بسم الله الرحمّن الرحيّم
الحقُ منصورٌ
مَرت دارفور فى الثمانينيات من القرن الماضى بظروف سيئة جداً ، تمثلت فى إنفراط عِقد الأمن نتيجة للظروف الطبيعية التى شهدتها الإقليم وغياب الدولة تماماً عن الساحة الدارفورية ، فتردت الخدمات الضرورية وبدأ العد التناذلى للمشروعات الحيوية التى تلعب دوراً كبيراً فى حياة المواطنيين ، كالتعليم ، الصحة ، الكهرباء والماء فى المدن الكبيرة وغيرها ………. فإضطر مُعظم الرجال للهجرة من الريف للمُدن أو إلى مناطق الإنتاج فى وسط السودان بما فيها العاصمة الخرطوم ، للبحث عن العمل .
فى هذه الاثناء ظهرت بوادر النهب المُسلح من أجل الكسب المادى ، حتى أصبح وكأنه حِرفة شريفة يتغنى بها الحكامات فى الحفلات العامة والخاصة ، مما أثر ذلك فى سلوك الشباب العاطل اللذين أصبحوا يسعون للحصول على المال من أجل تأمين مُستقبلهم ، وهذا لا يكلفهم جهداً كبيراً سوى الحصول على الكلاش والوقوف لساعات قليلة فى الطرق التى تربط مدن دارفور ببعضها البعض بدلاً من الإغتراب ( وبهدلته ) .
زاد الوضع سُوءاً عندما إستولت الإنقاذ على السُلطة غصباً ، حتى أصبح الإقليم وكأنه ليس جزءاًمن السودان نسبة لتخلى الدولة عن مسؤليتها فيه وحملّت المواطن أعباء توفير الأمن والخدمات لنفسه وخير شاهد على ذلك الاموال التى جمعها أهل دارفور لتشييد طريق الإنقاذ الغربى لكنها ذهبت إلى جيوب المُفسدين ، فإضطرت بعض القبائل لتسليح نفسها من الاموال التى تحصل عليها من إشتراكات أبنائها فى الداخل والخارج ( صندوق القبيلة ) .
ساد الفوضى فى كل شبرٍ من الإقليم وبدات الحروب القبلية وبالذات فى مناطق قبيلة الفور التى أصبحت الأكثر إستهدافاً لأنها شهدت عُدت حروب مُتتالية فى أقل من عشرة سنوات راح ضحيتها الالاف من الشباب الواعد ، بالرغم من المُصالحات الجوفاء التى أدت إلى سحب الحكومة لأسلحة الفور مع إبقاء أسلحة بعض القبائل المُتحالفة معها ، الامر الذى زاد من سُوء الوضع الامنى حتى عجزت الحكومة السودانية من السيطرة على الوضع فيما بعد فإنطبق عليها المثل القائل ( تِسوى بإيدك يغلب أجاويدك ) .
بالرغم من بُعد المسافة ما بين السودان وكندا حيث اُقيم ، إلا أننى كنت مُراقب عن كثب لهذا الوضع المتدهور فى دارفور ، ونقرأ التقارير السيئة التى تصدر فى حق السودان نتيجة للتدهور المُريع فى حقوق الانسان والحروب الدائرة فى الشرق وجنوب السودان تزداد إشتعالاً ، حتى أصبح السودان بلداً طارداً لابنائه فتوزع السودانيون فى كل أنحاء العالم هرباً من جبروت الإنقاذ وشرها .
إستمر هذا الوضع المُتدهور لدارفور فى كل مناحى الحياة ، حتى أوائل العام 2003 م موعد تفجر الثورة فى دارفور ، نسبة لغياب الامن ، تعسر العملية التنموية ، إنعدام العدالة فى كل شىء ، لا مساواة فى الحقوق والواجبات ، فاصبح السودان بلداً لفئة معينة من الشعب لا يسع الجميع .
رغم هذه الاسباب المنطقية التى رفعتها الثورة وقاتلت من أجل تحقيقها ، إلا أن رجال الإنقاذ قابلوها بنكرانٍ شديد بدلاً من السعى لحلها حلاً جاداً يُجنب البلاد والعباد مخاطر الحروب وويلاتها ، فبداوا يكيلون الشتائم والسباب لاهل دارفور إستخفافاً بهم لأنهم تمادوا فى ظُلم المُهمشين لأكثر من ستة عقود من الزمان .
تعاملت الإنقاذ مع الثورة فى دارفور بطريقة عنيفة جداً لم يشهدها السودان من قبل ، وجمعت المليشيات من الجنجويد وقدمت لهم المال والسلاح من اجل قتل وحرق قرى الفور ، الزغاوة والمساليت إنتقاماً منهم لان أبنائهم هم اللذين فجروا الثورة فى دارفور .
وجد الجنجويد ضالتهم فى الحكومة فعاسوا فى الارض فساداً ، وإرتكبوا جرائماً أعاذ منها الشيطان ، مُخلفين ورائهم خراباً ودماراً لم تشهده البشرية من قبل ، فاصبح مواطن دارفور ما بين نازح ولاجىء فى الجوار الاقليمى او بعيدً فى دول المِهجر .
لعب المُجتمع الدولى دوراً كبيراً فى تهدئة الاوضاع فى دارفور ، وجاءت المنظمات العالمية من أجل إغاثة النازحين ، فأقامت المعسكرات فى كل أنحاء دارفور ، وضَغطت على الحكومة والحركات المسلحة من أجل الجلوس فى طاولة المفاوضات لوقف نزيف العنف الدائر فى الاقليم .
بوساطة دولية وأفريقية فى ابوجا عاصمة الصديقة نيجيريا ( جزاهم الله الف خير ) وقع منى أركو مناوى إتفاقية سلام دارفور فى مايو 2005 م ، وإستمرت لخمسة سنوات لم تاتى بشىء من السلام وماتت مِيتة البطل فى فيلمٍ هندى ، بالرغم من أن البطل لا يموت فى الافلام الهندية .
صَدق الدكتور خليل إبراهيم محمد الذى أكد فى مُؤتمر المُهمشين بألمانيا قائلاً ( بان المركز ليس له أدنى إستعداد لدفع إستحقاقات المُهمشين فلابد ان تُؤخذ بالقوة وهذا يحتاج منا صبراً ونكراناً للذات ) فمنذ ذلك اليوم حدثنى ضميرى بأن هذا الرجل هو رجل المرحلة القادمة .
ظللتُ مُتابعاً لكل التقلبات والمُنعطفات التى مرت بها المُقاومة فى دارفور ، إلا أننى وجدتُ الدكتور خليل إبراهيم جُندياً صامداً مُتوسطاً جيشه ياكل ما ياكلون ويشرب ما يشربون مُخلصاً ووفياً لمبادئه ، رغم كل الإغراءات التى قُدمت له فهذا زادنا تمسكاً بحركة العدل والمُساواة التى نتعامل معها من البعد .
فى عام 2009 م قررت الذهاب للميدان للقاء هذا الرجل الصامد الذى ضحى بكل شىء ووهب حياته للمُهمشين فى السودان على إختلاف تعددهم الإثنى ، الدينى والثقافى ، باحثاً عن وطن يسع الجميع يسوده العدل والمُساواة ، فسافرتُ من كندا إلى أنجمينا التى حللتُ بها ضيفاً فى إستراحة خاصة بالحركة وبعد ثلاثة أيام غادرناها قاصدين مقر تواجد دكتور خليل إبراهيم محمد الذى وصلناه بعد يومين فى منطقة وادى هور بشمال دارفور.
حللتُ ضيفاً على أمانة شئون الرئاسة التى يرأسها الاخ الرفيق الباشمهندس منصور أرباب ، وكنت مُستغرباً من المكان فسالت نفسى ( هل يُعقل ان يكون دكتور خليل إبراهيم مُتواجداً فى هذا المكان الوعر ) فاصبتُ بالدهشة والإستغراب .
أصبحتُ محط حفاوة بالغة بالنسبة للمُقاتلين اللذين يحضرون باعداد كبيرة ووجوههم بشوشة وكأنهم فى مكان فخم ، ففى اليوم المُحدد للقاء الدكتور أخطرنى الاخ منصور بان الدكتور جاهزاً لإستقبالى فى مكتبه ، ذهبنا إليه ووجدناه جالساً على الارض مع بعض من أعضاء المكتب التنفيذى للحركة فوقف وسلّم علىّ سلاماً لم أشهده قريباً فسرعان ما أشهجت فى البُكاء ، واننى كنت مُندهشاً ، لانى قادم من كندا من اجمل بلاد الدنيا ، لم أتصور بان دكتور خليل إبراهيم يكون مكتبه تحت الشجرة ، طلب منى الجلوس وقدم لى الماء وأوصى بالشاى ، شرح لى الاسباب التى من اجلها تفجرت الثورة وتعنت حكومة الخرطوم وإصرارها على عدم حل قضية السودان فى دارفور تُنهى الأزمة من جذورها ، لهذه الاسباب نحن موجودون فى هذا المكان ، شكرنى على المجهودات التى نقوم بها فى مكتب الحركة بكندا وحيا جميع السودانيين المُتواجدين فى كندا اللذين شردتهم الإنقاذ .
صادف وجودى هنا إنضمامات واسعة جداً لحركة العدل والمساواة السودانية ، فهى بحق وحقيقة السودان الجامع لانى وجدت بها كل أبناء السودان ، من الشرق ، الغرب ، الشمال والجنوب ، يجسدون وحدة حقيقية دون تكلف ، لا يوجد بينهم مُنافق ، كل شىء فى هذا المكان جميلاً ، يخدمون أنفسهم بأنفسهم ولا أنسى ( عصيدة الدُخن ومُلاح اُم تلاتة وابوكلتومة ) وحاج وهم طائرة الانتنوف التى تُصبحنا وتُمسينا يومياً .
أصبحت جندياً من الجيش حيث تم تسليحى ببندقية كلاشنكوف ، اتنقل مع الجيش من مكان الى آخر ، مررت بمناطق عديدة فى شمال دارفور وشاركتُ فى المعارك التى دارت فى كلٍ من كرنوى ، اُم برو وفوراوية بالاضافة للإجتماع الشهير الذى تم بأنجمينا بين الحركة والمبعوث الامريكى : السيد إسكوت قريشن .
إمتدت زيارتى لثلاثة أشهر بالرغم من إنى كنتُ مُحددها بشهرٍ واحد ، وهى بحق من اجمل الايام فى حياتى قابلت فيها الرفاق اللذين كنت أتواصل معهم من خلال الحديث فى التلفون ، رايتُ فيها الاخ الجليل الدكتور خليل إبراهيم محمد ، السودانى الاصيل الذى تجسدت السودانية فى دمائه ، له الرحمة والمغفرة وإننا على دربه لسائرون لأنه على حق ، والحقُ منصورٌ بإذن الله ما دام الكفاح الثورى مُستمر .
عبد الرازق محمد عبد المولى
كندا – أونتاريو
Email : [email protected]
Tel : +15199819170