محجوب حسين
SEPTEMBER 7, 2014
في الأزمة الوطنية السودانية تبدو النقلات النوعية السياسية التي افرزتها وثيقة «اعلان باريس» تؤشر الى استقرار وحل للغز الازمة سلميا، وبرافعات دولية قد توفر ضمانات مهمة لحكومة المافيات في الخرطوم، من افلات بعضهم من قضايا اجرامية، قصد فتح الباب لتسوية سياسية وطنية برعاية دولية لمحددات الازمة السودانية، وهذا موضوع اخر سوف نتناوله في وقف لاحق حول المحكمة الجنائية وتعقيدات الازمة السودانية، وغايات المجتمع الدولي وما لم تنجزه- اي المحكمة- على مستوى الواقع، حيث لا يوجد جان ولا مقبوض عليه ومن تم حُكمه في قضية القتل العمد في دارفور التي ارتقت لجريمة الابادة.
في هذا الاطار، شهدت العاصمة الاثيويبة اديس ابابا مؤخرا توقيع اتفاقيات ثنائية مع بعض قوى معارضة الداخل والخارج برعاية الوسيط الافريقي/الدولي رئيس جنوب افريقيا السابق ثابومبيكي، يمكن قراءتها من زواية حسن النوايا لبناء فلسفة الحوار باعتبارها الميكانيزم الذي بدأ في الاستقرار، ان لم نقل المعتمد سياسيا لحل الازمة السودانية، وهنا بغض النظر عما توصلت اليه الاطراف والغايات التي تهدف، استوقفني تصريح ادلى به رئيس حركة «الاصلاح الآن» غازي صلاح الدين مستشار الرئيس السوداني السابق، الذي انشق عنه مؤخرا وانضم للحوار الوطني الذي دعا اليه الرئيس السوداني، وهو الحوار الذي عُرف بمجموعة «7+7»، حيث قال وقبل حضوره لاديس ابابا ولقائه بقوى «اعلان باريس» الذي يجمع الجبهة الثورية السودانية وحزب الامة القومي: «ان ذهابهم الى باريس لالتحاق الحركات المسلحة بالحوار الوطني»، وهو حوار الداخل برعاية الرئيس السوداني، الذي سبق الاشارة اليه بمجموعة فريق القدم الواحد الذي سمي بلجنة «الاتصال الوطني» بالحركات، بالكاد ليست لها مصداقية عند الاخر الثوري السوداني، كما ان لها وظيفة ومصلحة قد لا ترتبط جوهريا بالقضايا البنيوية محل الصراع المعلوم في ثنايا الازمة، وهي ازمة وعاء الحكم والاطر التي يحكم بها السودان وبنية السلطة السودانية وممارستها المعرفية.
«نص» التصريح المشار اليه يدخل ضمن نمطية خطاب قوى التمركز المهيمن في قضايا البلاد، بل هو الاطار المعرفي الذي يجب – من وجهة نظرهم- النظر به للاخر المختلف، ما دامت محددات قوى عقل التمركز عند نقطتها السوداء في التاريخ السوداني، ولا تريد ان تتحرك تجاه «عقلانية» مطلوبة في قضايا البلاد، هذه العقلانية حتما سوف تفقدهم الرصيد الثمين الذي تم بناؤه بالتحايل على تناقضات التضاريس السودانية. ان قضايا السودان الان في هذه المرحلة الفاصلة من التاريخ السوداني وانكشاف هذا التاريخ لنفسه وللاخرين، لا مجال فيه للوصاية ولا اي شكل من اشكال القهر الاجتماعي او اللغوي او السلطوي او الديني والسياسي كتابوهات، وبالتالي لا بد ان ينتقي الجميع دلالات خطابه، بل يعمل على غربلته من كم هائل من شوائب ماضوية، مثل مفاهيم «الالحاق» او
«الاندماج»، وهي مفردات نهل منها خطاب التمركز ابان ادارته لازمة الثورة السودانية في دارفور، حيث كان الخطاب السياسي السوداني بين هذه الثنائية، هذا الامر مرفوض، واولى الخطوات التي ينبغي ان تكون وبالضرورة بلورتها تشكيل قطيعة مع «تراث» التعالي السياسوي التمركزي في السودان وشوفينية «الانا» على المستوي الذاتي والثقافي الذي انعكس على السياسي بشكل واضح، من دون ان نسأل عن شرعية حركة «الاصلاح الان» واستفهام المعقول، لماذا لم يتم الاصلاح خلال 23 عاما، هي عمر مشاركة زعيمه من مسار السلطان الذي يؤرخ له من دولة «الاشباح» الى «الدولة «الهجليجية» ويقع الان. وما حدود الاصلاح في ادبيات الحزب الجديد، أهو اصلاح النظام، أم بناء نظام جديد كما يقول المهدي، أم تغيير بنيوي لمنظومة الاستبداد التي تدفع لتغيير معامل القوة في الثقافة والاقصاء والتهميش، وهي معامل السلطة. ايضا تمتد هذه التساؤلات الى مطالبة التيارات التي انشقت عن البشير ماضيا وحديثا او في الطريق الى مساءلة مرجعياتها، هل هي مرجعيات الجبهة الاسلامية القومية نفسها، التي انتقلت الى الدولة ونتائج هذا القفز التي لم تخرج عن القتل العمد والسرقة الموصوفة. اننا في محطة اكتشاف الاخر للاخر، بل التعرف عليه، لا مجال للتماهي ولا التلقين، كما ليست هناك امكانية لمشروع التابع المنفذ للافكار المعدة او في طريقها للاعداد ضمن المطبخ الاستراتيجي للتمركز واعمدته.
في شأن مواز، وكما هو معروف ان قصدنا في الجبهة الثورية وحركة العدل والمساواة السودانية والقوى الموقعة على تفاهمات او اتفاقات مع الجبهة الثورية هو التأسيس لمنبر حوار وطني برعاية دولية واقليمية لحل بنيوي/ جذري للازمة الوطنية، من دون التخلي بشكل نهائي عن الخيار العسكري لاسقاط بنية الديكتاتورية السودانية، في حال عدم التزامها بتنفيذ حسابي دقيق لقرارات الحوار الوطني المرتقب، الا اننا نرى ان هناك تزاحما في المعارضة السودانية التي تختلف درجات معارضتها من حيث المدى والحدود، رغم ان هناك اتفاقا ضمنيا حول تفكيك بنية نظام المافيات المتصارعة في الحكم، هذه المزاحمة ليست ضرورية كما هي واضحة وقد تؤدي الى تمييع هوية القضية السودانية، وهذا ما يتطلب اختصار اللاءات المتصارعة بهوية سياسية واحدة تنبع من الاهداف الوطنية التي فرضت نفسها على الدولة وقوى المجتمع السياسي والقوة المهيمنة عليه، على ضوء واقعية وحتمية الحراك التاريخي الثقافي، الذي يجري في السودان وصراع الحقوق المدنية والسياسية كالذي جرى في امريكا في النصف الثاني من القرن العشرين. وفي فرز اولي نجد ان ما سُمي بالحوار الوطني الداخلي الذي يساوي حاصل جمع السبعة زائدا سبعة هو حوارا بين شركاء الامس فرقاء اليوم، اي بين تنظيم المؤتمر الوطني نفسه الذي انقسم الى شعبي ووطني، فيما الباقي هم للاخراج، ومبتغاه في الاخير اعادة انتاج متجدد لكرسي البشير، بأسس قد تراها القوة المتحاورة مقبولة، على اثر النكسة او قل النكبة التي منيت بها حركة الاسلام السياسي في مصر، فيما قوى «الاجماع الوطني» المعارض ما زالت لم تحسم قراراتها، وتعيش على «مناورة» ليست مرغوبة في هذا المنعطف ما دامت لم تختلف على مستوى المضمون مع قوى «اعلان باريس»، الا من حيث الشكل وبعض التحفظات التي ربما تكون ذاتية. ونرى في هذا السياق وبالعودة الى غازي صلاح الدين، او قل صاحب «الاصلاح الان» وموقعه بالنظر الى شخصيته وتاريخه، باعتباره من مثقفي الحركة الاسلامية السودانية بامتياز- نختلف ونتفق معه – ويشتغل على النصوص والدلالات وتحليلها، مكانه الطبيعي قوى «اعلان باريس» لان موقعه اكثر قوة، ولانه صانع محترف للاستراتيجيات، وقد يشكل قناعات فكرية في الجدل الفكري، ولكن ما تنقصه قوة التأثير والتنفيذ، وآليات التنفيذ في تركيبة سياسية/ اجتماعية معقدة مثل السودان، وشروط امتلاك آلية القوة التنفيذية، ان كان في السلطة او غيرها، تنبني على معايير قد تكون مختلفة لا محل فيها للفكر والرؤى والمنطق كثيرا. يقول الصادق المهدي في مقالة اخيرة له حول «اعلان باريس» لا يمكن لعاقل ان يستخف بالقوى الشعبية، والسياسية والقتالية التى تمثلها الفصائل المنضوية تحت الجبهة الثورية السودانية. انهم يمثلون قوى اجتماعية ذات وزن ثقيل ولا سبيل للقضاء عليهم عسكريا، وكل ادعاءات اجتثاثهم نوايا واهمة».
٭ كاتب سوداني مقيم في لندن
محجوب حسين