السودان والادارة الامريكية : واقع جديد يفرض سياسات جديدة

السودان والادارة الامريكية : واقع جديد يفرض سياسات جديدة
عثمان نواي
هدد النظام السودانى بطرد البعثة الديبلوماسية الامريكية من السودان فى حال لم تتوقف الادارة الامريكية عن ما اسمته وزيرة التعاون الدولى “بالترويج لمجاعة فى جنوب كردفان والنيل الازرق وابيي” , وشنت الوزيرة حملة على الادارة الامريكية لعدم دعمها لمؤتمر تركيا القادم حول الدعم الاقتصادى للسودان والذى كانت الادارة الامريكية قد قامت بتاجيله من سبتمبر الى مارس . وكانت الحكومة السودانية قد استدعت القائم بالاعمال الامريكى للتعبير عن غضب السودان من اختراق مواطنين امريكيين احدهما سيناتور للحدود السودانية , وكان السيناتور الجمهورى وولف قد زار معسكر ييدا للاجئين بجنوب السودان ومعه عدد من الناشطين والصحفيين منهم الصحفى الامريكى بجريدة النيويورك تايمز نيك كريستوفر المشهور باهتمامه بقضايا السودان والذى كان من اوائل الصحفيين الذين زاروا دارفور واخرجوا حقائق جرائم البشير للعالم . وكانت السفارة  السودانية بواشنطن ايضا قد ابدت امتعاضها الشديد من تلك الزيارة للسيناتور وولف , بدعوى انها تعرض حياتهم للخطر . وكأن الحكومة مسؤولة عن حياة الاجانب ومهتمة بحياتهم اكثر من اهتمامها بحياة مواطنيها .
بعد عودة السيناتور وولف والمشهور بمواقفه المناهضة للنظام السودانى والبشير الى الولايات المتحدة , قام وولف بمساندة زملاءه من اللوبى المساند لقضايا السودان فى الكونجرس بدعوة وزيرة الخارجية للكونجرس للاستيضاح حول موقف ادارة اوباما مما يجرى فى السودان وخاصة جبال النوبة والنيل الازرق , وموقف ادارة اوباما من الاعتداءات المستمرة لحكومة الخرطوم على حدود جنوب السودان اخرها قصف ابار نفطية قبل ايام . وشنت وزيرة الخارجية الامريكية حملة على البشير معتبرة اياه مسببا لاعاقة تنفيذ اتفاقية السلام الموقعة 2005 والتى بوجبها قامت دولة جنوب السودان المستقلة . وكانت الدولة الوليدة اتهمت السودان بشن هجمات عليها منذ الايام الاولى لولادتها , ولكن الجديد هو الموقف الاكثر حزما الذى بدأت تتخذه الادارة الامريكية تحت ضغط كبير من المنظمات الانسانية والكونجرس والاعلام الذى بدأ يسلط الضوء بصورة اكبر على الاضاع الانسانية المأساوية فى جبال النوبة والنيل الازرق بعد حصار دام ل9 اشهر وتحذير من مجاعة مرتقبة خلال هذا الشهر .
ان العلاقة بين السودان وامريكا تمثل لغزا استعصى على الكثيرين , فعلى الرغم من العداء الواضح والمعلن بين الجانبين الا ان الواقع العملى لا يعبر عن هذا العداء ولا يرقى الى درجة التصريحات النارية احيانا بين الجانبين . فلا الادارة الامريكية تلقى بثقلها تماما بالضغط على النظام باى وسية كانت سياسية او اقتصادية , ولا النظام السودان يائس من دعم امريكا له خاصة بعد الجدل الاخير حول رفع الديون الامريكية وربطها بدخول المساعدات الى مناطق الصراع , اضافة الى حالة التردد  الامريكى الحالية حول المشاركة من عدمها فى المؤتمر الاقتصادى لدعم السودان المقرر اقامته بتركيا الشهر الجارى وهو اشبه بهدية لحكومة السودان لتمريرها عملية افصال الجنوب بسلام , والذى كان يفترض ان يقوم بدعم السودان اقتصاديا  وتكوين شراكات جديدة وتشجيع الاستثمار بعدان فقد عائدات النفط . ولكن الادارة الامريكية وتحت الضغط من مجموعات الضغط التى ترفض دعم الولايات المتحدة للسودان باى وسيلة مترددة وتحاول استخدام المؤتمر لاجبار السودان على فتح مسارات للمنظمات الانسانية لدخول مناطق الحرب , الامر الذى كررت الحكومة رفضها له مرارا , وماطلت فى اتخاذ قرار حول مبادرة قدمها الاتحاد الافريقى والجامعة العربية والامم المتحدة لتيسير ادخال الدعم الى جبال النوبة والنيل الازرق وخاصة مناطق سيطرة الحركة .
تحاول الحكومة السودانية الان الانتقال الى مرحلة الانعزال التام التى كانت عليها  فى فترة التسعينات , حينما قامت بعمليات التجنيد الاجبارى والتجييش باسم الدين وقامت بحملات ابادة على شعب جبال النوبة وجنوب السودان والنيل الازرق . ومحاولة الانغلاق هذه تبدأ بطرد المنظمات وقطع العلاقات الدبلوماسية والتعتيم الاعلامى وملاحقة الصحفيين والناشطين , وهذا ما تقوم به الحكومة السودانية الان , باغلاق كافة منافذ الضوء وتنفيذ جرائمها فى الظلام , حيث لايرى احد , ناسية ان عهد التصوير الضوئى انتهى , وهاهو القمر الصناعى سينتنيل يقوم بعمله كمراقب لتحركات الجيش السودانى من على بعد الاف الكيلوميترات فى الفضاء . والعالم اجمع يتواصل مع تلك الحقائق فى ثوانى , ولهذا ادوات التسعينات ما عادت تجدى الان . وجرائم المؤتمر الوطنى فى مناطق الحرب مكشوفة تماما للعالم قبل وبعد ارتكابها . ولكن الطبع يغلب التطبع كما يبدو ولا يجد البشير من مخرج فيدور فى حلقات مفرغة محاولا الخروج من الحصار المطبق عليه والذى يزداد ضيقا كل يوم .
لقد صبرت الادارة الامريكية على النظام السودانى والبشير لتنفيذ اجندتها فى فصل الجنوب ولكن بعد ان اصبح النظام الحالى كما صرحت هيلارى كلينتون مقوضا للدولة الوليدة فان مرحلة جديدة من المعاملة مع الخرطوم قد بدأت للتو , ويبدو ان البشير قد فهم تماما ان الولايات المتحدة “رمت طوبته” كرئيس , وتبحث الادارة الان عن بديل ربما من داخل المؤتمر الوطنى لمواصلة المسير نحو تنفيذ بنود الاتفاقية قبل ترك السودان لصراعاته الدامية التى سببها البشير والتى لن يستطيع بالطبع حلها اى بديل له من داخل النظام لكن الادارة الامريكية وبعد حرب العراق وحتى الربيع العربى تميل الى التغيير عن طريق ” الازاحة” بدلا عن “الخلع” , اى كمثال النظام اليمنى الاكثر شبها بالوضع السودانى , حيث ينادى جنوب اليمن بالانفصال وله قضايا مختلفة عن بقية البلاد , وايضا علاقة الدولة اليمينة القوية بالادارة الامريكية فى ما يخص الحرب على الارهاب . ومن جانب اخر فان ارتداد النظام السودانى الى المتشددين الاسلاميين ومحاولة تكوين دستور اسلامى فى البلاد , شكل احباطا اخر لمحاولات الانتقال السلس الى دولة تعددية والذى املت فى حدوثه الادارة الامريكية عبر رعايتها لمشروع الدستور الجديد كعامل تغيير للوضع السودانى .
تكاد تكون الابواب اغلقت امام الادارة  للتعاون مع البشير وحكومته , وبالتالى فان خيارات التدخل بشكل اكبر فى الواقع السياسى السودانى وربما التدخل الانسانى مصحوبا بدعم عسكرى ليس بالبعيد , على الرغم من ان الادارة الامريكية فى عام الانتخابات تبدو غير مستعدة للتورط فى حرب من اى نوع ,كما تماطل فى التدخل فى سوريا , الا ان الوضع المهدد لجنوب السودان وامكانية تهور البشير وشنه لحرب جديدة على الجنوب لا تزال واردة , فالبشير الان يعى فرصه القليلة فى النجاة , ولذلك فهو ينوى سلوك مسار القذافى بسياسة “على وعلى اعدائى” . وتململات الاسلاميين داخل الحزب ليست بالبعيدة عن هذه القراءة التى تعى ان البشير سيحرقهم معه , وانه قبل ان يذهب الى جهنم سيوقد النار فى من خلفه .
ان الانتصارات التى حققتها الجبهة الثورية السودانية فى الفترة القليلة الماضية لاتخرج من الحملة المتكاملة عن النظام السودانى داخليا وخارجيا عسكريا وديبلوماسيا . وكما ينهزم البشير وقواته فى ميادين القتال فانهم اكثر انكسارا فى ميادين الديبلوماسية , والتحدى الماثل الان امام قوى الجبهة الثورية على مستويات القيادة السياسية والعسكرية , هو الارتقاء لحجم التحدى وهو تمثيل الخيار الاكثر قوة وشعبية لاعداد مقدرة للشعب السودانى وفتح الحوار مع الادارة الامريكية وغيرها على اسس جديدة اهمها , وضع مصلحة الشعوب المتضررة من هذا النظام فى الاولوليات وحماية البلاد من الخطة المدمرة للسودان وشعوبه التى يتبناها الثور المجروح المشير البشير . وفتح جبهات للعمل الديبلوماسى والسياسى المنظم والذى يقود الى وضع الجبهة ومكوناتها الثورية وتحالافاتها السياسية حيث يصنع مستقبل السودان وعلاقاته مع الدول الكبرى وخاصة امريكا , لطرح رؤية جديدة ومخالفة للرؤية التدميرية القاتمة بقيادة البشير او الانهزامية الخانعة بقيادة المعارضة التقليدية . مع الاخذ فى الاعتبار استعداد الادارة الامريكية حاليا عن مواقفها المذبذبة تحت الضغط المحلى والاهتمام الاكبر بلوبيات الضغط فى موسم الانتخابات وبالتالى تغير اكبر فى مواقف وممارسات الادارة الامريكية تجاه السودان .

http://onawaypost.blogspot.com/
[email protected]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *