الفلاتة سودانيون … من الذي يحدد شروط المواطنة؟
محمد حسين
تربطني علاقة صداقة راسخة بشخص رائع ,ينحدر من قومية الفلاتة العريقة و القديمة قدم كل القبائل السودانية ,وفى واحد من ايام دراسته الجامعية, حجز صديقي العزيز كعادته مقعد فى الصف الامامي من قاعة المحاضرات ,كان ضمن المئات من طلاب العلم يتابعون بشغف المحاضر المنهمك, فجأة قاطع تركيزهم صوت طرق على الباب ,كانت طالبة متأخرة تستأذن الدخول ,امتعض الأستاذ و انزعج حتى فقد وقاره كقدوة وبأسلوب عنصري بغيض لا يليق بالعلماء قال للفتاة ” ادخلى عاملة كدا ذي بت الفلاتة “.
للأسف تعامل جميع الطلاب داخل القاعة مع هذه الجملة الفجة بنوع من عدم المبالاة ,لكن صديقي الجالس فى الصفوف الامامية تصدى الموقف ,و بصوت عالي قال للأستاذ “احترم نفسك و تأدب انت فى مؤسسة تعليمية” جملة غير متوقعة ,لجلج على اثرها العالم المفترض و ارتبك بشكل مثير للشفقة ,مما اضطره على الخروج مهرولا لعله يدارى شعوره بالحرج ,اثار صديقي الموضوع مع ادارة الجامعة و التنظيمات الطلابية السياسية داخل الحرم الجامعي, لكن كعادة السودانيين المشجعة للإفلات من العقاب تم احتواء الموقف من غير ان تقدم الجامعة او الاستاذ اى اعتذار رسمي عن هذا السلوك.
اتخذت هذه القصة كمدخل لمناقشة احدى كبريات القضايا الاجتماعية ,التى استفحلت فى معظم ربوع السودان بدرجات متفاوتة الا ان العاصمة الخرطوم نالت النصيب الاكبر ,هى قضية اجتماعية و سياسية شائكة و مسكوت عنها ,لكنها تنهش ببطء نسيج الروابط الاجتماعية بين الشعوب السودانية ,و تفصل بين افراد المجتمع بمعايير ترتيبية عرقية مقيتة ,و تلصق وصمة و عار متوهم ببعض الاجناس ,انه وباء عضال يندرج تحت قائمة العنصرية و التمييز, اللتان تسببتا فى تهميش و اقصاء اجتماعي و سيأسى مزدوج لفئات عريضة من مكونات الشعب السودانى ,اغلبهم من السودانيين الذين تعود جذورهم الى غرب افريقيا.
و حتى لا يحدث اى التباس للقارئ يعزز من المفاهيم المغلوطة السائدة بشان هذه القوميات اود ان اوضح ان دراسات علم الاجناس الأفريقية المبذولة تفرق ما بين الفلاتة ,الهوسا ,التكارنة ,التكرور ,البرنو, الامبرورو و الايبو وغيرهم من شعوب غرب افريقية الذين تفاوتت هجرة بعضهم الى السودان نسبيا ,ورغم التداخل الثقافي و الاجتماعي الكبيرين بين هذه الاثنيات الا انه من الخطأ تسميتهم جميعا بالفلاتة التى تعنى شعب أفريقي له ميزات و خصائص تختلف عن الهوسا و التكارنة مثلا, و مثال لهم فى السودان أولئك الذين يعيشون فى تلس بجنوب دارفور و الابيض و الجدير بالذكر ان تاريخ سلطنات دارفور ذكر فيه ان الفلاتة و الهوسا و البرنو كانوا ضمن شعوب تلك الممالك ,اى ان بعضهم كان يعيش فى السودان قبل قرون من الان.
ان تهميش هذه المجموعات التى تسمى خطأ بالفلاتة فى السودان ,عززتها ثلاثة اسباب ,الاول مرتبط ارتباط وثيق بثقافة بعض هذه المجموعات نفسها ,و الثاني بسبب القيم المجتمعية السودانية المحطة من قدر بعض الاثنيات و ادعاء النقاء و الاستعلاء العرقي كأحد افرازات مازق الهوية السودانية ,اما السبب الثالث ايضا مرتبط بمأزق الهوية فى ثوبه الرسمي الذى تمثله الدولة السودانية العربية التى تعامل سلطاتها بمختلف انظمتها اعضاء هذه القوميات على انهم ليسوا سودانيون ,وحرمتهم عن عمد من حقوقهم فى الحصول على الجنسية ,اما اذا اعترفت بهم كمواطنين تجدها تبتزهم لأغراض سياسية مثل الانتخابات.
سوف نورد بعض الشواهد بشكل مختصر و غير مخل لإثبات فرضية ان بعض ثقافات هذه المجموعات كرست معاناتهم وزادت من تهميشهم ,اجد فى حى (دار النعيم) احد احياء (مايو) جنوبي الخرطوم المثال الجيد ,باعتباره التجمع السكاني الرئيسي لهذه المجموعات بالعاصمة القومية, سكان دار النعيم مجتمع مسلم و متدين تسود بينهم ثقافة مناهضة للنظام التعليمي المتعارف عليه (المدرسة), و كانوا فى السابق يمجدون التعليم الديني التقليدي “الخلوة” لكن هامش التمدن اجبرهم على التخلي عن التعليم الديني و الاستعاضة عنه بامتهان الحرف و الاعمال الهامشية التى لا تحتاج الى مهارات او تعليم, على عكس سكان نفس المجموعات فى (سنار ,كسلا ,نيالا) التى ما زالت تتمسك بالتعليم الديني رغم انحساره نسبيا بشكل عام ,وهى ذات الثقافة الدينية الشعبية السائدة فى مجتمعات شمال نيجريا, ان ظاهرة حرمان اطفالهم من التمتع بحقهم فى التعليم الحديث سواء كان لأجل الخلوة او العمل ,تعاظم اكثر بسبب عجز الحكومة السودانية عن توفير التعليم الأساسي الإلزامي و المجاني كأحد التزامات اى حكومة محترمة و راشدة.
كذلك يتجنب بعض اعضاء هذه المجموعات عدم توثيق واقعات ميلاد اطفالهم لدى السلطات تفاديا للأسئلة المتعلقة بإثبات هوية الوالدين خاصة ان الاعتقاد السائد لدى معظم المسؤولين الحكوميين ان هؤلاء (الفلاتة) اجانب ,و القليل من اعضاء هذه المجموعات لا يرون فى شهادة الميلاد اهمية, ان الممارسات او الانتهاكات الثلاثة ان صحت التسمية ,التى تتمثل فى حرمان اطفالهم من التعليم ,وعدم استصدار شهادات ميلاد لهم بالإضافة الى الدفع بهم كعمالة ,انطوت عليها سلسلة من النتائج العكسية ,اولها تفشى الامية التى حصرت اغلب انماط انتاجهم فى الجهد العضلي المعروف بمحدودية الدخل و تعدد المخاطر الصحية منها و الاجتماعية حيث تجعلهم على الدوام عرضة للسخرة و الاستغلال ,و يلاحظ ايضا ان معظم سكان التجمعات البشرية المحيطة بالخرطوم (الحزام الاسود) تشاركهم نفس الإشكالية ,وان عدم تسجيلهم للمواليد سواء كان بسبب خوفهم من تحقيق السلطات او لعدم ادراكهم باهميتها افقدتهم بشكل جماعي حقهم فى الحصول على وثائق رسمية تثبت هوياتهم كسودانيين.
يعتبر سوق (ستة) القديم بمدينة (مايو) و المجاور لحى دار النعيم واحد من اكبر محطات العاصمة القومية المفرخة للعمالة اليدوية الهامشية بكل انواعها ,الشباب يتوجهون نحو المنطقة الصناعية ,والاطفال الذكور يقصدون مثلث الخرطوم حيث يعملون فى غسيل العربات او نظافة الاحذية ,اما الفتيات فهن الاكثر عرضة للاستغلال بسبب طبيعة الاعمال المنزلية التى ياديهن بالأحياء الخرطومية الراقية فى اوقات سابقة قبل ان تسيطر الاثيوبيات و الأسيويات على سوق عملهن ,ليضطررن على الانخراط مع اخواتهن المهمشات فى تجارة المكسرات و الشاي والاطعمة البلدية فى الاماكن العامة, الا ان هذه الاعمال المكشوفة ايضا لم تجنبنهن سخط السلطات (الكشة) ,او التحرش و المعاكسات العامة.
اما الشق المجتمعي كسبب ثاني ادى الى تعزيز عزلة و اضطهاد القوميات السودانية من اصول غرب افريقية و تهميشها اجتماعيا هى نزعة بعض السودانيين التى تميل الى وصم بعض القوميات او الشعوب بصفات محطة من قدرهم كبشر ,مثلا يستخدم على نطاق واسع فى شرق السودان لفظ ” نص مكنة ” لإنكار سودانية بعض المجموعات فى شرق السودان او ” حبشي” كدلالة على العهر اذا كان الموصوف سيدة و التخلف اذا كان الموصوف ذكر ,و “حلبى” فى اشارة الى البخل او التسول و على ذات النسق احتلت “فلاتي” موقع متقدم فى القاموس الشعبي كإشارة الى انبتات الاصل او الجهل لا تقل فظاعة فى سياقها العنصري عن كلمة عبد او فريخ او جنقاى.
صار الوصف بفلاتى نعت ممعن فى الاقصاء و التحقير يصنف الموصوف فى خانة الاشخاص غير المرغوب فيهم اجتماعيا باعتباره اقل انسانية من بقية البشر ,و هكذا يحقر و يصد المجتمع بوعى او غير وعى كل الجماعات المنحدرة من اصول غرب افريقية باعتبارهم اجانب ,و يضعهم بذلك فى درجة متدنية من الترتيب الطبقي المجتمعي ,مما فاقم من عزلتهم كسودانيين و اعاق عملية اندماجهم و استيعابهم كأعضاء فاعلين فى المجتمع ,فاجبروا على تفضيل السكن مع بعض فى مستوطنات بشرية منعزلة ,و حرموا من انشاء علاقات اجتماعية مثل الزواج او الصداقة خارج نطاقهم العرقي و الاجتماعي, فدفع هذا الازدراء الرسمي و الشعبي بعضهم قسرا ,خاصة اصحاب البشرة الاكثر اشراقا على انكار اصولهم لاعتقادهم ان ذلك سوف يسهل عملية قبولهم اجتماعيا و يجنبهم الوصف بالأجانب.
اما على الصعيد الرسمي نستطيع ان نستشهد بعشرات الامثلة لكن دعونا نكتفى بثلاثة امثلة تجسد كل انواع الاضطهاد الرسمي الذى يتعرض له هؤلاء السودانيين من قبل مختلف مستويات الدولة كسياسة رسمية ,و هنا نمنح المثال الاول لرئيس الجمهورية الذى تعتبر اقواله تعبير صريح عن السياسات الحكومية العليا ,فى اكتوبر 2008 نسب الي الرئيس البشير تصريح يشكك فى سودانية الهوسا ,خرج على اثره شعب الهوسا فى كل من القضارف و كسلا فى مظاهرات سلمية نددت بتصريح الرئيس الا ان السلطات واجهت المتظاهرين بقمع عنيف استشهد فيها سبعة اشخاص و جرح اكثر من مئة شخص .
و على مستوى اقل من رئيس الجمهورية نجد فى نموذج السيد احمد عباس والى سنار دلالات لا تقل فى وضوحها عن تعليق الرئيس و تعكس بشكل سافر السياسة التى تنتهجها الدولة فى عدم احترام التنوع و التقليل من شان السودانيين غير الناطقين بالعربية ,فى ابريل 2013 صرح والي سنار بان سبب تدنى التعليم فى ولايته يعود الى وجود قوميات غير ناطقة بالعربية مثل الفلاتة و بعض قبائل غرب السودان واصر بشكل غريب على تصريحه رافضا الاعتذار وقال “الداير يشتكى يشتكى”, وهنا يقفز سؤال مهم لماذا تفرض الدولة على ابناء هذه الشعوب السودانية التعلم بلغة لا يطيقونها و لا يفهمونها .
سنة 2009 ذهبت فى زيارة رسمية لمدينة الجنينة بغرب دارفور و اثناء فترة إقامتي هناك و بالصدفة التقيت فى مناسبة اجتماعية بضابط امنى رفيع كان قد احيل الى التقاعد بعد مفاصلة رمضان الشهيرة ,و اثناء نقاش على هامش المناسبة صدمني الرجل بمعلومات مثيرة و مدهشة ,قال ابان خدمته كمدير لمكتب امن الجنينة فى بواكير الانقاذ ,طلب منه رئيسه المباشر تنفيذ حملة تفتيش على المعابر الحدودية المعدية الى تشاد ,و مصادرة اى اوراق ثبوتية سودانية بما فيها الجنسية من الاشخاص الذين سوف يعبرون تلك الحدود, التى تعتبر الطريق الوحيد الذى يربط هذه الشعوب بأصولها فى غرب افريقيا, وقال ان الجهود التى بذلها فريق عمله لبضعة اشهر اسفرت عن جمع اكثر من اثنين جوال “خيش” معبأة بالجنسيات السودانية ,فى مخالفة صريحة للقانون السودانى الذي يحظر نزع الجنسية بالميلاد ,ويعرف السودانى بالميلاد بشكل صريح لا يمكن التحايل عليه او تفسيره ضد هذه القوميات و ان نفس القانون لا يصادر حق اى مواطن فى التمتع بجنسيتين.
ويتجسد النموذج الثالث فى الحملة الشرسة القائمة على التمييز و التى تشنها الدولة حاليا للقبض على مواطنين سودانيين لا يملكون وثائق تثبت سودانيتهم و تقوم بترحيلهم الى بلدان افريقية اخرى تحت غطاء ما يسمى بمحاربة التسول و الظواهر السالبة بالعاصمة القومية كما صرحت بذلك وزارة الرعاية الضمان الاجتماعي اكثر من مرة ,وكذلك صرحت الشرطة السودانية فى العام 2013 بانها ضبطت اكثر من 12 الف متسول في الخرطوم خلال الخمسة أعوام الماضية كنتيجة للحملة التى تجرم التسول ,و ان هذه الحملة بنيت على اساس اعتقاد رسمي ان المتسولين الذين يملؤون شوارع الخرطوم تم استجلابهم بشكل منظم من دول غرب افريقية .
تتخذ الحكومة هذا الادعاء كتبرير و غطاء لشرعنة هذه الحملات و تضليل المواطن بان هؤلاء اجانب ,بالرغم من عدم امكانية استبعاد بان من بينهم ربما بعض الاجانب الا ان الشواهد الماثلة تشير الى ان سياسة الافقار الممنهج التى اتبعتها الانقاذ لمدة 25 عام لم تستثنى الا الفئة الباغية و ان التسول فى السودان اصبح الوسيلة الوحيدة للنجاة بالنسبة لشرائح عديدة, ,وهل شكل السودانى المتسول الذى تميل ملامحه الى شعوب غرب افريقية او اجادته للغات تلك الشعوب دليل على انه غير سوداني و يجب طرده بشكل مهين و مذل لكرامته مع انه قد يكون ولد فى السودان او مقيم فى السودان لأكثر من خمسة سنوات و حرم بسبب السياسات الرسمية من الحصول على وثيقة هوية.
قد يثير البعض سؤال استنكاري يشكك فى زعمي ,على شاكلة كيف تقبل الدول الافريقية عودة اشخاص لا يحملون ما يثبت انهم من رعاياها ,و هنا اقول ان الامر يتعلق بالفساد ,كل الحكام الافارقة و انظمتهم فاسدين مع بعض الاستثناءات, و الا كيف قبل منقستو و نميري صفقة نقل الاف من المواطنين الأثيوبيين عبر السودان الى اسرائيل (الفلاشا) ؟,و كيف قبلت حكومة النيجر ترحيل عدد من القبائل العربية المزعجة للسودان بغرض ضمهم على مليشيات الحكومة من الجنجويد الذين يعيثون قتلا و حرقا فى دارفور؟ ,و حسب ما اخبرني صديقي الإرتيري, ان نظام اسياسى افورقى فى ارتيريا باع اكثر من 5 الف وثيقة سفر ل(بدون) الكويت كحل مؤقت لسياسة الحكومة الكويتية التى تحرمهم من حقهم فى الحصول على الجنسية و وثائق السفر الكويتية ؟,واذا ما صحت التسريبات الاخيرة سوف يتساءل الناس ,كيف وافقت الانقاذ و بجرأة تحسد عليها قبول مجرد فكرة توطين بعض بدون الكويت فى شرق السودان؟.
جميع شعوب القارة الافريقية كانوا مثل الشعب الواحد من حيث التداخل و المصاهرة و الهجرات الجماعية تم فصلهم عن بعض لتسهيل ادارتهم و نهب ثرواتهم من قبل المستعمر الأوربي الذى رسم حدود من خياله فصل بها بين القبائل و الاسر ورسم حدود سياسية وهمية لا تعترف بها العديد من الشعوب التى تربطها اواصر الدم و المصاهرة و الثقافة,و السودان كنموذج لأفريقيا مصغرة يحتضن اناس يتباينون بشكل كبير فى الالوان و السحنات و الاصول لكنهم يطمحون ان تتم معاملتهم جميعا كرعايا لدولة حديثة لا تعتمد العرق ضمن المعايير الاساسية لتحديد و تعريف المواطنة حتى يتمتعوا بحقوقهم الدستورية كاملة غير منقوصة ,و بذلك سوف لن يروا ضيرا فى ان يكون من بينهم سوداني من اصل سكسونى و اخر هاشمي او فولانى او حبشي او قبطي ,و انهم جميعا سودانيون سوى كانوا بالميلاد او بالإقامة او الزواج المختلط و ان اختلفت اصولهم, فمن الواجب علينا كشعوب و حكومات ان لا نساوم على سودانية الفلاتة و غيرهم ,و ننفض عن اذهاننا افكار الجاهلية التى تعيق تقدمنا نحو الافضل.
محمد حسين
27 ابريل 2014
[email protected]