محجوب حسين
JULY 27, 2014
يحسب للسيد الصادق المهدي رئيس وزراء السودان الأسبق، الذي أطاح به الرئيس السوداني عمر البشير، الذي أفلح في إنشاء أكبر ديكتاتورية في التاريخ السوداني الحديث واكثرها عمرا في أفريقيا والعالم العربي، بل ربما اقتربت حتى من ديكتاتورية «ولاية الفقيه» الفارسية من ناحية عديد سنوات الحكم، حيث لا يفصل بينهما إلا عقد واحد، ان المهدي المطاح به يعتبر أكبر صانع للمبادرات السياسية بدون امتلاكه شروط تنفيذ زمام المبادرة، التي ترمي إلى الخروج من الأزمة الوطنية السودانية، التي تعيش رحاها الدولة والشعب السوداني في أخطر وأدق مرحلة في تاريخه المعاصر. ضمن مبادراته العديدة المتنوعة، الإستراتيجية منها أو التكتيكية منذ توقيع اتفاق «نداء الوطن»، الذي بموجبه دخل البلاد ليخوض صراعه مع الحكم وفق مفهوم «الجهاد المدني» لمقابلة «المشروع الحضاري» الحاكم الذي لم يثمر نتيجة معينة وملموسة، غير أنه ولّد الشكوك حول حقيقة دوره في خلايا المعارضة السودانية، وهو الشيء الذي دفع كثيرين إلى إصدار احكام قيمية معيارية، مفادها أن المهدي يصنف بأنه أحد الخلايا النائمة في تعضيد حكم البشير وتقويته، من خلال جملة مواقف تم رصدها في وقتها من طرف الجمهور الراصد لحراك المهدي في الحلبة السياسية السودانية، بل هو الأكثر فاعلية في عرقلة مسار حراك التاريخ السوداني وإغراق السوق السياسية بكم المبادرات وتعويم الجزء الأهم والمفتاح البارز في الأزمة، وهو استرداد الدولة السودانية من قوم «الجرمندية» في الحكم، وبناء فترة الانتقال التاريخية في السودان، التي فيها تغيرت علاقات الإنتاج والتفاعل والتواصل لصالح قوى اجتماعية جديدة بالضرورة أن تلعب دور القيادة في مفرزات التحول الاجتماعي والثقافي والتاريخي في سودان الامد المنظور.
في سياق المبادرات المهدوية التي خص لها يوم احتفائه بليلة «غزوة بدر الكبرى»، طرح المهدي مبادرته للخروج من المأزق الوطني السوداني الراهن، وكان عنوانها «مشروع بناء الوطن.. التنوع المتحد»، تحت جملة شروط مكررة في مبادرات سابقة، وأخرى جديدة، أهمها أن يبدأ الحوار أولا بين ما سماه «بالأحزاب التاريخية الستة»، فضلا عن حصانة الحريات السياسية والضمانات وآليات المراقبة ودور الاتحاد الأفريقي..إلخ. المهم في دعوة المهدي بل اللافت فيها ليست الشروط، بل ما يحمله العنوان من تفسيرات ومقاربات شمولية، كونها تعبر عن جدلية الأزمة التاريخية في البلاد منذ سنوات الاستقلال إلى يومنا هذا، الأمر يتعلق بجدلية الدولة والتنوع وانعكاسات ذلك- بمعنى المواءمة- مع كل البنى السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية في البلاد، ولعل أولى مقاربات جدلية العنوان/ الإشكالية تشير الى أن المهدي يتحدث عن الجماعة المختلفة ذات الهدف الواحد = التنوع المتحد»، كما اشار ابن خلدون، بمعنى آخر يتحدث المهدي عن إنشاء « كتلة تاريخية» سودانية تستند إلى التنوع لاستعادة بناء الوطن، وفي هذا كأن المهدي يستنجد بالبناء الفكري والفلسفي لمفهوم «الكتلة التاريخية» الذي أبدعه المفكر الإيطالي إنتونيو غرامشي لحل أزمة تورط نخبة التمركز السوداني في صناعة الأزمة السودانية، بدون أن يحدد المهدي هوية هذه الكتلة التاريخية وشروطها، وهل البيئة السودانية في ظل مظاهر انهيار الدولة وشرعية البنى القبلية والجهوية والعسكرية/ المليشياتية كاحد محددات سقوط الدولة، جراء عدم تدبير وإدارة التنوع/ التعدد، جاهزة اليوم لقيام الكتلة التاريخية، وحتى إن قامت هذه الكتلة فما هي مكوناتها وإلى أي أهداف ترمي، وما هي المهام المخولة لها، أليس استلهام مصطلح/ فكرة «الكتلة التاريخية» وتحديد مواصفات لمن يخوضون غمارها بتحديد أولي لما نعته «بالأحزاب التاريخية» يتنافي وتعريف المفهوم ذاته وأصول نشأته والنقلات التاريخية التي شهدها المفهوم، كما تناوله غرامشي، ومن بعده عدد من المفكرين مثل المفكر المغربي محمد عابد الجابري، حيث الجميع يتفقون في أن الكتلة تتكون من فئات وجبهات عريضة من المجتمع لا تحدد بصفوية أو إسقاطات تاريخية تعطي امتيازات باسم التاريخ – المختلف حوله – لمجموعات تعتبر بالنظر إلى الواقع السوداني ومنظور الآخرين بأنها جزء من عقلية الفشل، ومن هنا قام المهدي «بقتل» الشق الأهم في طرح غرامشي الرامي إلى تمثيل أكبر قطاعات المجتمع، اي جبهة عريضة، ومعلوم في هذا الاتجاه أن غرامشي صاحب تفكير فلسفي واقعي كان يسعى من خلال كتلته إلى ردم الهوة، بسبب خلل الدولة بين الشمال الإيطالي الغني والجنوب الفقير، باعتباره أحد مرتكزات الوحدة الوطنية التي لا يمكن ان تأتي في ظل علل المشروع الوطني الإيطالي آنذاك.
وفي هذا المعنى ألم توضح معالم الأزمة في السودان اليوم أن هناك كتلتين تاريخيتين في صراع إرادات مكشوفة وعلنية، بعدما سقطت منظومة القيم السياسية السائدة غير العادلة، وأفضت إلى ما أفضت إليه، حيث فيها انتظم التمركزيين في كتلتهم وشعوب المحيط السودانية في كتلتها التاريخية، ولا حل في الأفق وفق الراهن إلا بتطور المفاهيم السياسية للكتلتين، وأهم تطور في هذا نظرة قوى التمركز للكتلة التاريخية الموازية الأخرى «المحيط السوداني» بأنها كتلة كاملة وتحمل ذاتا عارفة، وتفكر وتجهد وتنتج، ولا خيار إلا بالوصول إلى تسوية تاريخية بين الكتلتين أو أن تصطدم الكتلتان بعدما يحصل الفرز النهائي الذي يحمل جواز استعمال كل الخطابات وعندها كنتيجة هو انهيار مشروع الدولة في السودان، ليتساوى الجميع في عائداته، أي عائدات الانهيار إن وجدت، حيث الآخر تحصل عليها قبل ليلة الوقوع، أو أنه يعيش تحت وطأتها قبل أكثر من عقد، حيث أكثر من عشرة ملايين سوداني يعيشون لاجئين وفي مخيمات وخارجين تماما عن دورة الدولة.
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
محجوب حسين