العقيد الركن مصطفى التاي
جاء فى كتاب البر والصلة والاداب للامام مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إن الله يعذب الذين يعذبون الناس فى الأرض
وقال الفاروق رضى الله عنه: ليس الإنسان بأمين على نفسه إذا جوعته أو ضربته أو وثقته
وقال الشهيد عمر المختار- ان الظلم يجعل من المظلوم بطلا وأما الجريمة فلا بد أن يرتجف قلب صاحبها مهما حاول التظاهر بالكبرياء
هالني التعاطف الكبير الذي وجدته رسالتي الأولى للسيد صلاح عبدالله قوش والتي نشرها أكثر من موقع إليكتروني. وهالني كذلك كم الرسائل التي تلقيتها في إيميلي، والمكالمات التلفونية التي استقبلتها من داخل مكان أقامتي وخارجها. وللحقيقة فقد أحسست أن هذه المواساة قد أنستني بعض الغبن تجاه تلك الأيام الكالحة التي عشناها في بيوت الاشباح. وأكدت لي أيضا أن مجتمعنا ما يزال بخير رغم محاولة أهل النظام تشتيت جهوده، وضرب وحدته، ونسيجه الاجتماعي.
لقد عبر الكثيرون بمختلف مشاربهم السياسية والثقافية في الانترنت عن تقديرهم لوقفتنا ضد التعذيب الذي لم أنال منه وحدي سياطه التي تلهب الجسد، وإنما كان قد ناله كذلك الآلاف من شرفاء بلادي الذين صمدوا لآلات التعذيب الصدئة التي إغتالت العديد من الذين قالوا لا في وجه الاستبداد. ولقد أحسست أن الذين عبروا عن ضيمهم قد أذاقهم أيضا النظام هجران البلد أو الإبعاد من الوظيفة، أو جعلهم يعيشون على هامش الحياة. وهاهنا هم مقموعون لا يستحقون حرية التعبير، أو التجمع، أو الإسهام في تنمية وتقدم الوطن. وهناك الملايين من بنى جلدتنا والذين هربوا بأطفالهم، تاركين الزرع والضرع وراء ظهورهم، وسكنوا معسكرات النزوح ينتظرون المنظمات الانسانية لتطعمهم من جوع، وتأمنهم من خوف. إنهم في معسكراتهم لا يطمعون فى مستقبل أفضل، ولم يرغبوا أن يكونوا طالبى سلطة أو ثروة، أو وظيفة، أوالحد الادنى من الخدمات. وهناك الطلاب الذين يقتلون بدم بارد كل صباح.ليس لجريمة اقترفوها، أو سياسة مارسوها، فقط لأنهم طالبوا بحقهم فى أن يواصلوا تعليمهم.وهكذا ما كان لهم إلا أن يعبروا عن ذلك بطريقة حضارية. ولعل زملاء قوش يدركون تمام الإدراك أنه قبل الإنقاذ كان محرما على الأجهزة الأمنية، نظامية كانت أم رباطة دخول الحرم الجامعى. وكلنا نذكر أنه عندما دخلت الشرطة الحرم الجامعى فى ستينات القرن الماضى كانت ثورة اكتوبر. فهل يكرر التاريخ هذه الأيام نفسه؟
إن من تعاطفوا مع قضيتي سودانيون وسودانيات بمختلف أجيالهم عانوا الحرمان من الوظيفة التي دفعت البلاد الملايين من الدولارات ليتأهلوا لها، وآخرون هجروا مناطقهم بسبب سوء الأحوال وفقدان الخدمات الاساسية. ولعلهم كلهم آبائي وأخواني وأخواتي وأبنائي وبناتي الذين كان لهم نصيب من الألم كما ناله الذين دخلوا بيوت الاشباح.
إن المواساة التي غمرتني بعد نشر رسالتي لقوش جعلتني أحس أن معظم السودانيين تساوى عندهم الغبن وتعالى بسبب سياسات النظام التي يتكامل فيها عذاب بيوت الاشباح مع أي درجة من درجات الظلم التي اقترفها قوش وزملاؤه، سواء في الأجهزة الأمنية أو المؤسسات التابعة لهم. وقناعتي أن وظيفة الذين يعذبون في بيوت الأشباح كانت درجة من درجات الوظائف التي تتضامن لحماية النظام. ولعل سكوت كل الذين كانوا في دوائر النظام وغضهم الطرف عن وجود حقيقة بيوت الأشباح ما هو إلا اعتراف ضمني بأن دور بيوت الأشباح مثل دور وزارة الخارجية إن لم يكن مثل دور التلفزيون الذي سعى إلى إدانتنا وتلطيخ سمعتنا عبر تلك الحلقة التلفزيونية التي عرضتنا كمجرمين قبل أن تبدأ إجراءات المحاكمة.
كل هذا الفيض من المشاعر الإنسانية نحوي هو ما شجعنى على أن اتبع رسالتى الأولى بثانية وسأتبعها بإذن الله بنشرتفاصيل كل ما واجهته وشاهدته داخل معتقلات الإنقاذ وسجونها. وساورد أسماء زبانية التعذيب حقيقية كانت ام مستعارة. وذلك لكي يعرف الذين ولدوا وشبوا فى عهد الإنقاذ حجم وبشاعة الجرائم التى ترتكب فى الخفاء بعيدا عن الأعين، وأيضا عسى أن يسمعنا كبارهم الذين رفضوا الاستماع لنا وربما ليصدقنا الذين إستمعوا لنا وكانو من المكذبين.
إنني اقول لقوش إنه قد تحدثت كل وسائل الإعلام عن نقلك من مستشفي إلي آخر. لا بد أنهم نقلوك بأفخر عربات نقل المرضي (الإسعاف)أو إحدي الطائرات المروحية. ذلك خوفا علي قلبك الذي ربما لا يتحمل هزات مطبات الشوارع التي قيل إن الملايين قد صرفت لإنشائها.ولكن عند أول زخة من مطر إنكشفت عوراتها كأنما هي تقول إن ما صرف عليها هي بضعة ملاليم.
بالضرورة قد إختاروا لك بعناية فائقة فريقا طبيا لمرافقتك. وعند وصولك المستشفى الخاص جدا وجدت، دون شك، أنهم قد أعلنوا حالة الطوارئ ثم استدعوا أمهر الأطباء من مختلف التخصصات. بل وربما قاموا بإخلاء نزلاء غرف المرضي الذين يجاورون الجناح المخصص لما يسمي بالشخصيات الاعتبارية.
وبالطبع تم تأجيل كل العمليات الجراحية حتي يتفرغ الجميع للعناية بقلبك المريض، والذي ربما بدا يستيقظ بعد أن كان يغط في ثبات عميق. ولا بد أن محمد أحمد و فاطمة السمحة هم من قد تكفل بدفع كل تلك التكلفة العالية. ولكن لا أظنك قد سمعت بذلك الطفل الذي توفي بين يدي والديه، وهما علي قارعة الطريق ينتظرون من يساعد في إيصالهم إلى أقرب مستشفي.
ذلك لأن الوالدين، ببساطة، ليس لديهما ثمن تذكرة البص أو الحافلة. هل تعلم أن تكلفة علاج مريض القلب تمكن من إنقاذ حياة مثل هذا الطفل ومئات الأطفال، أو إيقاف سريان الحمي الصفراء والتي بدأت تنتشر في غربنا الحبيب. ولكن عدالة دولة التمكين علمتنا أن تأخذ من فقرائها لتصرف علي أثريائها.أما دول (الفجور والاستكبار) كما تسمونها فيتم فيها علاج الفقراء مجانا وتتواصل العناية الطبية بهم حتي وهم في السرير الأبيض في مساكنهم. والأثرياء منهم يدفعون كل تكلفة علاجهم وحتي مكان وقوف عرباتهم في المستشفيات.
هل تذكر كم من الذين كانوا في معتقلاتكم وهم في أمس الحاجة للعلاج ولم يسمح لهم به؟ وهل تذكر عندما كويتم أجسادنا حرقا وسلختم ظهورنا جلدا بالسياط، عنجا كانت ام خراطيم مياه او فروع اشجار بشوكها. وبدلاً من إرسال طبيب يحمل بلسما أرسلتم من يحمل ملحا ليعمل به دعكا على جروحنا والبهجة تشع بين عينيك يا قوش كلما رأيتنا نتألم؟.
دعك منا، لأننا لا نود أن تتحول القضية إلي شخصية. ولكن هل تذكر المناضل الشهيد علي الماحي السخي والذي كان يتقيأ ما يأكله في الوقت الذي كانت إحدي بناته تقف بالساعات أمام بوابات جهازكم وتتوسل إليكم ليس لحمل والدها إلى المستشفي أو إدخال طبيب له ناهيك عن زيارته لأنها تعرف أن مثل هذه الطلبات عندكم تعتبر من المحرمات كالخمر والميسر والأزلام؟. فقط كانت إبنة الشهيد تطلب منكم استلام ما أحضرته من أدوية كانت تعلم أن والدها محتاج لأن تصله في مكان اعتقاله والذي كان علي بعد خطوات من مكان تواجدها.
أما بلغك أنهم عندما يطول انتظار أبنة علي الماحى يطلبون منها الحضور في اليوم التالي حتي يتحصلون علي تصديق بذلك وتمر الأيام والتصديق يخلف الميعاد كأنما يستصدره البرلمان ولا بد من مروره بقراءه أولي وثانية وربما ثالثة وبينهم فترات ينفض فيها السامر لأن السيد نقطة نظام أشار إلى غياب بعض النواب ونوم أغلب الحضور؟.
بالله عليك ماذا يضيركم لو فقط إستلمتم منها الدواء وتم وعدها بتسليمه إلى والدها مع أنها تعلم تماماً مثلنا ومثل الآخرين أن لا وعود لكم صدقت أو عهود أوفيت. لقد أجبرتم الفتاة آنذاك أن تعود أدراجها برغم حملها بين جنباتها بارقة أمل في شفاء والدها؟ ولكنكم نيتكم المبيتة كانت تهدف إلى مضاعفة عذاب الأسرة وزيادة قلقها علي صحته. وحقيقة أن علي الماحى ما كان متورطا في محاولة انقلابية أو تخريبية وإنما متهما بالشيوعية التي عاديتم البلدان التي تطبقها منذ أول عهد وصولكم إلى السلطة. وكلنا نتذكر أنكم كنتم تنشدون: أمريكا – روسيا قد دنا عذابها. ولقد إنتظر الناس طويلا ليشهدوا هذا العذاب. ولكن النشيد تحول إلى (أمريكا – روسيا مرحبتين حبابها)!
لقد تخليتم عن ذلك النشيد الشعار. وفي أقل من عقد أصبحنا نري أبناء وأحفاد ماوتسي تونج بطول البلاد وعرضها يجوبونها عاملين في مجال البترول والإنشاءات الهندسية. وحتي نسائهم اللائي يجبن الطرقات يبعن دهان الفكس وهن يلبسن ما يبدي زينتهن وكان محرما علي(قدقدو) ورفاقه التعرض لهن. وهؤلاء (الملحدون الكفرة) كما كنتم تصفونهم أصبحوا بين عشية وضحاها هم من تلجأون إليهم طلبا للحماية كلما إشتدت عليكم الضغوط فى المحافل الدولية وداخليا خرج قادتهم من مخابئهم وسمحتم لهم بممارسة نشاطهم وحضرتم مؤتمرهم والذي انعقد بأكبر القاعات الحكومية وقمتم بتأمينه وحمايته بجندكم وخيلكم وشيعتم موتاهم وقرأتم لهم أم الكتاب والصمدية احدي عشرة مرة ولم تقراوا الكافرون كما تقول الطرفة.
.
أخي صلاح:
أقولها لك بكل صراحة وقناعة إن قلبك ليس له علاج، فهل سمعت بميت عاد إلى الحياة؟. إن قلبك بالنسبة لي مات يوم أن قمت أنت وحسن ضحوي المدير الصوري للجهاز بتلفيق التهم ضدي وأنتم تعرفون أنني برئ منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب. وبسبب مكركما تعرضت للتشريد والتعذيب ودخول بيوت الاشباح وسجون مدني وكوبر دون ذنب سوي أنكم كنتم تبحثون عن ضحية تضخمون بها قضيتكم الخاسرة. والحمد لله فأنا الآن أقف شامخا مرفوع الهامة يمكنني التجوال في أي مكان علي سطح الكرة الأرضية ورأسي مرفوع إلي عنان السماء. ولست مطاردا، ولا خائفا، ولا ملعونا، ولا تنتابني الكوابيس ليلا.
إن قلبك مات يوم إعتقلتم شيخ المناضلين الحاج مضوي محمد احمد وكان قد بلغ السادسة والسبعين من العمر- من أشرف وأطهر وأنبل من عرفناهم من السياسيين (رحمة الله عليه) لم ترحموا شيخوخته ولم تكتفوا بإعتقاله ووضعه في زنزانة انفرادية لوحده بل وضعتم له في أعلي سقف الزنزانة جهازا يصدر أصواتا مزعجة وإضاءة ملونة تدور أشعتها مثل تلك التي في نوادي (الديسكو) وتبدأون في تشغيل الجهاز طوال الليل. ولقد ظننتم بفعلكم هذا أنكم حرمتموه من أن يغفو ولو قليلا ولقد هدفتم إلى حرمانه من التهجد وقيام الليل وأنتم مبعوثو العناية الإلهية لتمكين شرع الله في الأرض.
أردتم للشيخ مضوي أن يخرج أصما لا يبصر ولكنه خرج وهو أقوي من ذي قبل. إن قلبك مات يوم أن رأى بعض المعتقلين فى بيت الأشباح العميد كامليو اودينقو وهو ماشيا على قدميه وتم إدخاله الزنزانة رقم 13 وشاهدوه بعد أيام معدودة وهو يخرج منها ولكن على آلة حدباء محمول.
مات قلبك يوم أن مات عبد المنعم سليمان وهو أسير لديكم ولم يتم إسعافه لأن قوانينكم تمنع فتح أبواب سجونكم كلما جن الليل وحتي يتبين الخيط الأبيض من الأسود. مات قلبك يوم أن دخل المحامى عبد الباقى الريح معتقلاتكم برجليه الاثنتين وخرج ينقص رجلا.
نعم فقد مات قلبك يوم أن إعتقلتم ميرغني عبد الرحمن سليمان وزير التجارة الأسبق وهو يلبس جلبابه النظيف وعمامته الناصعة البياض. وأمرتم بحبسه في غرفة كانت تستخدم كمخزن ليس لديها شباك وغير مضاءة وفرشتم أرضيتها بطبقة من الفحم لظنكم أنكم بذلك تهينون الرجل وتهدرون كرامته. مات قلبك يوم أن وعدتم الحسن احمد صالح بأخذه لعلاج عينه والتي تضررت من التعذيب ولكن بشرط أن تاخذونه قبل ذلك للإعتراف بما دونتموه بمحاضر التحقيق الخاصة بكم ولكنه أمام القاضي أخلف وعده معكم وأنكر كل الاتهامات التي وجهت له. وبدلا من أن يؤخذ لتلقي العلاج فإذا بكم تربطونه من يديه وتقومون بسحبه علي الأرض.
مات قلبك يوم أن قد أدمعت أعين الكثيرين من المعتقلين وهم يشاهدون الطفل صاندى إبن الاربعة عشر ربيعا من أبناء جنوب السودان يتم إدخاله بيت الاشباح وهو مبتور الساق. وكان صامتا لا يحادث أحدا وربما كان يسترق النظرمن وقت لآخر لساقه المبتورة بأسى شديد، والله وحده يعلم ما يجيش بصدره لحظتها- وهذه بعض الأمثلة فقط. وهنالك آلاف القصص التي يشيب لها رأس الوليد.
لقد إنفض الآن من حولك الكثيرون. وقد قال بطل مسرحية غرفة بلا نوافذ ( إن الإنسان يموت مرتين الأولي عندما يتوفاه الله والثانية عندما ينساه الأحباب ) فهل أنت مستعد للميتتين؟ الثانية بينك وبين أحبابك إن كان لك احباب. أما الأولي وهى مصير كل إبن انثى وان طالت سلامته-فما بعدها لا يعلمه إلا الله. فقط تذكر أن أيادينا وأيدي غيرنا مرفوعة إلي السماء منذ أكثر من عشرين عاما وستظل إلي آخر يوم في حياتنا ومن بعدنا أيادي أبنائنا وأحفادنا وأحفادهم بإذن الواحد الأحد وإلي أن يرث الله الأرض وما عليها .
أخى صلاح
ختاما اقول لك واشهد الله على صدق قولى إنه بالرغم مما أحمله فى دواخلى نحوك منذ عقدين من الزمان إلا أن الألم ما يزال يعتصر قلبى. وأنا أكتب هذه الرسائل لأننى أحس بوقعها المرير على أسرتك وأهلك المصدقين منهم والمكذبين وهم لا ذنب لهم سوى أنك أنت واحد منهم.ولكنى أقول لهم إنني وغيرى من ضحاياك أيضا لنا أسر و أهل وكلهم من المصدقين.