السودان : أما حان له الوقت للتوجه نحو افريقيانيته ؟

السودان : أما حان له الوقت للتوجه نحو افريقيانيته ؟
بقلم عثمان نواي 
ان أزمة هوية السودان قتلت بحثا مطولا على مر السنون الستين الماضية وعلقت على مقصلة هذه الأزمة رقاب كثيرة وجرت تحتها دماء لازالت تسيل. وكان لازال السؤال المتداول هو هل السودان عربي ام أفريقي، و هل السودانيون عرب ام أفارقة. في حين أن الواقع كما يبدو لم يكن يتجه نحو الإجابة على هذا السؤال الهوياتي الثقافي السياسي التاريخي لا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجمعي بشكل مرضى لمعظم الشعوب  في السودان على تنوعه. حيث أن ما فرضته أحداث التاريخ كان إجابة واحدة واضحة على سؤال آخر تماما، وهو (من يجب أن يحكم السودان من بين الشعوب السودانية؟). وبالتالي إلى أي  اتجاه سوف تنتمي الدولة وكيف سيتم  تحديد  معايير المواطنة. والإجابة التي أثبتت عمليا خلال 60 عاما من الاستقلال ونصف قرن من الحروب الأهلية كانت في صالح الشعوب التي تتبنى الثقافة العربية والإسلامية. وعلى هواها تمت إدارة السودان كدولة عربية اولا وأفريقية في الخلفية فقط، ربما لتجنب إنكار الجغرافيا التي وضعت هؤلاء العرب في قلب قارة السود حتى ان أهلهم العرب في أرض  الجزيرة العربية اضطروا لتسميتهم ووصفهم بناء على هذا القدر الجغرافي الذي جعلهم سودا وجعل بلادهم تسمى  أرض السودان. 
ولكن بالنظر بعيدا عن الهوية قريبا من السياسية يمكننا أن نفترض أن الآباء المؤسسون للدولة السودانية ما كانوا الا مجموعة من السياسيين البراغماتيين، الذين ما كانوا ينظرون لا الي الهوية ولا الثقافة ولا الاثنية كعامل ارتباط وثيق بالدول العربية، بل إنهم نظروا إلى أفريقيا فوجدوا دولا فقيرة متخلفة تحبو لتخرج من براثن الاستعمار وهي مكبلة بإغلال ماضي اليم من الاستغلال. ولذلك اختار الآباء المؤسسون للدولة السودانية تعريب السودان لكي يلحق بدول أكثر تقدما مثل مصر أو لبنان أو العراق التي كانت أكثر تقدما وتمدنا من دول أفريقية عدة، وشجع على ذلك ظهور البترول الوفير في دول الخليج العربي التي كانت أيضا تحمل بشريات مستقبل غني بالثروة، رغم أن السودان كان أكثر تمدنا وتطورا من كل تلك الدول الخليجية وقت الاستغلال. ولكن لنفترض جدلا أن هذا الفارق التنموي كان دافع الإصرار على أن السودان يحب أن يكون دولة عربية. هذا خيار سياسي اقتصادي قد يكون مبرر مثلما تسعى الان تركيا إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي لكي تستفيد من تطوره، بافتراض (مخل) بالتأكيد لأن انتماء السودان عربيا سيقدم مزايا اقتصادية وتنمية مشابهة للانضمام للاتحاد الأوروبي. لكن هذا الخيار وان كان براغماتيا تماما، ومدفوعا فقط بالشروط  العملية السياسية والاقتصادية، الا يحتاج إلى تقييم بعد 60 عاما من إثباته لفشله الذريع.؟ 
ان التماهي المطلق مع العروبة حتى بفهم المبررات المتعلقة بالمصالح العملية ما  كان يجب أن يلغي حقيقية أن السودان دولة أفريقية بشكل اساسي. وان أفريقية السودان لا تتمثل فقط في المشاركة في مباريات دوري أفريقيا للكرة أو لمحاولة الاستفادة من المساعدات المالية العالمية للدول الأفريقية، بل كان  يجب أن يكون هناك إدراك موازي لمصالح مساوية لتعميق الروابط بجذور السودان الأفريقية داخليا وخارجيا أيضا. لكن للأسف أن حتى المسار المصلحي كان أعمى أحادي ومعطوب بشكل كامل. حيث أن الدول الأفريقية التي كان مؤسسي الدولة المستقلة في السودان ينظرون لها بدونية أصبحت الآن تفوق السودان في كل أشكال النمو الاقتصادي والتطوير الاجتماعي، ناهيك عن التحول الديمقراطي والاستقرار السياسي. 
ان اقرب جاراتنا إثيوبيا التي كان كثير من  السودانيين ولازالوا يحملون للأسف نظرات سلبية تجاهها، أصبحت الآن الدولة الأسرع نمواً على مستوى العالم،ومن أكثر دول القارة الأفريقية جذب للاستثمار، كما انها شهدت منذ نهاية الحرب الأهلية هناك  تبادل سلمي للسلطة بين خمسة رؤساء خلال ال الربع قرن الأخير. هؤلاء الرؤساء آخرهم استقال طوعا في مشهد تاريخي لكي يحل أزمات البلاد التاريخية في السيطرة الاثنية لاقلية الامهرا لحكم البلاد وسلم السلطة لرئيس ينتمي  للاغلبية الاثنية و لكنه ينتمي للاقلية الدينية في البلد في مشهد ديمقراطي فريد. حيث استلم السلطة ابي أحمدي ذو ال 44 عاما من أثنية الارومو الذي يدين بالإسلام. هذا في الوقت الذي تعيد فيه إثيوبيا كتابة تاريخها وتتجاوز حروبها الأهلية فإن رواندا دولة الابادة الجماعية الاسوا في القرن العشرين بعد الهولوكوست، تصبح إحدى أكثر الاقتصادات تطورا في العالم الثالث، حيث خلال ربع قرن تمكنت من استعادة العلاقات الاجتماعية بين الاثنيات المتحاربة في تحدي فريد لتاريخ دموي أليم وتمكنت القيادة هناك من صناعة تنمية وترابط وطني دفن الأحداث الماضية لكنه يقوم بتذكرها كل عام باحتفال  رسمي مهيب حتى لا تنسى الذاكرة الوطنية ما حدث  و لتكريم الضحايا حتى لا تتكرر المأساة مرة أخرى. ويجدر بالذكر  أيضا إضافة حقيقة هامة وهي أن معدل اعمار الرؤساء في أفريقيا الان هو بين الأربعين والستين في حين يزحف قادة شباب بقوة نحو القمة خلال السنوات المقبلة، حيث أن احد أهم أزمات السودان هو هيمنة عقول الشيوخ والكهول. 
في إحدى أكثر الدول فقرا في الموارد الزراعية أصبحت مالي اول منتج للقطن في القارة في حين تتصدر دول مثل تنزانيا و بوتسوانا قائمة الدول الأقل فسادا في العالم عبر مؤسسات وقيادة حكيمة تخلصت نهائيا من هذه الآفات وبنت دولة مؤسسات لا يستطيع الفساد اختراقها. في مقابل هذا المشهد الاقتصادي نرى أن التبادل السلمي  للسلطة والتحول الديمقراطي أصبح هو ديدن الدول الأفريقية جنوب الصحراء من إثيوبيا إلى غانا إلى ليبريا إلى ساحل العاج ونيجيريا وجنوب أفريقيا والجابون، تغير أكثر من 27 رئيس دولة  أفريقية وسلم السلطة سلميا في خلال السنوات الأربع الماضية. ان أفريقيا تشهد صيفا ديمقراطيا تنمويا ساخنا بامتياز، ولا تحتاج إلى ربيع من أي نوع، فشمس أفريقيا تضئ مستقبلا أكثر بريقا من أي توقعات لقادة السودان الأوائل والمثقفين والنخب التي تلتهم الذين أعطوا أفريقيا ظهورهم لا مبالين وتدثروا بخرقة العروبة البالية (المقددة) من كل الاتجاهات. 
ان مشهد الوطن العربي والعروبة الان هي إحدى مظاهر الانهيار الذاتي الأسوأ التي شهدها اي شعب أو مجموعة أثنية في العالم الحديث. حيث أن الرؤية المتعالية للذات والغرق في الأوهام التاريخية التي تجانب الواقع والذي أدى إلى  حالة من الفصام العميق الذي أنشأ أمراض مدمرة لهذه المجتمعات مثل داعش وتنظيم الإخوان المسلمين والسلفية الجهادية والوهابية وغيرها من الأمراض العقلية الذهانية المرتبطة جميعا بوهم العظمة والغرق في الهروب إلى  الخلف احتماءا من تحديات الحاضر خلف قضبان التاريخ البائد. لقد فشلت الدول العربية في اللحاق بالعالم فكريا واستيعاب تحديات الواقع العصري التي تتطلب مواجهة مع أوهام النقاء العرقي والقومي والارتقاء الأخلاقي  عبر قيم العمل والاجتهاد. وبالتالي ارتكنت دول الخليج بعد البترول إلى ذهنية شيوخ القبائل الذين يجلبون العبيد من اسيا وأفريقيا لخدمتهم بينما تغلق النساء في البيوت خلف الخيام المتحركة السوداء المسماة نقابا. أما الدول العربية المبنية علي  الفكر القومي وان كانت ذات ميول يسارية مثل العراق وسوريا فقد غرقت تلك أيضا في أوحال الاستبداد عبر الايمان بوجود قومية عربية تلغي وجود التنوع الثقافي  الكبير والذي ظهر جليا بعد انهيار العراق التي ظهرت فيها ملل كنا نظن انها بادت مثل الاشوريين والازيديين لكنهم كانوا يعيشون كأنهم غير موجودين تحت ديكتاتوريات صدام والأسد. الآن هذه الانفجارات تبيد هذه الدول العربية عن آخرها وتحولها الي خيام بلا أوتاد تسندها تحملها رياح صراعات المصالح الدولية بين روسيا وأمريكا كيفما اتفق الحال في حين تباد الشعوب وتمحي الدول من الخريطة. هذا المشهد العربي المنهار تماما هو ما يقودنا إليه هذا الإصرار الأعمى على اتباع المعسكر المنهار والخاسر والمنحسر. 
لاشك في أن مؤسسي الدولة السودانية الحديثة قد اختاروا المعسكر الخاطئ منذ البداية مهما كانت دوافعهم براغماتية مصلحية أو إذا كانت دوافع أثنية عنصرية. لكن في النهاية ونحن الآن على شفا حفرة من النار، لا يمكن أن ينقذنا منها التوجه نحو العروبة ، بل إن السودان يجب أن يعترف تماما بجذوره وشروط جغرافيته الأفريقية سياسيا وديمغرافيا. ويجب أن يصحح هذا الخلل الهيكلي في توجهات وانتماءات الدولة السودانية. لقد حان الوقت لكي يتعلم السودان من الافارقة من حوله ولقد حان  له الوقت ان يحترم ويعترف بأفريقيته وان يتواضع نخب السودان وساسته وان (يقعدوا في الواطة)  ويستفيدوا من الدروس العملية والجادة التي اتبعها قادة دول أفريقية عديدة لإخراج بلدانهم من أزمات كان بعضها شبيها لحال السودان، مثل ما هو نموذج  رواندا في قدرتها على النهوض بعد الابادة الجماعية لمليون مواطن على يد مواطنين آخرين. وكما هو حال إثيوبيا التي تحمل تاريخ حرب أهلية طويلة أدى للانفصال لجزء منها وهو إريتريا ومن ثم تمكنت الدولة من التواؤم  مع تحديات تعداد السكان المهول وهو مائة مليون مواطن وتوفير موارد والسير قدما نحو دولة ديمقراطية حقيقية حديثة هدفها هو تقديم خدماتها للشعب والحفاظ  على كرامته وانسانيته. إذا كان للسودان أن ينجو من هذه الهاوية فالطريق في النظر إلى افريقيته اولا وإصلاح الخطأ التاريخي في إهمال وتهميش أفريقية السودان. فإذا كانت نخب المركز العروبي التي حكمت سابقا (أخطأت) فإن هذا الخطأ تحول  إلى جريمة الان بعد نصف قرن من التراكم المستمر، لذلك يقع علي عاتق النخب المركزية الحاكمة وخاصة الشباب  إدراك تسارع  الوقت وتصحيح المسار قبل وقوع الكارثة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *