إن أهم حصاد أفرزته أزمة ‘هجليج’ السودانية وتداعياتها أنها أغلقت معها كل الإستفهامات واللولبيات الدائرة حول المشهد السوداني وأدوات الصراع في المجال السياسي الحالي والتي بدأت منذ مجيء الإنقاذ وتمرحلها وفي شرعناتها المتعددة، فضلا عن كونها أرخت وأسست لأهم فصل من فصول الصراع السوداني في ماضيه وراهنه ومستقبله وبشكل كان هو الأكثر وضوحا ودقة منذ تاريخ السودان الحديث وصناعة الأنظمة التي تسمي نفسها ‘وطنية’ أو هي كذلك.
على هذا النحو شكلت أزمة هجليج لدى الهجلجيين من المؤتمر الوطني وهو المسيطر على خزانة العمل السوداني السانحة التاريخية الهامة للإستثمار الداخلي في بورصة القيم السودانية دون أن تتأثر بقواعد الأسهم وحركيتها وكذا العرض والطلب ومن ثم تنتقل إلى تسويق بضاعة ما أسميه بمرتكزات الدولة الهجليجية السودانية الجديدة والتي جاءت على إثر الصراع بين جمهوريتي السودان شمالا وجنوبا في منطقة ‘هجليج’ النفطية. متجاوزة بذلك معطى الفعل الحربي والميداني في موقع الحدث/ الواقعة والذي لم ير فعلا حربيا كما هو مؤكد- إلى توظيف الحدث وصوره على مستوى فائدة خطاب سياسي يتجاوز الأزمة ومحدوديتها إلى ما هو أكبر وأوسع تجاه صياغة الدولة السودانية نفسها وفق جدلية الصراع السوداني وشكل الخلاص الإنقاذي/ الإنتباهي والذي يجب أن يقع ويتم، فكان حدث هجليج محطة مهمة لصياغة مفهوم الدولة السودانية الهجليجية الإنتباهية أكثر من كونها إعتداء خارجيا أو إغتصابا لسيادة السودان وإحتلال أراضيه وفيها كان تحالف المثقف التاريخي حاضرا، والأهم من ذلك سقطت معها مفاهيم الأيدولوجيا لصالح ولاءات وبناءات عصبية وجهوية وبها كانت تتم صناعة الخطاب تحت لبوس الوطن وحدوده وثقافته وجغرافيته وسحناته وبشكل لا أقل- مقلقا بقدر ما هو شجاعا- ليتعرف جمهور الشعوب السودانية على ما هو مرسوم ومعلب قصد أن تتراص الصفوف من جديد للتعاطي مع منهج الصياغة الجديدة بالخنوع أو الإستسلام لها أو مواجهتها أو فرز الأمور معها وبعيدا عنها تجاه تحقيق مصائرها ومصيرها وبشجاعة. هذا دون الإنتقاص من حق الآخرين في تحقيق مشروعها لصالح وعيها كما أرادت أو تريد.
السلطان الهجليجي السوداني
إن المؤكد وفق مرتكزات الدولة الهجليجية السودانية والتي وظفت كل رأسمال الأدب الإسلامي وفتوحاته وغزواته من خلال ‘أئمة وفقهاء ومثقفو’ السلطان الهجليجي الجديد، هذا فضلا عن أدبيات التاريخ الجهوي والعصبي فيما عرف ‘بالنفرة الوطنية’ لأجل صياغة وتثبيت ماعون الدولة الهجليجية في السودان كما يتضح من خلال خطاب التعبئة وبأنواعه المختلفة وهذا معناه إلغاء لكل القيم السياسية ومبادىء الدولة الحديثة التي يتصارع فيها أصحاب المجال من ديمقراطية وحقوق إنسانية وحريات ودستور وعقد إجتماعي وقانون وعدل ومساواة…. إلخ، حيث كلها أصبحت تحصيل حاصل ونوعا من وعي الفراغ كشأن مكونات السودان وتعدديته وبالتالي هنا لا معنى للمعارضة السياسية وتحالفاتها ودعواتها- إن لم تحدد مواقفها من الدولة الهجيلجية وبصرامة – والتي على ما يبدو حتى شرعيتها سوف تصبح مرهونة في إلتزامها بمرتكزات الدولة الهجليجية من عدمها والأخيرة حددت مفهوم الوطن وشعاره وشعبه ومجال الصراع فيه وحدوده وماهية جمهوره وتاريخه وثقافته ودينه وشخوصه وجلباب الوطنية وكيفية إرتدائه كما هو شأن إعتناق الإسلام السني السوداني ‘الهجليجي’ فيه، هذا مع تحديد دائرة الكفر والإرتداد والخيانة ويمتد إلى مداخل التبعية والإنقياد لمن يريد. مع التأكيد أن تأشيرات الخروج النهائية جاهزة وبالجملة في مقابل تأشيرات دخول صارمة لمن هو آهلا لها، وفيها الفحص قد يشمل الحمض النووي.
بذلك الإنقاذ البشيرية والتي تمرحلت في تاريخها من دولة ‘التمكين الجهادية/ الإقتصادية’ الإنقاذية إلى دولة ‘المؤتمر الوطني’ بعد المفاصلة الإسلاموية… إلى الدولة ‘النيفاشية’ ودولة ‘الجمهورية الثانية’، إلى الدولة ‘الهجليجية’ والتي وضعت جدلية الثنائية والضدية السودانية في إختبار حاسم ونهائي ومكشوف ودون مواربة أو خجل أكان إجتماعيا أو سياسيا ما دام طموحا مشروعا للجانبين، دافعة فيها الأغلبية الصامتة للبحث عن شرعية الوجود والإنتماء في تلكم المساحة التي رفضت كل المقاربات ولتؤرخ بذلك على أهم فصل من فصول الصراع السوداني والذي وصل قمته بعد وداع الأيدولوجيا والدين،.. إنها الدولة والسلطان الهجليجيان اللذان يستمدان معرفتهما من الإنتباهة لتحقيق مجتمع الرعايا الحصري، فيها لا مجال للمواطنة حتى بالتجنس لأن شروط إكتسابها لا تتحقق إلا بتغيير بيولوجي سماوي في الجينات، ولإستحالة ذلك يبقى في الأجل المنظور لا خيار أمام الشعوب السودان إلا التحالف تحت أيدولوجيا ظاهرة وباطنة وهي أيدولوجيا إسقاط النظام فقط ودون حمولة ومن ثم فتح الباب السوداني ومساءلته وإنهاء مشروع الدولة الهجليجية والعقل الهجليجي والذي يود تركيب وصناعة هوتو وتوتسي سودانية ما دام السودان فريضته هو أنا ولي وحدي وسوف أكله وحدي.
‘ الكاتب والمستشار الاعلامي لرئيس حركة العدل والمساواة السودانية
القدس العربي