الحوار في زمن الفوضي: اعتقال الأمام حالة تساؤل واستفهام.. بقلم: نجم الدين موسي عبد الكريم

تأسيسا علي ما اسميناه سابقا بمتلازمة اتساع دائرة التناقضات في واقع الحياة السياسية السودانية ومأزومية الموقف السياسي وضيق الفكرة وضبابية الرؤيا لدي روافع التيارات والتنظيمات المعنية بالشأن العام لحل معضلة الحرب والحكم ووضع الأساس المتين في بنيان الدولة الحلم. هناك بعد آخر يمكن رصده وأضافته الي هذه المتلازمة ألا وهو الفوضى التي لازمت نشاط الدولة وسلوك مؤسساتها. وبلوغ تلك التناقضات والتحولات والفوضى منتهاها، ما يدلل علي ضياع هيبة الدولة وفقدانها سيادتها. ويبدو هذا جليا في تمظهرات عدة تأخذ في عموميتها تماهي الحدود بين الرسمي الذي ينظمه ويضبطه القانون والأهلي البدائي الذي تمليه ارادة ورغبة الأشخاص من جانب.وبين حدود سلطة هذا القانون وطغيان نفوذ التنفيذيين بسبب غياب الرقابة الدستورية لتأكيد سيادة حكم القانون من الجانب الآخر. فالفوضى تضرب بأطنابها عندما يختلط الحابل بالنابل.

(1)
فهل ما نراه هو حالة لكسل الدولة وخمولها ام هبوطها وانحطاطها وليس فشلها. ففشل الدولة السودانية مؤكد وثابت ومعلوم، وفقاً للمعايير الدولية. إذ بالإمكان أن تكون الدولة فاشلة ولكنها محتفظة بهيبتها وسيادتها في آن. وبما أن للدول في تاريخها حالات وأوقات صعود وهبوط ولكل أشرا طه وأحكامه. فيمكن للدولة في وضعية الهبوط والانحطاط ان تنهض من جديد ان أرادت، ولكن عليها أن تخلع ردائها القديم وهجر افكارها الرجعية والملتبسة. فبقدر استجابتها للشروط الموضوعية لهذا النهوض والتطور تكون قد أوجدت نفسها في حيز الجغرافيا والتاريخ. تدليلا علي هذا الهبوط أو الانحطاط نقف علي هذه الشواهد:
• الفوضى والعبث الذي تقوم به قوات الجنجويد المسماه قوات الدعم السريع تجملاً، منذ ظهورها للعلن في عمليات الصيف الماضي بجنوب كردفان وما اغترفته من انتهاكات هنالك مروراً بشمال كردفان وما ظلت تقوم به لعقود من الزمان في ولايات دارفور، والدور المرسوم لها في مستقبل الأيام. يقال أن هذه القوات هي التي تصدت لأحداث الاثنين الأسود عقب استشهاد الزعيم جون قرنق وهي المسئولة كذلك عن ردع مظاهرات سبتمبر الفائت. السؤال هنا ليس حجم وطبيعة هذه التجاوزات التي تقوم بها هذه المليشيا في حق المواطنين العزل ولكن السؤال هو كيف يحدث هذا وهناك مؤسسات دولة راسخة لها صفتها القانونية والدستورية للقيام بمهامها التي اعدت لها مهنيا وتقنيا ولوجستيا. فهل السلطة الحاكمة اتخذت قراراً سياديا بتصفية قوات الشعب المسلحة السودانية فوزعت مهامها بين هذه المليشيا وجهاز الأمن الوطني؟ في ظني هذا هو الراجح، وتؤكده تصريحات الفريق عبد الرحيم محمد حسين نفسه في رده علي العدوان الاسرائيلي علي بورتسودان واحتياطات وزارته حين قال ʼالفشل كل يوم يشهد مزيدا من الفشلʻ. ورغم الاعتراف الصريح بالفشل، يحتفظ الوزير بمهامه كوزير للدفاع. ولكن لمصلحة من وأية منفعة من تصفية القوات المسلحة. هل لمصلحة تفكيك الدولة ام لمصلحة فرض وحدتها؟
• معظم ولايات دار فور الآن خارج سلطات الدولة المركزية وخارج سلطة القانون. الجبهة الثورية تقاسم الحكومة النفوذ والسيطرة علي ولايات جنوب وغرب كردفان. حلايب مسكوت عنها رغم خطوات تمصيرها بخطوات متسارعة. اراضي الفشقة الكبري يسيطر عليها وينتفع بزراعتها الاحباش. دعك عن القوات التشادية التي تتحرك داخل حدود السودان بغرض حفظ الامن.
• ملفات الفساد التي راحت تتطاير في الافق وتتناثر هنا وهناك تدلل علي انهيار الخدمة المدنية وتجاوز حدود فساد المسئول الفرد في مصلحة عامة ما، الي الفساد المؤسسي المحروس بإرادة السلطة نفسها.
• وظف السودان نفسه ككرت لخدمة بعض المصالح الدولية لتصفية حسابات ليس للمصلحة العليا السودانية شأن فيها، انما جرت عليه وبالاً كثيراً. كل هذه المؤشرات تدلل علي عدم قدرة الدولة علي فرض هيبتها داخل أراضيها والحفاظ علي حدودها وحمايتها من التدخلات الخارجية بما يعني تأكيد سيادتها علي أراضيها، باعتبار أن السيادة هي المكون الابرز لمفهوم الدولة. وليس هذا فحسب بل تبدو هذه الشواهد صارخة في حضورها للتدليل علي الصعود نحو نفق الانهيار الكامل. وربما جاز لنا عد سلوك مصر في مثلث حلايب والحبشة في الفشقة الكبري بأنه ليس سلوكا احتلاليا بالمعني الحرفي ولكنه محاولة لإخضاع نفوذ الدولة وأضعاف سيادتها الوطنية، تحقيقا لرغبة وطموح تلك الدول أو كرد علي تصرف ما او انتزاعاً لموقف في تقاطع اجندات المصالح الاقليمية والدولية. والنتيجة في كل الحالات واحدة.
حيال هذه الحالة من الفوضى والتحولات الراديكالية في المفاهيم المتعلقة بإدارة دولاب الدولة ومعدل التغييرات الدراماتيكية في المواقف السياسية والسياسات المتتبعة يجنح المرء علي الاعتقاد بأن البشير يستلهم شرعية الاستبداد من أجل تدعيم وتقوية نفوذه وحكمه من كتاب “الأمير” لميكافيللي ولكن علي مفارقة ما في بعض جزيئاته. بحسب ميكافيللي، الحفاظ علي مركزية سلطة الدولة يستلزم توفير عوامل القوة بعيدا عن العاطفة والمعايير الاخلاقية والنظرة الطوباوية. بما أن هدف ميكافيللي الاساسي من “الأمير” هو التخطيط النظري لضبط الانهيار ووقف الانقسام في الدولة الإيطالية لأن الدويلات التي كانت تتكون منها إيطاليا في نهاية القرن الخامس عشر هي نابولي في الجنوب ودولة البابا في روما و وجمهورية فلورنسا ومملكة ميلانو في الشمال يمكن ان تكون سببا في ضياع سيادة الامة الايطالية وذلك نتيجة للتهديدات التي الخارجية التي كانت تمثلها دائما فرنسا واسبانيا. فهل ما تقوم به سلطة البشير الآن يحفظ لها سيادتها ويضمن لها بقاء أقاليم دارفور وكردفان والنيل والأزرق أو السودان نفسه؟ تدليلا آخر علي ميكافيللية البشير هي مفارقته للمشروع “القيمي” الحضاري الذي اتي به للسلطة لبعث قيم السماء في الارض. وإلا كيف نقرأ استشراء الفساد وانفراط عقد منظومة القيم والأخلاق المعهودة كفضائل اجتماعية عليا للشعب السوداني؟. فميكافيللي يرفض دولة اللاهوت والأخلاق والخيال وفي نقده للكنيسة يقول أنها تعلم قيم عالية او متعالية وترسم مجد السماء و لا علاقة لها بمبادئ الارض وهو لا يرغب أي ميكافيللي سوي في مجد الارض.

(2)
اعتقدنا أن براغماتية الأمير قد اوحت للبشير اطلاق مبادرة الحوار الوطني كمخرج يؤمن له علي الاقل نهاية غير كارثية. حتي كدنا نشفق علي مصير شعار المرحلة الداعي الي تغيير النظام المطروح من بعض تيارات المعارضة ومصادرته بهذه المبادرة الفقاعة أو البالون. التي اذا ما خلصت لها النوايا واشتملت علي كل الأطراف وأحسن إعدادها لشكلت اختراقا سياسيا كبيرا. خصوصا عندما تلقفتها بعض القوي المعتبرة لدواعي نفهمها. رغم أن هذه القوي لم تدخل هذه العملية بإعلان لمبادئ أو خارطة طريق أو سقوف معلنة لأجندة الحوار أو اية ضمانات. وليس هنالك خطوات جادة محسوسة أو رغبة بائنة لفتح مسار الحوار ومناقشته مع قوي الاجماع الوطني والجبهة الثورية، لإعطاء المبادرة صفة الشمول. ما يضع شكوكا كثيرة علي صدقية هذا العملية برمتها. فالمبادرة ولدت بتشوهات كثيرة لا تأهلها للنهوض بمعالجة الازمة السودانية. اذ ليس باستطاعة أحد شركاء هذه العملية أن يحدثنا عن ماهية الأهداف الرئيسية والنهائية التي يسعي اليها هذا الحوار. مع ملاحظة الغياب التام لأية رؤية أو مشروع سياسي لأصحاب المبادرة أو شركائها تتقدم به بغرض امكانية تطويره وتسويقه للآخرين ليصبح تيارا عاما تدعمه وتتمسك به الجماهير كمطلبا شعبيا، عدا الذي يقول به السيد الامام عن الكوديسا والنظام الجديد. ولا ندري ما المقصود هنا بالنظام الجديد؟ غير أنه مجرد تعبيرا سياسيا يسترضي النظام بقبول فكرة طريق ثالث يستبعد اتجاه تغيير النظام أو اسقاطه. أم هو المعادل الموضوعي لمشروع السودان الجديد والمخرج من تداعياته باعتباره المشروع السياسي الابرز الذي له حضورا سياسيا غير منكور. أما الكوديسا، فهي تحتاج الي تكييف سياسي وقانوني حتى تماثل الحالة السودانية. علي السيد الامام أن يتطلع بهذه المهمة الشاقة. يعرف الناس أن الكوديسا هي العملية التي أفضت الي النظام السياسي والوضع الدستوري القائم في جنوب أفريقيا الآن. ولكن ربما فات علي الكثيرين تعقيدات وأطوار هذه العملية حتى صادفت هذا النجاح. وثمة حقائق يجب الوقوف عندها هنا. منها أن نظام الفصل العنصري وصل نهاياته الحتمية وتوصل الجميع الي حقيقة البحث عن بديل يقبله الجميع مهما كانت صعوبته. فهل توصلنا نحن الي حقيقة أن دولتنا ببنيتها هذه ونتاج عطاءها وكسبها وصلت الي نهاياتها التاريخية والمحتومة؟ والمطلوب بناء سودان بصيغ دستورية وتعاقدية جديدة مقبولة للجميع؟ فوصولنا الي محطة قبول هذه الحقائق أو الفرضيات، وحده هو الذي سوف ينقلنا الي مرحلة ما يعرف بالحقيقة والمصالحة. ونستطيع القول بأن العدالة الأنتقالية هي بمثابة High threshold لهذه العملية اجمالاً. نعم ليس التقاضي الجنائي الشامل اجرائيا والمتبوع بالقصاص نفاذاً، ولكن ربما، هي الحق المطلق الذي لا تنازل عنه، الا في مقابل الاستجابة الكاملة لشروط الانتقال والبناء والتأسيس. أي الضمانة الوحيدة لتحقيق الأنتقال الي الدولة العصرية بلا أية مساوية أو انحياز لتحقيق مصلحة لتيار سياسي أو ايديولوجي أو إقليم أو ثقافة بعينها مهما كانت طموحات ورجاءات المجموعة أو المجموعات المنتمية لتلك الثقافة أو الإقليم أو التيار الايديولوجي.
ولكن مع ذلك لم يمضي وقتا كثيرا حتي نقض المؤتمر الوطني غزله بنفسه، بضيقه من تصريحات شريكه الاساسي في ماراثون الحوار الأمام الصادق المهدي بتناوله لظاهرة قوات الجنجويد المسماة بالدعم السريع. وباعتقاله تباينت وجهات النظر حول التحول الدراماتيكي للموقف الرسمي تجاه السيد الصادق المهدي. قال هو معلقا علي استجوابه في ذات الموضوع من قبل سلطات جهاز الأمن، بأنه يرجح واحدا من أثنين: اما أن هناك تيارا داخل الحزب الحاكم يريد نسف فكرة الحوار من اساسها لأنه الدينمو المحرك لهذا الاتجاه. أو لأن الذي قال به، صادر من جهة ذات مصداقية عاليه ولذلك ربما أرادوا “دق القراف عشان الجمال تخاف” . ولكن من مراقبة ردود الأفعال هنا وهناك ربما ذهبت التكهنات بأن الحزب الحاكم ربما امتص غضبة حزب السيد الامام وشركاء الحوار بأن هذا الاجراء احترازيا لضمان سلامة الامام من تعرض هذه القوات له بسبب هذه التصريحات، مرضيا بذلك كل الأطراف. وإلا كيف تجرأ النظام بالأقدام علي مثل هذه الخطوة؟ ألا يعري اهتماما للخطوات التي مشاها بشراكة السيد الامام في الأعداد لمسار الحوار؟ وهل لا يعبأ بردة فعل أنصار الحزب والطائفة وكذلك المعارضة خوفا من استثمارها لهذا الحدث في اتجاه إسقاط النظام بدلا من التفاوض معه؟ الا يعبأ النظام بالرأي الإقليمي والدولي الذي يتابع التطورات في السودان والإقليم ككل؟ ولكن تحليلات أخري ذهبت الي:
• انها تمثيلية – خصوصا وهو المؤسس لفكرة المليشيات الغير نظامية “قوات المراحيل” – اذ يرونها استحقاق يدفعه النظام للإمام مقابل مواقفه المهادنة للنظام لترميم علاقته الهشة والمأزومة مع قواعد حزبه التاريخية في دارفور. اذ أنه يبدو نصيرا للبشير علي حساب ضحاياه في دارفور، حين قال ” البشير جلدنا وما بنجر فيه الشوك”. بالإضافة الي تصريحاته القاسية في حق قوات العدل والمساواة حين دخلت العاصمة القومية من بوابة امدرمان، والتي تأذي بسببها أبرياء كثر حين اتخذها النظام غطاءاً لتبرير وحشيته تجاه منسوبي العدل والمساواة وحتي الذين اخذوهم بشبهة السحنة واللكنة.
• رأي آخرون أن النظام يريد ابرازه كشخصية موضوعية تتمتع بالاتزان في اصدار الأحكام فانه كما ينتقد الجبهة الثورية ينتقد مليشيات الجنجويد. عموما يمكن قبول هذه الحزمة من التكهنات لو سلمنا بفكرة أن النظام ينظر الي الامام كحليف استراتيجي حقيقي يعول عليه في هندسة المرحلة القادمة وكشريك اساسي فيها. رأي آخر في الاتجاه المعاكس ذهب الي ان ظهور الترابي في المشهد السياسي والترويج بأن مهام المرحلة القادمة ستوكل اليه لمراجعة أخطاء وآثار التجربة الشائهة وتجميع شتات التنظيمات الاسلامية التي تعاني عزلا سياسيا واسع النطاق ربما دفع بالإمام لمثل هذه التصريحات. اذ أن السيد الأمام طارحا نفسه كرجل الانتقال السلس وربما المرحلة ألانتقالية فظهور الترابي ربما أدي الي أضعاف هذا الاحتمال لعدة اعتبارات بما فيها عملية خلط الاوراق التي يمكن يلعبها دكتور الترابي فتطيح بأحلام الرجل خصوصا لما بين الاثنين من “كيمياء”. وما يزيد الامر حيرة تصريحات السيد الامام من داخل معتقله مؤكدا أنه مع عملية الحوار؟!
• قد تتباين وجهات نظر الرأي العام تجاه عملية اعتقال الأمام تحديدا وهمته العالية ونشاطه السياسي عموما، ولكن فلما الشكوك في دوافع توجهات وصدقية ما يقوم به الرجل رغم أنه الآن رهن الاعتقال. فللرجل كسبه الشخصي الذي يؤهله ليس فقط ليملأ أوعية وشرايين الحزب والكيان بكفاءة بل أن يملأ الدنيا ويشغل الناس. فهو الذي ينتج لحزبه الافكار ويرسم السياسات ويطرح المبادرات.وأظنه قد كرس جهداً مقدراً لإحداث تغييرات حقيقة عل هياكل ومؤسسات ونظم وطبيعة نشاطات الحزب في تأكيد لما كان يقول به حال عودته من بريطانيا ‘I want to modernize my party’. وكنا نراقب بإعجاب شديد خطاباته الدورية للحكومة المنتخبة وكنا ونتوقف ونتأمل ونفاخر بهذه العبارة التي كان يرددها في كل خطاب دورة أمام البرلمان “لقد حققنا قدرا عاليا من الديمقراطية”، ويردفها بشواهد من أداء حكومته. لعمرى هذه عبارة معيارية وعالية في المثال ولا أظن أن حكومات وبرلمانات القارة شمالها وجنوب الصحراء كانت مهمومة بمثل هذه الانشغالات في ذلك الوقت من الزمان. ولكن مع ذلك وفي رأي الكثيرين بما في ذلك أنصاره، أن ذلك لا يرفعه لدرجة المقدس الذي لا يأتي الباطل من بين يديه. ويرون أن هنالك ظواهر مشهودة ومرصودة وتثير أسئلة مشروعة لكل مراقب ومحلل سياسي أو مهتم بالشأن العام والتي من شأنها اثارة هذا الغبار الكثيف من الشكوك حول صدقية الرجل ومن ذلك:
• تجربة المصالح الوطنية مع نظام النميري 1977 التي لا علاقة لها بأهداف ومانفستو الحركة الوطنية. بالاضافة الي تجربة وموقف السيد الصادق وحزبه بالطبع من التجمع الوطني الديمقراطي، وأخيراً الموقف من قوي الاجماع الوطني والجبهة الثورية. هذا في شأن القضايا الوطنية الكبري التي يرون أن هذه المواقف قد أسهمت في اضعاف التيار العام أو الزخم المتصاعد ‘momentum’ ضد الأنظمة الشمولية.
•أما علي مستوي قيادة الحزب، علي الرغم من أنه كثير القول بأن انصاره يصفونه بأنه “ديمقراطيا أكثر من اللازم”. ولكن يبدو أنه استطاع تأسيس حزبه تأسيسا هيكلياً ومؤسسياً جيداً، بحيث تتيح له اللوائح والنظم الداخلية والولاءات ذات الطابع الطائفي والعقائدي من تمرير رؤيته الخاصة ‘in legislative terms’ اذ أنه في ذات الوقت زعيم وإمام طائفة الانصار. مستفيدا من العرف الموروث‘sectarian convention’ في طاعة الامام وعدم المروق عن خطه العام (الحوار والشيخ). فيري انصاره الذين لا يتفقون مع طريقته في أدارة الحزب، أنه يمارس ديكتاتورية ممنهجة. بمعني آخر ديكتاتورية انتخابية ‘elective dictatorship’ بالقدرة علي استخدام شخصيات مفتاحيه ولجان تنظيمية داخل الهياكل لتمرير ما يطرحه من سياسات ومبادرات. وأكثر من ذلك قدرته علي التعيين للمواقع المختلفة وتمريره بعدئذ بطريقة ديمقراطية عبر الهياكل والمؤسسات وبذات الآلية نفسها ترصد الاتجاهات المعاكسة لتوجهاته التي ربما كلفت صاحبها ثمناً تنظيمياً باهظاً، من قبيل “الباب يفوت جمل”. ويدلل كبار قادة حزبه علي ذلك بأن معظم خلافات الزعامات التقليدية، كدكتور مادبو وبكري عديل و مبارك الفاضل وأخيرا دكتور ابراهيم الأمين هي خلافات مع الامام شخصياً. هذه الوضعية تتيح للسيد الامام قدرا من فرض ظلال شخصيته وأسلوبه الخاص علي الحزب ككل ‘leadership style’ لذلك يبدو أن الحزب هو السيد الصادق والسيد الصادق هو الحزب. قوله للسيد مبارك الفاضل عقب عودته الاخيرة “أعمل ليك حزب براك” ؟! قطعا هذا تصرفا مجحفاً وقاسياً وليس لائحياً ولا مؤسسيا او دستورياً كذلك.
• بعد آخر يلحظه المراقب كمظاهر التوريث وصعود دور الابناء بالحزب التي تبدو بائنة. وذلك علي حساب الأسرة المهدوية الممتدة والتحالف التاريخي المكون للحزب من الزعامات والنظارات القبلية والجهوية وكذلك علي حساب الكادر التنظيمي. وهذا قطعا يعد انتكاسة كبيرة لما كان يبشر به من تجديد وتحديث للحزب.كما ان مصداقية مواقفه من وتصريحاته تجاه الحزب الحاكم تجرحها ارتباط وعلاقة ابنائه بالقصر والأجهزة الامنية.
اختلف الناس أو اتفقوا حول شخصية السيد الامام فأنه رمز وطني كبير ذو اجتهادات فكرية ووطنية عديدة. أخطأ أو أصاب فأن معينه لا ينضب فهو يتجدد بالفكرة والمبادرة والنشاط. ولو قدر للرجل أن يكون بعيدا من الهياكل التنظيمية والطائفية من أزمان مضت ومتعاطياً مع الشأن العام كشخصية وطنية لا حزبية، لأهلته قدراته الشخصية وارثه التاريخي أن يكون الزعيم الوطني الذي يجمع عليه للعبور بأمته في مثل هذه الحالة التي يمر بها السودان الآن. كيف لا والرجل يشغل في آن دوائر النظام وأجهزته الأمنية، و المعارضة بشقيها المدني والمسلح وتيارات داخل حزبه كذلك. فهل الرجل شخصية يكثر الجدل حولها ‘controversial’ أم ظاهرة أي ‘phenomenon’ أم حرفي سياسي بارع يحاول المزاوجة المستحيلة بين الولاء الطائفي التقليدي والعمل السياسي الديمقراطي الليبرالي الحر. وعلي كل نلاخظ أن كلمة “حكيم” أضحت واحدة من مفرداته المكرورة، فيا تري هي الصفة التي يريد أن يراه بها الناس؟

[email protected]

نجم الدين موسي عبد الكريم
نائب الامين السياسي للعدل والمساواة السودانية
لندن 03 يوليو2014

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *