المجتمع المدني والتعليم : جسر بين معارضتي( الداخل ) و ( الخارج ) أو طريق ثالث
عبد العزيز حسين الصاوي [email protected]
حسب الانباء الصحفيه أوشكت اللجان المتفرعه عن اجتماعات قادة المعارضه في الداخل، والاقواس دلالة علي ان لكلا المعارضتين امتدادات في مجال الاخري، علي الفراغ من عملها. في الوقت نفسه عقدت “ الجبهه الوطنيه العريضه ” مؤتمرها التأسيسي خلال 22-23 اكتوبر الماضي في مدينة لندن، ولاحاجة للتوضيح بأن الاولي تعمل ضمن فسحة الحريه الضيقه المتاحه سلطويا بينما تعمل الثانيه للاطاحه بهذه السلطه نفسها. التناقض، اذن، بين المعارضتين اهدافا ووسائل جلي ولكن هناك في زعم هذه المداخلة قاسم مشترك يجمع بينهما وهو، الي ذلك، قاسم مشترك اعظم يكشف عنه السؤال التالي: ماهي مظاهر وعلامات وجود قوي التغيير الضرورية لتأمين نجاح هاتين المحاولتين بعد فشل المحاولات السابقه؟
هناك بالتأكيد مناخ عام يتراوح بين التبرم والسخط علي سلطة ( الانقاذ ) فاض حتي ظهرانتقادات حادة بأقلام بعض كبار مفكري وكتاب الحركة الاسلاميه ( الطيب زين العابدين، الافندي الخ.. الخ.. )، كما هناك بطبيعة الحال اعضاء في الاطراف المنتمية الي المعارضتين ومتعاطفون معهما، فضلا عن نشاط الحركات المسلحه العسكري –السياسي.. ولكن لماذا لانحس بوجود هؤلاء الاعضاء والمتعاطفين في النقابات واتحادات الطلبه مثلا؟ لماذا لايتكثف هذا المناخ فيمطر حركة متماسكة وفعاله علي مستوي النشاط الشارعي بما أضطر الشباب الي ابتداع اشكال جديده مثل حركة ” قرفنا “؟ لماذا عجزت تضحيات شباب الحركات المسلحه ووصول ” العدل والمساواه ” الي مشارف موقع السلطه، عن إشعال فتيل انتفاضة شامله؟ الاجابه هي ان هذه القوي موجوده وغير موجوده في الوقت نفسه. موجوده بالامكان ولكنها في انتظار ما يحولها الي واقع. فهل تنجح يقظة المعارضة الداخليه وإنشاء المعارضة الخارجيه في إنجاز هذه المهمه؟
بناء الكيان المعارض وخطوط عمله انطلاقا من الأعتراف بنظام الحكم الحالي كما تفعل معارضة الداخل ومن عدم الاعتراف به كما تفعل معارضة الخارج، ليس أمراً جديدا. اوضح الامثلة علي ذلك هو التجمع الوطني الديموقراطي فهو تجاوز في مرحلته الثانيه بعد قبول الحل السياسي عام 2000 صيغة قوي جوبا / الاجماع الوطني الحاليه من حيث عدد ومستوي تماسك اطرافه، كما تجاوز في مرحلته الاولي ( 1989-2000 ) صيغة الجبهه العريضه لاسيما بعد مؤتمر اسمرا للقضايا المصيريه عام 1995 إذ ينص البند الثاني من بيانه الختامي علي : ” برامج واليات تصعيد النضال من اجل اسقاط نظام الجبهة القومية الاسلاميه” متحدثا بأسم كافة اطراف المعارضه شمالية وجنوبيه متبنية العمل العسكري. فما هي اوجه التجاوز للتجارب السابقه في التجربتين الحاليتين لكي نتوقع منهما النجاح هذه المره ؟ كلاهما لاتنقصه الجديه ولاسلامة النيه ولا الاستعداد للتضحيه، فليس من حق أحد ان يفترض غير ذلك في من يتصدي لعمل عام ولكن كل ذلك، ولا الرغبه الحقيقيه في بداية جديدة فعلا تتجاوز قصورات التجارب الماضيه، يغنيان عن الاجابه علي السؤال حول المصدر الحقيقي لهذه القصورات لكي يتسني التركيز علي إزالته تفاديا لخيبة امل جديده. الوثائق الرئيسية للطرفين، وكذلك تصريحات قياداتهما ومايمكن استنتاجه من مقترحاتهما للعمل، لايوجد فيها مايجيب علي هذا السؤال إذ تعيد الوثيقة الاساسية للجبهة العريضه، مثلا، فشل التجارب السابقه الي غياب : ” الهدف الاستراتيجي وهو إسقاط النظام ومسارعة البعض الي المشاركه بدل المقاومه وعن الاتفاق تنازلا بدل المواجهه تغييرا ” . ولكن ، كما ورد أعلاه، هذا الهدف كان قائما في المرحلة الاولي لصيغة التجمع، كما ان تصرفات البعض المشار اليها تقرير لواقع وليست تفسيرا لاسبابه. هذا مايحمل علي الاعتقاد بأن الدافع الرئيسي لاعادة تنشيط اطراف تجمع الداخل وتأسيس جبهة الخارج هو التفاقم غير الاعتيادي لاحساس جميع السودانيين بالتدهور المريع للاوضاع مع اقتراب انفصال الجنوب. وهذا دافع نبيل بلا شك ولكن عدم إهتداء محاولة الاستجابة له بالاجابه الصحيحه علي السؤال سيفاقم حالة التدهور العام التي افضت الي المحذور الانفصالي لان الفشل الجديد الذي سيؤدي اليه ذلك سيعمق درجة الاحباط لدي البؤر القليله المتبقيه من المستعدين للاسهام في العمل العام الي درجة قد تخرجهم نهائيا منه. علي ان الاجابه الصحيحه ايضا لن تمنع وقوع المحذور فقد تأخر حضورها وقد يتأخر اكثر اذا بقيت جهود البحث عنها فردية ومحصورة في بضعة افراد مشتتين في اركان الارض الاربعه، بيد انها تبطئ من درجة التدهور العام تمهيدا لايقافه. فالاجابة السليمه تحدد ماهية المعضله فاتحة بذلك الطريق لتحديد كيفية تذليلها بما يضع امام ناشطي العمل العام خريطة طريق واضحة المعالم نحو نجاح مستقبلي مؤكد بما يبقيهم في الميدان رافعا درجة نشاطهم ومعنوياتهم. وبقدر الجهد الذي يبذل لانضاج هذه الرؤيه من خلال النقاش الجماعي والفردي ووضعها موضع التطبيق يتزايد معدل اختصار المدي الزمني لمستقبل النجاح المنشود.
الخطوط العامه للرؤية التي يقترحها هذا المقال كأجابه تقوم علي ان وجه الخطأ/ النقص الجامع بين استراتيجيتي المعارضه ( الداخلية ) و( الخارجيه )، رغم الاختلافات بينهما اهدافا ووسائل، هو التركيز الحصري علي النتيجه دون السبب، علي ( الانقاذ ) دون عوامل انتاجها. كلاهما لايتأسس علي بديهية انه قبل الانقاذ- السلطه كانت الانقاذ -الحركة الاسلاميه وكانت عوامل نموها السريع منذ السبعينيات بعد مرحلة ضمور خارج المجال الطلابي منذ الاربعينيات بعكس رصيفتها عمريا وهي الحركة الشيوعيه. كان التزامن بين هذا النمو ووصول الازمة الاقتصاديه المعيشيه حد المجاعه في الغرب والجنوب منذ سبعينيات القرن الماضي، ومن ثم تفاقم الحاجه النفسيه والذهنيه للاسلام حتي لدي النخب المدينيه ( قوي الانتفاضه سابقا) معززاً بفشل التجارب العلمانيه عربيا وعالميا. باختصار تعاظم قابلية الاستجابه للخطاب الديني المنقول من تراث متجمد منذ قرون تتراوح بين القبول به الي درجة الاستعداد للموت دفاعا عنه والرفض السلبي تحت طائلة الارهاب الفكري. هنا يكمن سر دوام الهيمنة ( الانقاذيه ) علي البلاد والعباد رغم انقسامها والضغوط الخارجية والداخلية عليها، لذلك فأن النظام القائم وجد ويوجد الان في عقل ونفسية الناس قبل وجوده في الحكومه والاجهزه العسكريه والمدنيه، فكيف يمكن لاستراتيجية معارضه ،أيا كانت وسائلها واهدافها، الا تشمل مكوناتها ولو مكونا واحدا علي الاقل يعالج هذا الجانب الاساسي من المعضله ؟
تحرير العقل السوداني من الاسلام السياسي المتحول الي، او المختلط ب، الاسلام الصوفي والسلفي الجهادي وغير الجهادي، هو ميدان معركة كبري ( المعركة الكبري ) مع نظام ( الانقاذ ) إضافة للميادين الاخري يساعد في كسبها تأكيدا زواله ولكن أيضا يستحيل كسبها حقيقة اذا لم تبدأ قبل ذلك ومنذ الان سواء كان الهدف هو تحجيم الانقاذ ( معارضة الداخل ) أو الاطاحة بها ( معارضة الخارج ). بغير ذلك سنواصل ارتكاب الخطأ التاريخي الذي نجم عنه توالد الشموليات تصاعدا عمرا وتخريبا، وهو اقتصار مكونات استراتيجيات المعارضه للانظمة الانقلابية المتتاليه علي تلك المتعلقة بمواجهتها كنظم سياسيه دون مكون يعالج مصدر وجودها وتوالدها الرئيسي وهو التقلص المضطرد للوعي الديموقراطي لدي النخب المنوط بها عملية التغيير نفسها نتيجة تراكم مؤثرات هذه الانظمه علي حياة البلاد المادية والمعنويه خلال مايتجاوز الخمسة عقود من الزمان .. وفي ميلاد نظام الشمولية الدينية الحالي وبلوغه سن العشرين وموعودا بأعياد ميلاد قادمه، الدليل الملوس علي الدرك السحيق الذي انحدر اليه هذا الوعي نتيجة لتكرار الخطأ.
من السهولة بمكان تحديد المكون الغائب عن استراتيجيتي المعارضتين ( الداخليه ) و ( الخارجيه ) إذا استعدنا للاذهان حقيقة ان بدايات تحرير العقل السوداني وتملكيه أدوات الفهم العقلاني للدين والتراث ارتبطت بأشعاعات إدخال التعليم النظامي بواسطة الادارة البريطانيه ( علوم طبيعيه وانسانيه، لغه انجليزيه، مكتبات مدرسيه الخ.. الخ.. )، وان المجتمع الاهلي/ المدني ممثلا في التجمعات الاولي لحركة الاستقلال الوطني لعب دورا بارزا في توسيع نطاقه بتشييد المدارس الاهليه. مع الحقبة النميريه، وأمتدادها الانقاذي الاكثر خطورة بمراحل، جاءت سياسات التوسع الكمي للمنظومة التعليميه المصحوب بأفراغها نوعيا، مناهج ووسائل تدريس، لتعيد العقل السوداني الي غياهب الماضي، بدلا من تطوير النظام التعليمي البريطاني الحديث الي سوداني حديث. في الان نفسه تكفلت الممارسات الشموليه عموما، وقانون مثل قانون العمل التطوعي لعام 2006 بصورة خاصه، بتحنيط المجتمع المدني في القبضة الرسميه بحيث فقدت هيئاته في مجالات الحياة المختلفه خاصيتها المميزه كنشاط طوعي حر يدرب المواطنين علي إدارة شئونهم بأنفسهم وانتخاب قياداتهم ومساءلتهم. من هنا فأن مايجعل اي استراتيجية معارضه جديده فعلا ومنتجه فعلا هو تضفير قضية التعليم- المجتمع المدني ضمن سلسلة اهدافها الاخري حتي لوكانت تعطي الاولويه لإسقاط النظام كما هوالحال بالنسبة للجبهة العريضه إذ لابد من البدء منذ الان في التمهيد لتذليل معضلة ضعف الوعي الديموقراطي وهذا غير ممكن دون تثقيف كوادر المعارضه بالعلاقه بين نوعية التعليم وحلحلة الازمة العامه التي كان صعود الحركة الاسلاميه ثم إنبثاق الانقاذ عنها أحد مظاهرها كما مسببها الرئيسي. والحق أن من الممكن الذهاب تمهيديا أبعد من ذلك لان قدرا معينا من الاصلاح التعليمي ممكن التحقيق حتي بوجود الانقاذ رغم كل التصورات والحجج المعاكسه لان القدر المعني محدود محصوراً في تعديل جزئي للسلم التعليمي والمناهج، ولان أداة التنفيذ هي المجتمع المدني اللاسياسي بصورة رئيسيه. بعد ذلك هناك مقولة انه ” لاشئ ينجح مثل النجاح” فخطوة النجاح الجزئية الواحده لاتتكرر بنفس الوتيره وأنما بما يمكن ان يتحول الي متوالية هندسيه، لانها تحيي امل الخروج من الازمة العامه وتعيد الجمهور الي ساحة العمل العام أفرادا ثم جماعات.
معلوم ان طبيعة السلطة الحاليه لاتسمح بقيام هيئات اهليه مستقله ولكن معلوم أيضا أنها لاتستطيع منع مؤيديها والمتأثرين بنوع الاسلام غير المستنير الرائج الان من الاحساس بالاثر المدمر لعيوب النظام التعليمي الراهن علي مستقبل ابنائهم وبناتهم والرغبه في تحسينه. والدليل علي ذلك انه حتي جهد المتابعه والتوثيق الفردي المحدود لكاتب هذا المقال يعثر علي مايؤكد ذلك متمثلا في أهم نماذجه المتعدده وهو تطور شكاوي د. حامد محمد ابراهيم وزير التعليم العام السابق من شح التمويل الي الحاجه لمراجعة المناهج وتعديل السلم التعليمي ثم الي التصريح بأن مصدر هذه المطالب هو الولايات واتحاد المعلمين المهني ( جريدة الصحافه 6 اكتوبر 2000). اذا كان هذا هو حال مؤيدي النظام، بما في ذلك بعض قياداته النقابيه، الذين تفصلهم عن اثارة قضية الاصلاح التعليمي حواجز الولاء له فما بالك بالاخرين المجردين عن هذا الولاء إما لانهم غير معنيين أصلا بالشأن العام ولايهمهم سوي مستقبل ابنائهم وبناتهم، وهم الاغلبيه، او لانهم متأثرون بجو المعارضه. التعامل الذكي والبعيد النظر للمعارضه داخلية كانت أو خارجيه مع مايبدو جليا انه توافق مجتمعي عابر للولاءات السياسيه علي ضرورة الاصلاح التعليمي يقتضي الالتزام الكامل من جانبها بتحييد المجتمع المدني سياسيا اي عدم رهن انخراطها فيه بخلوه من مريدي الانقاذ حتي لو كانوا عناصر قياديه .. ففي المجتمع المدني مقياس الحكم علي الاعضاء هو الاداء الفعلي لتحقيق الاهداف المناطه بالجمعيه أو الهيئه المعينه والالتزام بدستورها ولوائحها وليس انتماءاتهم السياسه أو غير السياسيه. يصح هذا علي ابسط تشكيلات المجتمع المدني المتخصصه في موضوع التعليم ( مجالس الاباء) وفي التشكيلات الاعقد مثل ” منظمة تطوير التعليم ” وأي هيئة اخري تنشأ في هذا المجال.
حتي اذا افترضنا عدم صحة هذه المعلومات حول التوسع الكبير لدائرة الاحساس بأزمة التعليم وتاليا امكانية البناء عليها، فأن دمج قضية اصلاحه بدرجة ما وبشكل ما في استراتيجية عمل المعارضه داخلية كانت أم خارجيه يبقي المفتاح الوحيد لتحويل الوجود الامكاني لكوادرها الي وجود واقعي لانهم الاقدر علي أدراك علاقته الاكيده بتفكيك أزمتها كجزء من الازمة العامه، كما شرح أعلاه، محفزا إياهم للعمل علي ابتداع وسائل عمل بديله ولكنها تخدم نفس هدف تطوير وعي الجمهور العام. بدون مقاربة من هذا النوع لقضية تطوير العمل المعارض فأن حال معارضة ( الداخل ) سيبقي علي حاله من قابلية للتشرذم والركود بينما تبقي صيغة ” الجبهة العريضه ” مواجهة بالسؤال التالي : تجربتا ” قوات التحالف “ (عبد العزيز خالد-تيسير ) وحركة حق ( الخاتم- وراق ) اجتذبتا في مبتدأ أمرهما من التأييد الكاسح مايتناسب مع جدة مجالات العمل التي افتتحتاها والجهد الراقي والشجاع المبذول فيهما والمصداقية العالية لقياداتهما، فهل من المعقول تفسير ماأنتهي اليه امرهما لاحقا بعوامل ذاتيه؟ لابد ان هناك عوامل تفسير موضوعيه وهذا المقال محاولة لالقاء الضوء علي هذه الزاويه الرئيسية من الموضوع.
( عن جريدة الاحداث 3 نوفمبر 2010 )