بقلم منى اركو مناوى
كنت أتصفح مذكرات ” تاريخ حياتى” للشيخ العظيم الراحل بابكر بدرى رائد وراعى التعليم النسوى فى السودان. لا أدرى إن كان غيره أقبل على هذا الدور العظيم ولم يدوّن لنا إنجازاته أو إخفاقاته أم هو وحده صاحب هذا الإنجاز المستحيل حسبما توفر لنا فى مذكراته اليوم؟
مذكرات الشيخ بابكر بدرى هى تحفة تاريخية وإرث خالد على صفحات ورقية بسيطة تقدم لنا عرضاً رائعاً أمام أعيننا لعصر غير عصرنا وتكشف الستار الزمني الذي يحول بيننا وبين الأحداث ذات الصلة بتاريخ السودان وتسّهل للمرء لمشاهدة تلك الأحداث بتقريب الصورة على الشاشة( zoom in ( ومن على سطح التاريخ نطوف حول الأحداث بروح العصر ليوميات الماضى الذى سبق عهدنا. هذا إن دلّ على شئ انما يدلّ على أنّ الرجل كان بعيد النظر وعميق فى تأملاته على الأقل فى ذلك الوقت المظلم من تاريخ السودان.
مثلما قال الرجل فى مفتتح مدوناته ” التاريخ يُكتب، الحوادث، منه العادية للفكاهة وغير العادية من الحقائق للاقتداء حسناً أو قبيحاً.”
لكني أقول حوادث تاريخ الشيخ بابكر بدرى جميعها أصبحت للاقتداء حتى ولو قصد منها الفكاهة.
فيما حرك خاطرى وجذب انتباهي من بين المعلومات النفيسة التي كنت اغربلها، وهي من بين الأسباب دفع الشيخ البدرى يجتهد مبكراً لهذا المسعى العظيم فيما معنى قوله هو، قدوم عائلات من أجناس مختلفة للسودان من اليونانيين ، الشراكسة، المصريين، الإنجليز وغيرهم من توابع الاستعمار واغلبها أسر متعلمة ومستنيرة مقارنة بالمجتمع السوداني آنذاك. فاستمال اليها المتعلم السودانى الذى يرغب فى زواج المرأة غير التقليدية فتزوج من هذه الأسر تاركاً وراءه السيدة السودانية فى ثوب العنوسة.
بهذا فكرت كثيراً فى هذا الشأن وسألت نفسى ما هو مصير المجتمع السودانى لو استمر الأمر هكذا، حتى استقر تفكيرى فى خطة تحجيم الظاهرة بفتح باب التعليم النسوى فى العام 1907 وكانت الرفاعة منصة الانطلاق.
بهذه الغيرة القوية من الرجل النادر فى وقته، صاحب الذهن النادر استقرت القيمة النادرة فى السودان، وهى (تعليم المرأة )، واُرغمتُ على العودة إلى ما سمعتها من نوادر القول للدكتور محمد جلال هاشم الذي يقول فيه، “إذا فرض أحدنا فى السودان ثقافته أو دينه أو جنسه مركزاً للاخرين، سيظل هو ايضاً هامشاً لغيره الذى هو أكثر نقاءاً منه وأقرب نسباً إلى من هو يدعيه إنتماءاً، طالما استنكر ويسعى جاهداً لإخفاء سودانيته الأفريقية.”
جميل، ثمة سيل من الأسئلة تنهمر فى ذهن الإنسان حيال هذا الواقع!!!!
هل تخيلتَ يوماً، أين يقع مركز مراكزنا اليوم إن لم يبتدر بابكر بدرى بهذه البادرة؟
وما هي أدوات المركز اليوم لصياغة وإعادة إنتاج مجتمع الهامش؟
هل هى تنحصر فقط فيما هو مسموح القول أو المسكوت عنه هو الأعظم؟
ما هي وجه الشبه بين مخاوف بابكر بدرى فى وقته والحوافز الاجتماعية التي يقدمها المركز اليوم لمتعلمى الهامش؟
ألم يكن الزواج من بنات ال( down town ( ما زال يمثل إحدى أدوات تجفيف المجتمع المقهور من رموزه من (أصحاب المال والعلم والجاه؟ ) قد صنع الرجل مركزاً وطنياً بموهبته الفذة رافضاً الخنوع للمركز الدخيل ولكن من ينصف حفيداتك اللائي من سكان الهامش ظللن فى طى النسيان بعد مضى قرنٍ من الزمان؟
لا تزال المرأة السودانية فى حاجة إلى بابكر بدرى.