واجتماعي هدفه تحضرها وتقدمها وتغيير ما بها إلا مكرهة، فإذا فعلت ذلك مكرهة ، فإنها ستتحايل عندئذ لتقدم وجها ظاهرا من الطاعة والالتزام ، بدون أي وعي حقيقي بحقيقة ما تفعل، ولا اقتناع فعلي به.

هذا السلوك الأعرابي القائم على إظهار الطاعة وإعلان الإسلام بدون فقه ولا وعي، وبدون إلتزام حقيقي بحدود ما أنزل الله على رسوله، هو الوجه الأصفى للنفاق ولعلامة المنافقين بالإسلام، فالمنافقون وقد أحاط بهم الإسلام من كل جانب، لم يجدوا بدا من إعلان الشهادتين ومن الصلاة مع سائر المصلين رغم أنهم في الحقيقة لا زالت أنفسهم منطلقة مع أهوائها سادرة في غيها، لا تريد إلى الهدى سبيلا ، فلما أسلموا كان إسلامهم عملاً تجارياً لا عملاً إيمانياً، حيث ما قصدوا من ورائه إلا ضمان الأمن لأنفسهم وتحقيق المنافع المادية من مغانم وصدقات.

القارئ الكريم..

أرجو ألا تستغرب مما ذكرت آنفاً… لم آتي بشئ من عندي بل من مؤلف جدير بالاحترام والتقدير على ما كتبه في هذا الكتاب والذي تناول (النفاق) في صورته العامة ومن حيث الفهم القرآني الذي جاء من لدن الله سبحانه وتعالى، ومع ما جاء من اقتباسات من هذا الكتاب في مقابل سلوك النظام الحاكم على أرض الواقع المعاش في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وما نتج عن سياسات أفقرت البلاد والعباد وشردت الأسر في دول الاغتراب والهجرة للمنافي القسرية، وساءت سمعة السودان الوطن الذي اشتهر بكل ما هو جميل ورائع، ومع العهد (الانقاذي) التصقت بالسودان كل الأفعال السيئة والمسيئة لتاريخه الناصع البياض..تقارير المنظمات الدولية في مراتب التطور والازدهار تؤكد الانحدار الرهيب للوطن، ثم جاءت فضيحة جلد الصحفية الزميلة لبنى الحسين لتؤكد للعالم قاطبة خبل وشطط القائمين على الأمر في بلادنا الذين أساءوا للاسلام وضربوا قيمه الرصينة في مقتل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *